الملف السياسي

البحث عن مقعد على الطاولة.. يسبب ضررا !!

27 أغسطس 2018
27 أغسطس 2018

د. عبد الحميد الموافي -

يظل الميناء والمطار وانهار اللبن والعسل في غزة مجرد سراب لاستدراج الفلسطينيين الى مستنقع التقاتل والتخوين وتكريس وضع الرأسين في التعامل مع اسرائيل ، ومن ثم يتم الفصل العملي والتام بين الضفة وغزة . والنتيجة هى ان تقع الضفة الغربية فريسة للمخططات الاسرائيلية للسيطرة على معظمها عبر تكثيف الاستيطان ، وتذبل القضية عمليا بغض النظر عن اية ادعاءات على هذا الجانب او ذاك .

لعله من المعروف على نطاق واسع ان من مشكلات السياسة ، انها في ممارستها العملية ، تجد نفسها محشورة ، أو موجودة ، أو متضمنة في كل شيئ تقريبا ، بدرجة أو بأخرى ، والى حد يصعب احيانا ان لا تجدها في كل شيئ ، وهذا بالقطع ليس نوعا من التزيد أو المبالغة ، ولكنه اعتراف بحقيقة يمكن ان نلمسها في مختلف الجوانب والممارسات ، بغض النظر عن ادراكنا لذلك أو حبنا له من عدمه ، فالأمر في النهاية هو احد حقائق الحياة امس واليوم وغدا . وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فان كل عمليات الضغط ، أو الخنق الاقتصادي من جانب دولة او مجموعة دولية لدولة أو لطرف آخر ، وهى كثيرة ومتكررة في هذه الفترة ، ليست مجرد اجراءات اقتصادية ، ولكنها اجراءات وادوات اقتصادية مغموسة في السياسة ، ويمتد ذلك الى مختلف صور ومجالات التعامل بين مختلف الاطراف الدولية ، بغض النظر عما يقدم من تبريرات أو ايضاحات أو تفسيرات لملابسات اجراءات أو اخرى ، حتى ولو كانت وقف استيراد مواد غذائية ، أو تعطيل دخولها عبر المنافذ الحدودية ، او اغلاق او فتح المعابر أو حتى الوعد بذلك ، والمؤكد ان ما يحدث في الاشهر الاخيرة في قطاع غزة بوجه خاص ، وفي الاراضي الفلسطينية المحتلة بوجه عام ، يصب في هذا الاطار بشكل بالغ الوضوح .

ففي الآونة الاخيرة ، وفي الوقت الذي تستضيف فيه القاهرة محادثات مكثفة بشأن اتفاق للتهدئة في قطاع غزة ، وبشكل يضمن مشاركة مختلف الاطراف والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة واسرائيل ، تكررت التلميحات والتصريحات بقرب الاعلان عن مثل هذا الاتفاق ، بين اسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بقيادة حركة حماس ، ولم يكن مصادفة ان تتحدث كل الاطراف تقريبا عن أهمية وضرورة البعد الانساني في الاتفاق ، هذا فضلا عن عملية الخنق الأمريكية المنظمة والمستمرة ، سواء لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( الاونروا ) ، أو للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة ، عبر اقتطاع واشنطن نحو مائتي مليون دولار من مساعداتها للضفة وغزة في الأيام الاخيرة من ناحية ، وهو ما تباركه وتصفق له اسرائيل التي ترى ما تريده يتحقق على الارض ، واعلان منظمات دولية معنية بالعمل في قطاع غزة عن نفاد الأموال المخصصة لشراء وقود الطوارئ لتشغيل محطة كهرباء غزة ، ولشراء الأدوية للقطاع ، مع التحذير من امكانية انفجار قطاع غزة في اية لحظة من ناحية ثانية ، وهي عملية مدروسة بعناية على الارجح ، ربما للتمهيد لتمرير اتفاق التهدئة الذي يتم إعداده تحت غطاء الضرورة الانسانية بالدرجة الاولى ، وهو ما تشارك فيه بالتأكيد الفصائل الفلسطينية المختلفة وبقيادة حركة حماس بالطبع ، والتي نستبعد انها تبحث عن سبيل لتعامل ما مع اسرائيل . وفي هذا الاطار فانه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من اهمها ما يلي :

*أولا : انه بالرغم من انه اصبح معروفا ان ما يسمى بصفقة القرن ، قد أخذت ركلة الى الوراء ، بعد الاعتراض الفلسطيني والعربي القوي والواضح على الصيغة التي طرحت بها خلال زيارة جرينبلات وكوشنر صهر ترامب للمنطقة في مايو الماضي ، وانه ليس هناك موعد محدد لإعلانها ، حسبما اشار جون بولتون مستشار ترامب للأمن القومي – وذلك على عكس ما كان يطرح من قبل – فان السؤال المشروع ، والذي يتردد همسا الى حد كبير ، وجهرا في اطار الاتهامات المتبادلة بين فتح وحماس ، هو هل هناك علاقة ما بين ما تم طرحه ضمن صفقة القرن ، وبين اتفاق التهدئة الذي يتم إعداده الآن ، وسيتم طرحه على الارجح خلال الفترة القادمة ؟ السؤال يطرحه البعض بخبث ، ويطرحه البعض رغبة في تعمد الغمز من قناة مصر بشكل ما ، ويطرحه البعض الآخر رغبة في الاطمئنان والتيقن من ان ما يجري ليس له علاقة بصفقة القرن ، التي باتت سيئة السمعة على المستوى العربي على الاقل .

وبغض النظر عن دوافع الأطراف التي تطرح مثل هذا السؤال الملتبس ، بما في ذلك رغبة البعض في توريط مصر ، أو على الأقل النيل من جهودها ، أو تشويه موقفها ، بشكل يتم فيه توظيف جوانب غامضة ، أو على الاقل تحتاج الى ايضاح وتفسير لها لدى الرأي العام العربي خلال هذه الفترة والفترة القادمة بالطبع ، فانه يمكن القول بكثير من اليقين ، إن مصر اكثر الاطراف العربية حرصا على الشعب الفلسطيني الشقيق وعلى حقوقه وعلى حل قضيته واقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ، لا يمكن المزايدة عليها بأي شكل ، ولا بأية وسيلة ، ولا تحت أي ظرف من الظروف . ليس فقط بحكم تضحياتها وبحكم تاريخها واحتضانها للقضية الفلسطينية ، على الاقل منذ اوائل اربعينيات القرن الماضي ، ولكن ايضا لأن مصر اكدت بوضوح ، وبدون ضجة ، ان اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية هى حجر الأساس لتحقيق سلام عادل ، وتحقيق استقرار في الشرق الاوسط والدخول الى مرحلة جديدة في العلاقات بين دول المنطقة واسرائيل اذا تحقق ذلك . وفي ظل مثل هذا الموقف الذي اكدته القيادة المصرية بوضوح اكثر من مرة ، وفي ظل ماهو معروف من موقف الشعب المصري في هذا المجال ، فان مصر التي تعرف ما تقوم به ، لن تكون الا داعما للحقوق الفلسطينية ، ولاستعادة الوحدة الفلسطينية ، ولإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ، وانها في الوقت ذاته لن تترك قطاع غزة يواجه خطة الخنق الامريكية الاسرائيلية التي يتم تطبيقها بخطى متسارعة ، وهذا قدر مصر مع فلسطين ، وشرح ذلك يطول في الواقع . ولذا فان السؤال الخبيث أو الملتبس يكشف اكثر مدى تربص مردديه ومروجيه بمصر في هذه المرحلة ، وفي مقدمتهم اسرائيل بالطبع . خاصة وان الهم الاول لمصر هو تحقيق المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وتشكيل موقف فلسطيني واحد ، ووفد فلسطيني واحد ، للتفاوض على كل ما يهم الفلسطينيين ، وترى مصر انه اذا تعذر ذلك ، فان هذا لا يعني ترك غزة لمصيرها الذي تتمناه لها اسرائيل ، بل ان التدخل والدور المصري الراهن من شأنه ان يضبط ، ولو بشكل ما تطورات الاوضاع على الساحة الفلسطينية والحيلولة دون انفلاتها ، وهذه مصلحة مصرية وفلسطينية وعربية ايضا ، والمؤكد ان هناك اطرافا تتمنى لو تتوقف مصر عن محاولاتها ،ولكن إدراك مصر لخطورة ذلك يجعلها تمضي في طريقها غير عابئة بتمنيات البعض وبتطلعاتهم و وعبثهم احيانا .

*ثانيا: انه من الاهمية بمكان الاشارة الى ان الاتفاق على تهدئة مع اسرائيل ، ليس خطيئة في حد ذاته ، ليس فقط لأن آخر اتفاق للتهدئة مع اسرائيل تم في عام 2014 وبمشاركة فتح ، وكاتفاق بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ، ولكن ايضا لأن حركة حماس اعلنت بوضوح ضمن برنامجها المعدل رغبتها في التهدئة مع اسرائيل لمدة يمكن ان تصل الى عشر سنوات إن امكن ، يضاف الى ذلك ان كل دول الطوق المحيطة باسرائيل لها معاهدات سلام ، أو اتفاقات هدنة ، أو فض اشتباك مع اسرائيل ، وبعض الدول العربية الأخرى لها اتفاقاتها الضمنية العديدة وتعاونها – غير المعلن - ايضا مع اسرائيل . ولكن الخطأ ، الذي يمكن ان يتحول الى خطيئة ، هو ان يتم استثمار اتفاق التهدئة ، اذا تم التوصل اليه ، والقفز منه الى مواقف وممارسات تضر بالفلسطينيين وبقضيتهم وبمستقبهم ايضا . وفي هذه النقطة تحديدا فانه حتى وان استطاعت مصر القيام بدور ما للحيلولة دون ذلك ، الا ان الامر في النهاية سيكون متوقفا على حماس والفصائل الفلسطينية في غزة ، وما يمكن لمنظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية القيام به . وبالرغم من نفي حماس ان يكون اتفاق التهدئة خطوة على طريق تحقيق صفقة القرن ، وهو ما تكرره حركة فتح بشكل أو بآخر ، الا ان الأمر لا يمكن ربطه فقط بمجرد النوايا المعلنة ، خاصة وان تطورات الاوضاع الفلسطينية منذ سيطرة حماس على غزة عام 2007 تشي بالكثير .

وإذا كانت مصالح اسرائيل وحماس ومصر والمنطقة من حولهم ، تلتقي من منطلقات مختلفة ولأسباب متباينة ايضا ، حول فائدة تحقيق التهدئة في قطاع غزة لكل منها ، لأسباب خاصة بكل منها ، فانه من المؤكد ان اسرائيل التي تريد التخلص من قطاع غزة ، لا يمكن ان تريد الخير له ولا للفلسطينيين فيه ، ولا يمكن لها ان تمد له يد المساعدة ، ولا ان تساعد في ذلك لدوافع واسباب انسانية ، ولا لمجرد استعادة جثتي جنديين اسرائيليين واطلاق سراح جنديين آخرين مثلا ، والمؤكد ايضا انه اذا كانت حركة حماس قد عضت على غزة بالنواجز ، وتحالفت مع كل من قبل التحالف معها على مدى السنوات الاحدى عشرة الماضية ، ورفضت تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية ، برغم الاتفاقات العديدة في هذا المجال ، فمن السذاجة افتراض ان حماس يمكن ان تتنازل عن غزة إذا توصلت الى اتفاق تهدئة طويل الامد مع اسرائيل . ومن ثم فان اتفاق التهدئة ذلك سيكون ، على الاقل من وجهة نظر حماس ، بوليصة تأمين للاستمرار في السيطرة على غزة وبمباركة اسرائيلية وتعاون معها ومع اطراف اقليمية ودولية اخرى ، ومن هنا تدرك حركة فتح والرئيس الفلسطيني ان اتفاق التهدئة مع اسرائيل ايا كانت تسميته سيعمق الشق الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة ، ومن ثم فان المصالحة الفلسطينية يمكن ان تشيع الى مثواها الاخير بشكل حقيقي . وهذا تحديدا هو ما يريده نتانياهو وليبرمان ، اللذين يريدان الإجهاز على منظمة التحرير الفلسطينية من ناحية ، وايجاد رأس فلسطينية اخرى ، الى جانب السلطة الفلسطينية ، والتلاعب بوضع هذين الرأسين لاضعاف الموقف الفلسطيني تماما ، وهما – نتانياهو وليبرمان – على يقين من قدرتهما العسكرية على القيام بما يريدان القيام به ، سواء ضد غزة ، أو ضد الضفة الغربية عندما يكون الوقت مهيأ لقيام بذلك . والخوف ان يكون ما يجري هو خطوات محسوبة للإعداد لذلك ، خاصة وان واشنطن تقوم بخطوات موازية لخدمة اهداف ومطامع اسرائيل ، بغض النظر عن إعلان صفقة القرن او اجهاضها .

*ثالثا : أنه اذا كانت جهود مصر لتحقيق المصالحة الفلسطينية قد قطعت شوطا غير قليل في الفترة الأخيرة ، فان المؤسف حقا ان ينقلب الامر بين فتح وحماس فجأة بسبب محاولات اعداد اتفاق التهدئة بين حماس واسرائيل ، ويصل الامر الى حد الاتهام بالتخوين بين الاشقاء ، خاصة عندما رفضت حماس ان يقوم عزام الاحمد برئاسة وفد التوقيع على اتفاق التهدئة ، حتى تحتفظ هي بموقع القيادة بكل ما يعنيه ذلك لها ولاسرائيل ، وهو ما رفضته فتح ، وطالبت بان تكون منظمة التحرير وليس فصيلا فلسطينيا – حماس – او فصائل اخرى هى الموقعة على اتفاق التهدئة ، اسوة بما تم من قبل ، وترفض حماس ذلك ، وهو ما يغذي الكثير من المخاوف السابق الاشارة اليها . أما اسرائيل فانها تريد دفع الخلافات الفلسطينية بشكل اكبر لتقطع الطريق على المصالحة الفلسطينية تماما ، ويظل الميناء والمطار وانهار اللبن والعسل في غزة مجرد سراب لاستدراج الفلسطينيين الى مستنقع التقاتل والتخوين وتكريس وضع الرأسين في التعامل مع اسرائيل ، ومن ثم يتم الفصل العملي والتام بين الضفة وغزة . والنتيجة هى ان تقع الضفة الغربية فريسة للمخططات الاسرائيلية للسيطرة على معظمها عبر تكثيف الاستيطان ، وتذبل القضية عمليا بغض النظر عن اية ادعاءات على هذا الجانب او ذاك . اما اذا فشلت محاولات التوصل الى اتفاق للتهدئة طويلة الأمد مع حماس ، فان نتانياهو وليبرمان جاهزان لشن حرب شرسة ضد قطاع غزة ، من اجل قطع الطريق على حركة حماس لتطوير قدراتها العسكرية ، ولإحراج كل الاطراف العربية ايضا . واذا كانت صيانة المصالح الوطنية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة اكثر قيمة واهمية بالتأكيد من مقعد على مائدة توقيع اتفاق التهدئة مع إسرائيل ، إذا تم التوصل اليه ، فإن ما يجري يثير القلق والمخاوف بشأن المستقبل الفلسطيني ربما أكثر من أي وقت مضى ، ولعل ما سبقت الإشارة إليه يكون خاطئا !! .