--------_------
--------_------
المنوعات

عبدالله حبيب الذي لا يستطيع الحياة بدون كتابة

02 سبتمبر 2018
02 سبتمبر 2018

سليمان المعمري -

ليس جديداً القول إنه "ليس من زماننا"، فقد سبقني قاسم حداد في ذلك، ولكنه أيضاً لم يعِش في زمن "الشيبة العود" كارل ماركس، ولا التقى بــ"نيتشه"وجهاً لوجه، ومع ذلك يمكننا أن نستشف من تكرار ذكره لهما والاستشهاد بهما ليلَ نهار، إلى أي درجة يمكن أن تتآلف روحياً مع كاتب أو مفكر أو فيلسوف من مجرد قراءة أفكاره على الورق، واكتشافك بفرح أنه إذ يُعبّر عن نفسه إنما يعبّر في الوقت ذاته عن خلجات نفسك أنت. وأظن أن كثيرين ممن أحبوّا عبدالله حبيب أحبوه لهذا التآلف الروحي مع ما يقرؤون له، حتى ولو لم يكونوا يعرفونه بشكل شخصي. كتب عبدالله مرة عن الحب إنه يأتي متأخراً عن وقته أكثر مما ينبغي، غير أنني أستأذنه أن أضيف هذه النقطة إلى حقيبة النقاط الكثيرة التي أخالفه الرأي فيها بكل محبة. كثير منّا أحب عبدالله حبيب في الوقت المناسب تماما، ولكن .. ربما كان التعبير عن هذا الحب هو المتأخر. 

بقدر ما تزيده الكتابة جهلاً بنفسه، بقدر ما يصرّ على الغوص فيها "بكل نَمْلِ الكآبة الممكن"، لأنه يعرف أن كنز الرحلة هو الطريق حتى وإن لم يكن ثمة وصول. وأنه "كلما اعتقد الآخرون أنك أنجزت شيئاً مهماً، تيقنتَ أكثر -بينك وبين نفسك فقط- أنه كان عليك أن تنجز شيئاً مهمّاً أكثر، ولكنك فشلت -غير أنهم لا يعرفون ذلك-". يزعم عبدالله أن قدراته في أي شيء آخر غير الكتابة معدومة بالكامل تقريباً، لذا فهو لا يستطيع الكف عن الكتابة، بإرادته، لأنه لم يعد يرى أن هناك ما يستحق الحياة غيرها. وأقول "بإرادته" لأننا نعلم جميعاً أن الكتابة ليست مطواعة دائما. ولا "يُرَمْنِس" الكتابة إلا واهم وعائش في الخيالات. فمن الممكن أن تمر على شاعر وقاص وأديب مبدع كعبدالله حبيب عشر سنوات كاملة دون أن يكتب كلمة "إبداعية" واحدة، ودون أن يُشعِره هذا بالقلق. هناك من سيسميها "حبسة الكاتب" أما عبدالله فلن يؤمن بهذه الحبسة. فـهي ليست أكثر من رميٍ لخيوط الصنارة في البحر، أو بذرٍ للحبوب في الحقل، أو شحنٍ طويل للبطارية لمقبلات الأيام والشهور والسنين، مستشهداً بذلك الشاعر الفرنسي الذي كان يضع لافتة على باب غرفته كلما خلد إلى النوم تقول: "الإزعاج ممنوع، فالشاعر يعمل". يؤمن عبدالله حبيب أن الكاتب "إذا كان حقيقياً فعليه أن ينتظر، وعليه أن يتألم، وعليه أن يتعلم، لأن الفواكه سوف تنضج في يوم ما، والفصول لها مواعيدها، فلا نستعجلنّ الربيع". لقد علّمه روبير بريسون – الذي التقى به روحياً في فترة مبكرة من حياته، وترجمه إلينا من الإنجليزية – ألا يصنع أفلاما من أجل شرح الفرضيات، ولكن من أجل أسر "قلب القلب"، ويعرف عبدالله قبل غيره أن هذا ينطبق على الكتابة أيضا. ولذا، فليس مستغربا أن يستدعي ذات مرة ماركيز من قبره لينصحنا: "إذا كنتَ تستطيع أن تحيا من دون أن تكتب، فلا تكتب".

لكنه لا يستطيع أن يحيا دون أن يكتب. أنا أقسم على ذلك. الكتابة والسينما هما ما أبقياه على "قيد" الحياة إلى اليوم. ولكن سأقول الكتابة فقط، (لأن السينما هي الأخرى "كتابة بصرية"، ولأن تعاطيه معها كان كتابةً عنها أكثر من كونه صنعاً لها). منذ دفتر يومياته وهو بعدُ صبّي صغير يسوق دراجة هوائية من نوع "هوندا 70 سي سي" في مجز الصغرى، وإلى صفحة فيسبوكه اليوم وهو يتحدث عن المتنبي الذي عرف قبلنا بألف سنة أن من يهن يسهل الهوان عليه، لا يستطيع عبدالله حبيب التخلّي عن الكتابة، حتى في ذلك المكان الذي قال عنه جون كينيدي أتول في روايته "كونفيدرالية للحمقى" أن دخوله هو الطريقة الوحيدة لتناول وجبات منتظمة. هو لم يكتب شيئاً بعد عن ذاك المكان. ولكني واثقٌ أنه إذا ما بدأ الكتابة –ولو بعد سنين- فستنساب التفاصيل الصغيرة والمعبّرة في نفس الآن كنهر رقراق. فلطالما اندهشتُ من ذاكرة عبدالله حبيب الانتقائية، رغم أنه يصفها بــ"المشخلية"، تلك الذاكرة التي قد تخوض في أدق تفاصيل حدث منذ أربعين عاما وتستعيدها بإسهاب من يراها أمامه رأي العين، ولكنها – في المقابل- قد تتجاهل حدثاً لم يمض عليه سوى ساعات، ببساطة لأنه لا يعني لها شيئا. كنتُ أظنها في البداية "اليوميات" التي كان يدأب على كتابتها بانتظام سنين طويلة، لكنني سأعرف منه فيما بعد، أن بعضاً من كتاباته التي تعتني بتلك التفاصيل الدقيقة الأخاذة لا علاقة لها باليوميات، وأنها وليدة ذاكرة حديدية تعرف متى تستيقظ ومتى تنام، أو إذا ما استخدمنا لغته هو: تعرف متى تبقى في المشخل، ومتى تتسرّب من ثقوبه. يتذكّر عبدالله أن السيارة التي جاءت تبحث في قريته عن مطلوبين في خريف عام 1974 كانت "لاندروفر ستيشن ويجن" لونها أبيض. ويتذكر أيضا أن سيارة المرحوم أحمد الزبيدي التي ساقها عبدالله في منتصف الثمانينات قادما من أبوظبي إلى مسقط، وكاد أن يقتل بتهوّره في سياقتها رفقاءه في الرحلة (عائلة الزبيدي وسماء عيسى) كانت تويوتا من نوع "سوبر صالون" ولونها أبيض. (ولنلاحظ – استطراداً كما يفعل عبدالله حبيب دائما- هذا "البياض" الذي يلاحقه كقدره حتى لقد لوّن به الفراغ وأودعه في كتاب. الأبيض الذي يتساوى والأسود في عينيه في لحظات "الشوق، واللوعة، والطعنات في الظهر، واللاجدوى"، لذا فإنه ذات حزن نبيل سيتقمّص الشاعر الفرنسي نرفال ويخاطب به أمه مريم إبراهيم المعيني: "عندما أنتصر على كل شيء سأفرد لك مكاناً في دار خلودي. لا تنتظريني هذا المساء، فالليل سيكون أسود وأبيض" ). ودرءاً للالتباس، عليَّ أن أؤكد أنه ليس البياض وحده هو الذي يهيمن على ذاكرة عبدالله حبيب. فسيارة محمد الحارثي التي نظر إليها من نافذة شقة عبدالله الريامي في الحمرية ذات ضحى أحد الأيام في أواخر السبعينيات كانت مرسيدس حمراء. أما أستاذُه أندرو فينبيرغ فلم يقل شيئاً عن سيارته، ولكنه يتذكر في المقابل تفاصيل الجلسة الأولى لمساق الفلسفة الوجودية في قسم الفلسفة بجامعة سان دييغو ستيت، عام 1989 عندما خاطب فينبيرغ طلبتَه ساخطاً: "هل تعتقدون حقاً أن علينا أن نقضي بقية أعمارنا ونحن نشاهد قناة سي إن إن، ونستمع إلى أكاذيب الرؤساء الأمريكان، ونأكل الهمبورغر، ونتحدث عن حقوق الإنسان، كي نموت في نهاية المطاف ونحن نشعر بالغباء والتفاهة؟!".

حصل عبدالله حبيب على شهادة Ph.D.ABD)) في الدراسات النقدية السينمائية، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بالولايات المتحدة، عام 2005. وكان قبلها قد حصل على الماجستير في الدراسات السينمائية والثقافية، من جامعة تكساس، الولايات المتحدة، عام 1999. وعلى بكالوريوس الفلسفة (تخصصا رئيسيا) والسينما (تخصصا فرعيا)، من جامعة سان دييجو ستيت، بالولايات المتحدة، عام 1992. وقبل هذه الشهادات وأثناءها وبعدها، لم يكفّ عبدالله عن التعلّم يوما، منذ أن علمته الأرض أن حضنها أكبر. وإذا ما راقت له عبارة في كتاب أو فكرة في مخيّلة أو لقطة في فيلم فإنه لن يتردد في الاستشهاد بها ولو عشرات المرات. وإن نحن تتبعنا قائمة الأدباء والمفكّرين والفلاسفة والسينمائيين الذين يوقظهم من سباتهم حين يكتب؛ سندرك أيضاً إلى أي مدى تعلّمنا نحن – بقصد أو بدونه، لا فرق- من هؤلاء. ليس عليه إلا أن يحب هذا الإنسان أو ذلك الفأس أو تلك الدودة حتى يسرّب إلينا الحب في كلماته المكتوبة أو المنطوقة، بدون أستذة فارغة، ولا وقار مزعوم، ولا منطق بغيض. فهو سيد العارفين أنك "إن أصبحت شخصاً "طبيعياً" و"منطقياً" مثل كل الأشخاص الآخرين فإن عليك أن تدرك أنه بينك وبين الحب مسافة كأداء وطويلة". يرشقنا عبدالله حبيب بأنبيائه وشياطينه، فلاسفته ومجانينه، سَحَرته وأوغاده، ويقول: هؤلاء هم حياتي، كبرائي الذين علموني الحب، والفقد، والحزن، والموت، والنبذ، والهشاشة، ويَصُفّهم أمامنا كقائد يستعرض جنوده القادمين لتوّهم من المعركة: هذا هو "الشيبة العود" أبو هنريك، حذرني من الفلاسفة الذين يكتفون بتفسير العالم في حين أن الأجدى هو تغييره. وهذا أخي جيفارا الذي علمني ألا أصمت عن الحق وإن كرهني الجميع. أما هذا الأصلع ذو الشارب الكث الذي "يدُه في القواميس" فهو قاسم حداد الذي أخبرني أن الموت لن يفعل بي أكثر مما يفعله الأقربون. وهذا العكروت النحيل هو كافكا الذي جادلني أن "الملقى على عاتقنا تحقيق السالب؛ لأن الموجب قد تم تحقيقه وانتهى الأمر". وهذا المجنون الحالم هو نيتشه الذي أقنعني أن "الأكثرية دوماً على خطأ". أما هذا الوقح فهو رينيه شار الذي صارحَني أنني لن أبلغ المستحيل، ولكني سأستعمله مصباحاً يضيء ليَ الطريق. وهذا السوداوي الوغد هو سيوران الذي استفدتُ منه أن "التلذذ بتوقع الكارثة يتقلص طرداً مع اقترابها، ثم يتلاشى تماماً حالما تحدث"، وهذا الـ"جنتلمان" هو سارتر الذي حلف لي: "إذا كنت تشعر بالوحدة حين تكون وحيداً فإن جليسك سيء". أما هذا الملعون الذي يقف في آخر الصف فهو كفافيس، وقد تنبأ لي – لا رحمه الله- أنه مثلما خربت حياتي في هذه الزاوية الصغيرة فهي خراب أنّى ذهبت.

يملّ عبدالله من استعراض جنوده من المبدعين فيصمت قبل أن يصل إلى بازوليني. وحسنا فعل. فقد يخسر بعضاً من أصدقائه إذا أخبرهم أن هذا الشاعر والسينمائي الإيطالي علّمه أن "الصداقة مقدّسة، ولكن العمل كل شيء". إذ يعلم جيداً أنه إذا دخل العملُ مع صديقٍ من الباب، فرّت الصداقةُ من الشبّاك. ولكنه مع ذلك، غير عاجز عن اكتساب الصداقات مع أناس يجمعه معهم حب العمل. يشهد على ذلك مسابقتان مهمّتان شارك في لجنتَيْ تحكيمهما مؤخرا، وهما جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب (نوفمبر 2017 )، ومهرجان مسقط السينمائي العاشر (مارس 2018). ورغم أنه يعرف جيداً أن التحكيم في مسابقة أدبية أو فنية هو – كما كتب ذات مرة - "صراع النظريات، والأمزجة، والمناورات، والشجارات، والتحالفات التكتيكية، الشقية ذات المغزى الهجومي أو الدفاعي، وتكسير العظام خلف الابتسامات الثعلبية" إلا أنه استطاع أن يخرج من هذه المعمعة في كل مرة حكّم فيها وهو مرتاح الضمير بأن الجائزة ذهبتْ لمن يستحقها. وشخصياً أحمَد له أنه كان أول من فكّ الحصار المفروض على قصيدة النثر في مسابقاتنا الأدبية المحلية، رغم ما كانت تحققه من نجاحات بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي. فقد كان المحكّمون قبله نوعين: إما رافض بشكل قاطع لهذه القصيدة وغير معترف بها ما دامت بلا وزن عروضي ولا قافية، وإما معتِرف بها على مضض ولكن ليس إلى درجة المجازفة بحظوته لدى المؤسسات المتكلسة بوضعها في ميزان واحد مع القصيدة الكلاسيكية. غير أن عبدالله حبيب أصرّ وهو يحكم مسابقة أدبية في منتصف تسعينيات القرن الماضي (لم أعد أذكر هل هي مسابقة المنتدى الأدبي أم مسابقة جامعة السلطان قابوس) على الانتصار للشعر فحسب، بغض النظر عن شكله. فكان أن فازت قصيدة النثر "كارزمية" لعبدالله الكلباني، الذي لم يكن عهذاك قد أصبح بعدُ "عبد يغوث". وقد لخّص عبدالله حبيب بعد هذه الواقعة بما لا يقل عن عشرين سنة رؤيتَه للشعر في قصيدة بديعة افتتحُها بعبارة "لستُ شاعرا".. يقول عبدالله :

((..لستُ شاعراً كي أتفقَّه في الفرق بين الإيقاع والموسيقى؛ بين الموسيقى الخارجية والداخلية.

لا أظن أن الشِّعر هو «الكلام الجميل الموزون المقفّى». لا أظن أنه «ما لا يُترجَم» (روبرت فروست) أو «ما لا يمكن قوله بطريقة أخرى» (أدونيس). لديَّ مشاكل مع المُعَلَّقات الجاهلية ومع أشعار «الهايكو» اليابانية بالمقدار نفسه.

أما الشِّعرُ الأمريكي فلا أحبه كثيراً كما تعلمين.

لم أعد أحبُّ معظم قصيدة النثر كذلك.

لكني أكتب هذا النص

يا حبيبتي

لأني لا أدري كيف أقول لك

أني أحبك... ))

وما دمنا قد وصلنا إلى الحبّ فالأجدر بي أن أختم به كما بدأتُ. إذ إن تداعياتٍ كهذه عن شاعر وأديب وناقد وسينمائي بحجم عبدالله حبيب، لا شك أنها ستظلّ تجرني إلى تداعيات أخرى كثيرة، تماما كلعبة الدومينو، أو كحكايات ألف ليلة وليلة. ولذا آن لي أن أصمت. فقط سأختم بتحوير طفيف لعبارة الراحل تعّوب الكحالي، أحد أحباب عبدالله الكبار، التي لطالما تذكّرها عبدالله بحنين وحب وتأثّر: ""ما دام عبدالله بخير نحن بخير".

*أُلقِيتْ الورقة في أمسية "كاتب الشهر" التي نظمتها مكتبة روازن مساء الثلاثاء الماضي (28 أغسطس 2018)