Tunis-New
Tunis-New
أعمدة

تواصل: ابتسم قبل الدفن !

04 سبتمبر 2018
04 سبتمبر 2018

تونس المحروقية -

hlaa202020 @ -

مشهد أول :

يحضر مراسم دفن شخص قد يكون مهماً في مدينته، أو دولته، يذهب هو للمقبرة مع جموع البشر المتوجهين لأداء واجب مرافقة الميت لمثواه الأخير، لكنه لا يكتفي بذلك فقط بل يلتقط صوراً وربما فيديوهات لمشاهد من الدفن وتجمع الناس عن بعد وفي اسوأ الأحوال عن قرب ويقول أو يكتب على ما ينشره في حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي: “سبحان الله، ما أكثر من جاءوا لوداع فلان !، الله يرحمه “وكأن التوثيق في غير موضعه يسدي خدمة جليلة للشخص المتوفى ! يبدأ بعدها في ذكر بعض الشخصيات المهمة في المجتمع التي قدمت للمقبرة، يذهب ببثه الحي أو كاميرته المفتوحة إلى مجلس العزاء ليصور مع هذا وذاك ولا يتوانى عن تصوير مقاطع فيديو مع بعض من قدموا للعزاء، وكأنه في تغطية خبرية إعلامية للحدث، تتساءل في نفسك : هل هذا مناسبة عزاء فعلاً أم بث مرئي لكواليس مسلسل سيعلن عنه قريباً ؟!

مشهد ثان ٍ:

يرى حادث سير في طريق صحراوي أو حتى في داخل المدينة ، بعد أن قدمت سيارات الشرطة والإسعاف أو قبلها بقليل فيوثق صور السيارات المتصادمة وربما قد يدفعه حماسه لتصوير جانب غير واضح جداً لأجساد من أصيبوا في الحادث ، ويبدأ في وعظ متابعيه في أن نتائج السرعة وخيمة وأن هذا الحادث قد يكون جراء سرعة أو عدم الانتباه بانشغال السائق بالهاتف ويغفل أن وراءه حادث مروري بإصابات حقيقية و بشر لا يودون أن تخترق خصوصيتهم ولا أن يتم التنظير على حساب مصابهم ، وأن هذا الموضع ليس موضعاً لاستعراض معارفه في قيادة المركبات ومثاليته فيها !

مشهد ثالث :

يدفعه قدره لأن يتواجد بالصدفة في مكان توجد فيه فرق الطوارئ لمساعدة بشر للخروج من وضع خطير معين ، فيقوم بتصوير الموقف ، والأشخاص الموجودين في ذلك الموقف سواء كانوا منقذين أو من كادوا أن يكونوا ضحايا لولا تدخل فرق الطوارئ ثم ينشر المقطع المرئي في وسائل التواصل الاجتماعي ويقول : يوجد حادث في المكان الفلاني ، وهذا الفيديو من قلب الحدث “ وكأن هناك من ينتظر تغطيته تلك أو منحه ترخيصاُ لنشر ذلك المقطع المرئي الذي ربما لا يحب شخوصه أن يظهروا في تلك المنصات حتى بأوضاعهم الطبيعية فما بالك بأوضاع إنقاذهم من وضع خطير!

إن وسائل التواصل الاجتماعي عملت على التعريف بالكثير من القضايا الاجتماعية التي تحتاج لرصدها وإبرازها بل وساهمت في دفع المؤسسات الحكومية والخاصة المعنية للتعامل معها وحلها بفضل قيام المستخدمين بدور الصحفي المواطن ، لكن هوس البعض في استخدام هذه المنصات جعلهم يرغبون في التنافس على توثيق كل شيء دون مراعاة خصوصية الآخرين وأحزانهم ومناسباتهم المتعددة وأوضاعهم التي قد لا يودون مشاركتها مع أحد ، فتجد هناك من يدور في مجالس العزاء ببث حي لحسابه في وسائل التواصل الاجتماعي كي يوثق حضوره وحضور الشخصيات المهمة ويثبت أنه ينتسب لتلك العائلة المهمة أو حتى يعرفها رغم أن حضور مجالس العزاء لا يتطلب تلك المعرفة ، وهناك من تفعل ذلك أيضاً في مناسبات الأفراح النسائية وتنسى خصوصية النساء في هذه المناسبة وأن هناك الكثيرات ممن لا يرغبن في هذه الالتقاطات حتى لو كانت من بعيد ولا تظهر وجوههن بوضوح .

كما أن هؤلاء المهووسين بتوثيق كل ما يحيط بهم لا يتوانون عن تضخيم آلام المحيطين بهم ومتابعتها بالتصوير حتى تلك البسيطة جداً وتصويرها ابتداءً من دخول ذلك القريب للمستشفى لسبب عارض وانتهاءً بلقطة له وهو فاقد الوعي أو نائم في احدى غرف المستشفى ، لتجد نفسك تتساءل : هل هذا الاختراق غير المبرر للخصوصية وإدخال الآخرين في مختلف أوضاعهم في تغطياتنا في وسائل التواصل الاجتماعي فقط من أجل تفاعل أكبر من المتابعين وإعادة النشر لتلك المنشورات ؟ ربما، فمجتمعاتنا عاطفية بطبعها ، وتتفاعل مع مايبدو ألماً حتى لو كان من ينشره يقتات على هذه الأحداث ومشاركتها للحصول على إعادة نشر لمنشوراته بشكل يتجاوز مئات المرات.

إن المهووسين بتوثيق كل تلك اللقطات بالصور ومشاركتها للآخرين في منصات التواصل الاجتماعي قد يجعلون من المحيطين بهم يتجنبون لقاءاتهم حتى لا يجدوا أنفسهم ضمن منشور في وسائل التواصل الاجتماعي ، فليس كل الناس ترغب في أن ترى جلساتها أو أوجاعها أو أحزانها أو حتى أفراحها أو حتى وجودها مع شخص معين منشوراً في وسائل التواصل الاجتماعي فقط لأن أحد أقاربهم أو معارفهم مهوس بتصوير كل ذلك !

إن الرغبة في الحصول على انتشار عالٍ للمنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يترتب عليه زيادة في عدد المتابعين تجعل بعض من يستخدم تلك الوسائل ينتهزون أي فرصة لتصوير كل ما يشعرون أنه مختلف وغير معتاد حتى لو كان ذلك غير مقبول مجتمعياً ويشعر من يتم التقاط صور له في تلك المواضع بالاستياء ، لدرجة قد لا نستغرب فيها إن شاهدنا يوماً من يلتقط صورة مع شخص لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى وكأن لسان حاله يقول له : دعنا نلتقط صورة معاً ، وابتسم ابتسامتك الأخيرة قبل الدفن !!