أفكار وآراء

«جمارك» ترامب.. وصفقات العم سام المستقبلية

04 سبتمبر 2018
04 سبتمبر 2018

مروى محمد إبراهيم -

«على الرغم من السياسات التجارية السيئة لبعض الدول، إلا أن التجارة الحرة هي الداعم الأكبر لاقتصادنا وأمننا القومي»..تغريدة علق بها بول رايان رئيس مجلس النواب الأمريكي على الحرب التجارية العنيفة التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب بداية العام الحالي، التي بدأت بفرض تعريفات جمركية إضافية على واردات الحديد والألومنيوم بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارات، ودخلت حيز التنفيذ الشهر الماضي، وكان أول المتضررين منها هم حلفاؤه في أوروبا وكندا. لتتحول تعريفات ترامب الجمركية من إجراءات حمائية لتحفيز الاقتصاد، ودعم المنتج المحلي، إلى حرب شعواء وتشوه غير مسبوق في العلاقات بين أمريكا وحلفائها التقليديين.

منذ بداية الأزمة، حذر جون كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية من أنه «لا يوجد رابحون، ولكن هناك ضحايا فقط». ويبدو أن هذا كان الدافع الرئيسي وراء اللقاء الاستثنائي بين ترامب ويونكر في البيت الأبيض والذي تعهدا خلاله بمحاولة التوصل إلى اتفاق «صفر تعريفات»، وعلى الرغم من حسن النوايا التي بادر بها المسؤول الأوروبي إلا أن ترامب لم يقابله بالمثل. وهو ما أصاب البورصات الأمريكية والأوروبية ، بل والمصانع أيضا، بحالة من الذعر حتى قبل الشروع في تطبيق التعريفات التي تجاوزت 25% على السيارات. كما أن معدلات الإنتاج انخفضت خاصة مع لجوء بعض الشركات الكبرى إلى الفرار من أمريكا مثل شركة «هارلي ديفيدسون» الشهيرة في عالم الدراجات البخارية ، التي بدأت بالفعل في إغلاق مصانعها داخل الولايات المتحدة.

فزيادة التعريفات الجمركية على العديد من الواردات الأمريكية ، وعلى رأسها الحديد والصلب والألومنيوم، سيساهم إلى حد كبير في رواج المنتج المحلي الأمريكي. لكنه أيضا سيضاعف أسعار المواد الخام التي تدخل في تصنيع العديد من المنتجات، خاصة وأن الانتاج الأمريكي من الحديد والألومنيوم على سبيل المثال، لن يغطي حاجة المصانع المحلية. وبالتالي فإنها ستضطر إلى استيراد هذه المواد وفقا للتعريفات الجمركية الجديدة، وهو ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى مضاعفة سعر المنتج النهائي وإثقال كاهل المستهلك بأعباء مالية إضافية هو في غنى عنها. وبالتالي، فإن هذه الزيادة في الجمارك الإضافية جاءت بآثار عكسية حتى الآن سواء على المصانع أو المستهلكين.

المراقبون أكدوا أن أمريكا هي الخاسر الأكبر من التعريفات الجمركية التي استحدثها ترامب، فوفقا للإحصاءات الأوروبية فإن الميزان يرجح كفة الولايات المتحدة، حيث بلغت أرباح الشركات الأمريكية في الاتحاد الأوروبي حوالي 720 مليار دولار خلال عام 2016. وهو أضعاف الأرباح التي جنتها الشركات الأوروبية داخل الولايات المتحدة، التي بلغت 584 مليار دولار . فالتقارير تؤكد أن الأوروبيين ينفقون أكثر على الأبحاث والدراسات داخل أمريكا، أكثر مما يفعل الأمريكيون في أوروبا، والأرقام تشير إلى أن الإنفاق الأوروبي على الأبحاث بلغ 41 مليار دولار، وإنفاق أمريكا نحو 31 مليار دولار على الأبحاث داخل دول الاتحاد خلال عام 2015. ووفقا لهذه الأرقام، فإن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من العلاقة . أما المفاجأة الكبرى ، فهي أن 60٪ تقريبًا من واردات الولايات المتحدة من الاتحاد الأوروبي هي «جهات ذات صلة» ، مما يعني أن السلع يتم إنتاجها من قِبل الشركات الأمريكية المتمركزة في أوروبا يتم تصديرها إلى الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن الإجراءات الأمريكية أو «تعريفات ترامب» ألحقت أضرارا كبيرة بالشركات الأمريكية بالخارج.

والطريف في الأمر، أن الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه ترامب نفسه لا يحبذ هذه السياسات الجمركية الجديدة، التي لا تلقى شعبية كبيرة في الأوساط السياسية الأمريكية.

السؤال الآن، هل يدرك ترامب أبعاد الأزمة التي خلقتها إجراءاته «التحفيزية» سواء فيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكي أو العالمي؟ .. كرجل أعمال نجح في جمع ثروة ضخمة تقدر بالمليارات ، فلابد وأنه يدرك إلى حد كبير أبعاد ما لسياساته. وبالتالي، فإن هذا يرجح احتمال أنه عاد ليفكر مرة أخرى كرجل أعمال يبحث عن صفقة كبرى يكون هو الرابح الأكبر فيها. وهذا بالتحديد ما يفعله.

فبعد الحملة العنيفة التي شنها ضد أوروبا، جاء لقاؤه مع «يونكر» ليؤكد على رغبته في التوصل إلى صفقة جديدة أبدى خلالها استعداده للتراجع عن تعريفاته الجمركية المثيرة للجدل، مقابل الحصول على تنازلات أوروبية، وأيضا حرص على تأكيد رغبته في إجراء إصلاحات جذرية في منظمة التجارة العالمية، فيما بدا كما لو كان بندا إضافيا لضمان المصالح الأمريكية في المستقبل، حتى أنه استغل فكرة فرض تعريفات مضاعفة على السيارات الأوروبية وتحديدا الألمانية- أو حتى منعها تماما من دخول أمريكا- كسلاح تفاوضي حاسم. وعلى الرغم من عدم توصل يونكر وترامب إلى اتفاق حاسم خلال اللقاء، إلا أنهما وضعا الخطوط الرئيسية والأسس لتوافق مستقبلي محتمل.

أما فيما يتعلق بالملف الكندي ، فعلى الرغم من التوتر الذي تشهده العلاقات الكندية- الأمريكية، خاصة في أعقاب قمة مجموعة الدول الصناعية الكبرى «مجموعة السبع» قبل أشهر قليلة، إلا أن ترامب لم يصل إلى حد التخلي نهائيا عن اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الشمالية والمعروف باسم «نافتا» الذي يضم كلا من كندا والولايات المتحدة والمكسيك. فمنذ صعوده إلى السلطة، وترامب يهدد بالانسحاب نهائيا من الاتفاق الذي من شأنه تحويل أمريكا الشمالية إلى أكبر سوق عالمية . وخلال رحلة البحث عن طريق للعودة إلى طاولة المفاوضات، أثار الرئيس الأمريكي أزمة التعريفات الجمركية الإضافية على الواردات الكندية والتي هددت كندا – مثلما فعلت أوروبا- بالرد عليها بتعريفات انتقامية هي الأخرى. وتبادل الجانبان الاتهامات، وهو ما تزامن مع تأكيد ترامب المستمر على فشل الاتفاق ورغبة المكسيك في الانسحاب منه، وهو ما سيدفعه هو الآخر للانسحاب منها، فيما اعتبره القرار الأفضل بالنسبة لأمريكا. وفي الوقت الذي واصل فيه الرئيس الأمريكي تصريحاته العدائية تجاه دول الجوار، إلا أن المفاوضين من الدول الثلاث بدأووا بالفعل جلسات تمهيدية في مونتريال بكندا، ستليها جولة من الاجتماعات في مكسيكو سيتي استعدادا لبدء المفاوضات الرسمية، حتى أن وزير الاقتصاد المكسيكي ايلدوفنسو جواجادرو أكد أنهم بدأوا في مناقشة بنود حيوية، واقتربوا من التوصل لاتفاق في مجال الاتصالات والتجارة الرقمية، وهو نفس ما أكده أنتونيو جارتسا السفير الأمريكي السابق في المكسيك الذي أشار إلى أن المفاوضات أصبحت بناءة وتتطور باستمرار. وهو ما يدفعنا للتفكير مرة أخرى فيما إذا كان الرئيس الأمريكي يستخدم التعرفات الجمركية الإضافية كوسيلة للضغط على كندا للقبول بتقديم تنازلات لأمريكا في الاتفاق التجاري الهام بينهما، خاصة وأن كندا تعتبر الولايات المتحدة أكبر وأقرب سوق تجاري بالنسبة لها وفكرة التخلي عنه أو استبداله أمر مستحيل بالنسبة لها. وهو ربما ما يجعلها فريسة سهلة لأمريكا.

إن العالم يشهد فترة من التحولات غير التقليدية في عهد ترامب، خاصة وأنه لا يمل ولا يتردد في إطلاق تصريحات نارية وفرض سياسات مثيرة للجدل، ثم التراجع عنها بكل سهولة. ويبدو أن التعرفات الجمركية التي أطلقت الشرارة لحرب تجارية عالمية هي مجرد حلقة جديدة من تلاعبات ترامب، بهدف إنجاز صفقاته التجارية وتحقيق مكاسب كبرى لم يكن ليتوصل لها بالطرق التقليدية. فرجل الأعمال المحنك غالبا ما يتفوق على السياسي المبتدئ فيما يتعلق بالاقتصاد والأمور التجارية، فهل يفلح ترامب هذه المرة وهل يحقق المكاسب التي يصبو إليها؟ الأيام المقبلة لابد وأن تحمل الإجابة عن هذه التساؤلات.