المنوعات

رسـائـل ســيمـون دو بـوفـوار

28 أغسطس 2018
28 أغسطس 2018

حسّونة المصباحي -

عادت سيمون دو بوفوار(1907-1986) إلى الظهور مجدّدا في المشهد الثقافيّ الفرنسيّ بعد أن نَشَرت دار" غاليمار" المرموقة، من ضمن سلسلة "البلياد" المخصَّصة لمشاهير الكتّاب والشعراء والفلاسفة من الفرنسيّين، ومن غير الفرنسيّين، مجلَّدَين من أعمالها الفكريّة، والأدبيّة. واهتمّت وسائل الإعلام الفرنسيّة في الوقت نفسه بالرسائل التي كانت تتبادلها مع عشّاقها، كاشفةً بذلك عن جانب آخر من شخصيّتها، شخصيّة المرأة العاشقة، المُناقِضة تماما لشخصيّة المفكّرة الصّارِمة والجديّة.

كانت سيمون دو بوفوار قد شرعت في كتابة الرسائل منذ سنّ العاشرة. كما أنّها دَأبت على تدوين يوميّات ترسم فيها صورة لنفسها ولعواطفها من دون أن تغفل عن استعراض الكُتب التي أثَّرت فيها. وخلال سنوات الدراسة الجامعيّة، التقت سيمون دو بوفوار بمجموعة من الشبّان المتحمّسين مثلها لدراسة الفلسفة، ومعهم ارتبطت بعلاقة وثيقة. وكان جان بول سارتر من بين هؤلاء. معه ستتوطّد علاقتها به لتظلّ قائمة حتّى وفاة هذا الأخير في ربيع العام 1980. إلاّ أنّ تلك العلاقة لم تمنَع لا سيمون دو بوفار ولا سارتر من أن يعيش كلّ واحد منهما مغامرات عاطفيّة مُلتهبة. وتشير الكاتِبة الفرنسيّة جوزيان سافينيو إلى أنّ الرسائل التي تبادَلتها سيمون دو بوفوار مع عشّاقها تؤكّد أنّ تقليصها إلى مناضلة عن القضيّة النسويّة، أو إلى امرأة خاضِعة إلى سارتر خضوعا كلّيا، هو في الحقيقة هذر سخيف لإخفاء صورتها الأخرى، صورة امرأة عاشقة متُيّمة بكلّ قصّة تعيشها مع عشيق جديد .

في بداية علاقتها بسارتر، التي تعود إلى أواخر الثلاثينيّات من القرن الماضي، عشقت سيمون دو بوفوار أحد طلبتها القدماء، ويُدعى جاك- لوران بوست. وعندما اندلعت الحرب العالميّة الثانية، وأُرسِل سارتر إلى الجبهة، كَتبت إليه بتاريخ السابع عشر من شهر أكتوبر من عام 1939، تقول: « أعتقد أنّ الحرب بدأت بالفعل، وهذا يُجمِّد عظامي، وأنا ليس بإمكاني أن أصدِّق حلولَ اللّحظة التي ستُحارب فيها». وقد شكّلت الحرب الكونيّة الثانية مُنعرجاً مهمّاً في حياة سيمون دو بوفوار على المستوى الفكري تحديداً، إذ دفعتها إلى القطيعة النهائيّة مع انطوائها على ذاتها، لتخوض مَعارك عدّة دفاعاً عن قضايا فلسفيّة وسياسيّة واجتماعيّة وغيرها.

وفي العام 1947، سافرت سيمون دو بوفوار إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة لإلقاء محاضرات في كبريات جامعاتها. ومنذ اليوم الأوّل فَتَنَتْها نيويورك، فكَتبت إلى سارتر تقول:"راجلة نزلت كلّ "برودواي"، وقد وجدتُ هذه المدينة بجمالٍ أخّاذ، وبعظمة تُلامِس عظمة الجبال - وفي الوقت نفسه، هي مدينة تجعلكَ تشعر بأنّك لا يُمكن أن تزور مدينة أخرى بعدها هي(...) أودّ أن أبقى هنا بعض الوقت من دون رغبة في التعرّف إلى أيّ أحد إذ إنّ هذه المدينة ألهبَت قلبي بعشقٍ كبير لها. فنحنُ نشعر فيها بالحريّة. لا أحد يَنظر إليكَ. أمّا الفندق فهو عادي. وهذا شيء رائع".

وفي شيكاغو تعرَّفت سيمون دو بوفوار إلى الكاتِب الأمريكي نلسون ألغرين الذي لم يكُن قد أحرَز الشهرة بعد. معه ستتجوّل في المدينة لتتعرّف إلى خفاياها وأسرارها. ومنذ الأيّام الأولى، وقَعت في شِباك حبّه لتظلّ العلاقة قائمة بينهما حتّى العام 1964. معه ستتبادَل رسائل كثيرة. وفي واحدة من رسائلها كتَبت تقول إنّها تتمنّى أن تُدفَن بالخاتم الذي أهداها إيّاه. وفعلاً دُفنَت والخاتم في اصبعها!

وفي رسالة بتاريخ 28 (أكتوبر)1947، كتبَت له تقول:" أوه! لن أدعكَ تتحرَّر منّي طوال الوقت الذي سيُسمح لي بالمحافَظة على ذلك. ومن دون شفقة أو رحمة ستظلّ الشِّباك مُحيطة بك، فأنا أملكُكَ كما تَملكُني". وفي أغلب الرسائل التي كَتبتها له، تصف له الحياة في باريس، وتحدّثه عن المعارك الثقافيّة والفكريّة الدائرة في فرنسا. أمّا هو، فقد كان يتذمّر في رسائله من الجمود الثقافي الذي تعيشه شيكاغو، مُشيراً إلى أنّه يعيش حياة عقيمة موسومة بالضجر والفراغ. لكنّ سيمون دو بفوار تزداد تشبّثاً بنلسون ألغرين وتَكتبُ له الرسالة تلوَ الأخرى مُعبِّرة عن اشتهائها لجسده "الحارّ"، و"المريح"، مشبّهة إيّاه بـ"التمساح"، ومشبِّهة نفسها بـ"ضفدعة فرنسيّة بائسة". وفي الثامن من(نوفمبر)1947، كتبَت له تقول: " نلسون، يا حبّي. لا شيء يحدث، ودائماً الحبّ نفسه، حبّي لكَ الذي تَعتبره أنتَ مُضجراً للغاية".

عند تجاوزها سنّ الأربعين، بدأت سيمون دو بوفوار تشعر بزحف الشيخوخة. وفي حوارٍ أجرته معها مجلّة "باري- ريفيو"، صرَّحت قائلة: " لقد أحسستُ دائماً بأنّ ما نعيشه يوماً بعد آخر، والانطباعات، وكلّ هذا ينتفي؛ ...هذا أمر شخصي. ودائماً كان لدَيّ إحساس قويّ بمرور الزمن. ودائما كنتُ أحسّ بأنّني امرأة عجوز. وعندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري، كنتُ أعتقد أنّ بلوغي سنّ الثلاثين سيكون مُرعباً، وأنّ هناك شيئاً يضيع". ولعلّ سيمون دو بوفوار كانت تظنّ أنّها لن تعيش قصص حبّ أخرى. إلاّ أنّ عشقاً جديداً بَرَز أمامها فجأة. ولم يكُن ذلك العشيق سوى كلود لانزمان البالغ الآن من العمر 92 عاماً. مع ذلك لا يزال يتطلّع إلى المستقبل، مُديراً ظهره لماضٍ موسوم بمغامرات وأحداث كبيرة، وبأعمالٍ مهمّة في المجال الفنّي والأدبي مثل فيلم "الأخوات الأربع" الذي يروي قصّة أربع أخوات عشن تراجيديا المُحتشدات النازيّة خلال الحرب الكونيّة الثانية. وكان كلود لانزمان قد ارتبط بعلاقة حبّ مع سيمون دو بوفوار امتدّت من العام 1952 إلى العام 1958. وقد باعَ الرسائل التي تبادلها معها إلى جامعة " يال" الأمريكيّة بمبلغ رفَض الكشفَ عنه. وفي رسالة بعَثت بها إليه في العام 1953، كَتبت سيمون دو بوفوار تقول: "هذا التوثّب، يا حبّي، منّي إليك؛ أنا أهيم بكَ، جسداً وروحاً، وبكلّ جسدي وروحي. وفي كلّ مرّة يكون ثمّة جديد عندك، يكون هيامي بكَ أشدّ وأكبر. صغيري، يا صغيري، لا تكنْ حزيناً. أنتَ مصيري، أبديّتي، حياتي وسعادتي وفرحي، وملْح الأرض ونورها. أنا أرتمي في أحضانك وأظلّ بينها إلى ما لا نهاية. أنا امرأتكَ إلى الأبد". وفي 12 (يوليو) 1956، كتبَت له تقول:" سأشعر دائماً وأبداً أنّني مرتبطة بكَ ارتباطاً عميقاً عبر صلة حميمة، رائعة، جوهريّة، وأنا أفهمكَ، كما أعلم أنّكَ تفهمني".

خلال اللّقاءات التي تنتظم في مكتب مجلّة "الأزمنة الحديثة" التي كان سارتر يرأس تحريرها، شعَرت سيمون دو بوفوار أنّ كلود لانزمان، الذي كان عضواً في هيئة تحرير المجلّة المذكورة، والذي كان يصغرها بـ17 عاماً، يُظهر اهتماماً كبيراً تجاهها. وذات ليلة دعاها إلى مشاهدة فيلمٍ فلَم تُمانِع. وفي تلك اللّيلة نفسها رافَقته إلى فراشه. وفي الثالث من شهر (أغسطس) 1952، كتبت إلى ألسن ألغرين تقول: " يا نلسن، يحدث لي أمرٌ غريب لا يُمكن تصوّره: هناك شخص يريد أن يحبّني، ويُبادلني حبّاً حقيقيّاً. وهذا يجعلني نصف سعيدة، ونصف حزينة. سعيدة لأنّ الحياة من دون حبّ موحِشة وفارِغة وجدباء، وحزينة لأنّني لا أريد أن يحبّني أحدٌ آخر غيركَ أنت(..) نعم أنا أحبّه. وفي شهر (أكتوبر) سنعيش قصّة حبّ حقيقيّة وهذا يثير استغرابي لأنّني كنتُ قد قرّرت نهائيّاً أن أعيشَ حياة امرأة عجوز، حياة من دون حبّ. وبالنسبة إليه أنا لا زلتُ شابّة. وهو يحبّني".

وفي 15 (فبراير) 1954، كتَبت إلى نلسون ألغرين مرّة أخرى تقول:" تطلب منّي إن كان لا يزال هناك سحرٌ في حياتي. وأنا لم أتحدّث عن ذلك منذ فترة طويلة لأنّه، كما تقول أنتَ، ليس من المحبَّذ قول الحقيقة، كلّ الحقيقة. نعم، لا بدّ من جولات طويلة على ضفاف نهر السّين، وعلى ضفاف أنهارٍ أخرى، لكي يروي كلُّ واحدٍ منّا للآخر كلَّ ما حَدَث بشكلٍ مُناسِب". وفي الرسالة نفسها تضيف قائلة إنّ السحر الذي حدَّثته عنه لم يعُد موجوداً، وأنّه لن يعود أبداً. وقد يعود ذلك إلى سنّها، وأيضاً إلى أنّ الناس الذين يحيطون بها في باريس لا يمتلكون أيّ سحر. ثمّ لأنّها لن تستطيع أن تحبّ بالمَشاعر نفسها التي طَبعت حبّها له.

وفي رسالة كشف عنها كلود لانزمان في العام 2008 بمناسبة مرور 100 سنة على ميلادها، كتبَت سيمون دو بوفوار إليه تقول:"صباح الخميس، يا حبّي العزيز، يا حصاني الصغير الأسود، يا زهرة العالَم، أنتَ يا ولدي، كم أحبّك، يا حبّي، وكم أنتَ ساذج! نعم يا قلبي، أحبّك إلى الأبد، سأموت من دونك، أنا لكَ: ألا تعلم ذلك؟ من حسن الحظ أنّك تعقَّلت يَوم الإثنين، وإلاّ لكنتُ وبَّختك بسبب كتابتكَ كلماتٍ كهذه. فأنتَ كما لو أنّكَ لم تختلط بي جسداً وروحاً؛ كما لو أنّكَ لا تعلم ذلك! أوه، أريد أن أضمّك إليّ بقوة، جسداً وروحاً، يا حبّي، كم أنتَ أحمق. خلال أسبوع، سنكون معاً".

✱ ينشر بتنسيق مع مؤسسة الفكر العربي

✱ كاتب من تونس