----3
----3
المنوعات

حنا مينة.. باق في أعماله ولن يغيب عن الذاكرة

25 أغسطس 2018
25 أغسطس 2018

شهادات من أصدقائه ومحبيه -

دمشق : بسام جميدة -

رحل شيخ الرواية السورية حنا مينة ليس في هدوء كما أراد في وصيته بل في صخب إعلامي أعاد له مكانته الحقيقية كأحد رواد الرواية العربية.. البعض قال إن وصيته التي طالب فيها بالهدوء كانت سببا في تصدر خبر وفاته الصفحات الأولى بعد سنوات عاشها الراحل بعيدا عن الأضواء يصارع مرضه وشيخوخته... في المساحة الآتية نستعرض بعض الشهادات التي كتبها بعض أصدقائه أو المقربين منه ومن أدبه الروائي.

بيننا حواجز كثيرة

د. حسن حميد نائب رئيس اتحاد الكتاب

منذ ما يزيد على40 سنة وأنا أقرأ أدب حنا مينة، بيني وبينه حواجز كثيرة ..منها العمر، والانتماء السياسي، والأصدقاء، والمكانة، والشهرة، والعزلة،..إلخ،

لكن قراءة أدبه أطاحت بكل هذه الحواجز..فلم يبق منها سوى التهيب من حضوره الأدبي ونجوميته الراعبة بوصفه أهم كاتب عربي في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

أذكر أن المرة الاولى التي تجاسرت فيها واقتربت منه كانت عام 1988، وفي الشهر الأول من تلك السنة.. حين هاتفته، وكان يعمل في وزارة الثقافة السورية.. مستشاراً للوزيرة، آنذاك، د. نجاح العطار، قلت له: أنا حسن حميد محرر في مجلة «الهدف» الفلسطينية.. أستأذنك بحمل سؤال إليك يدور حول الانتفاضة الفلسطينية.. قال هامساً: أهلاً حسن. تفضل! أراحني جوابه وأعاد الحياة الى روحي؛ لأنني كنت أرتجف وأتلجلج وأنا أتكلم معه. كنت وصديقي الكاتب الفلسطيني أحمد سعيد نجم الذي كان ينظر إليّ بقلق شديد مقدراً ثقل المكالمة على كتفيّ، حين وضعت سماعة الهاتف نظرت الى أحمد فرأيت وجهه أشرق بابتسامة بيضاء قال: تمام سأذهب معك معاضداً. قلت:أحمد بعد أن نشرب القهوة، قال: بعد القهوة. شربت وإياة «دلة» قهوة حضرتها أمّ العبد. وذهبنا نحن وما نفكر به، نحن والياطر، والمصابيح الزرق، والشراع والعاصفة، وحكاية بحار، والدقل، وبقايا صور،..وشجاعة شخوصها وجسارتهم جميعاً. دخلنا عليه ونحن نظن أنه غول ثقافي! لكن ابتسامته الوادعة أبدته موجة بحر مئناس..! لم تجاسرنا، أنا وأحمد سعيد نجم على الحديث في حضرته إلى أننا قلنا له إننا نمشي في دربه السردي، نحن من جمهورية سرد حنا مينة، ضحك وقال أنتم أبناء المخيمات الفلسطينية، نبات بري! من الطين تصنعون الخزف. منذ تلك المقابلة، وقد محا حنا مينة خوفنا منه، لم نفترق، طاردنا سرده، وسعينا إلى لقائه كمريدين، وتجاسرنا أكثر، فحملنا كتبنا الصغيرة، المطبوعة على عجل، إليه، وكنا نظن أنه لن يفتحها لشواغله الكثيرة ولكنه كان صاحب مفاجآت، يحدثنا عما يشير إلى أنه قرأ لنا، كان يحفظ أسماء بعض شخوص أعمالنا. حنا مينة،وفي توصيف شديد، كان أشبه بمدارس ثلاث: الأولى: أدبية، والثانية: أبوية، والثالثة: عصامية.

في الأولى كان مفرداً في غنى اصطفافه مع البحر وأهله، ومع الفقراء والمهمشين، وهو منهم، وفي الثانية إيمانه الكبير بأن الأدب أجيال على الرغم من الخصوصية، والكاتب الواحد زهرة، والزهرة وحدها لا تصنع ربيعاً.

وفي الثالثة كان حنا مينة الذي بنى نفسه ثقافياًوإبداعيا، بنفسه، وبهذا..فإن ما صنعه حنا مينة كتابة وسلوكية.. لهو حلم النفوس الكبار التي تعرف كيف تحجز لنفسها مطرحاً مجاوراً..للجوزاء.

شيخ الرواية.... .... حنا مينة

صالح يونس -

رحل عن عالمنا الأديب الكبير الأستاذ حنا مينة،بعد أن عمر ما يقرب من القرن، عايش خلاله أحداثا كبرى في تاريخ سوريا والمنطقة، لعل أهمها الحرب العالميةالثانية1945-1939وكتب عنها المصابيح الزرق ...وغيرها ؛ وعايش نكبة فلسطين`1948 ونكبات العرب المتتالية.

كتب عن البحر في وقت لم يكن في الآداب العربية مثل هذا الأدب وخاصة في الأعمال الروائية...وقدم بطله «الطروسي» إلى القراء في «الشراع والعاصفة»، ومايزال الطروسي في مخيلة القارىء العربي على أنه بطل طارىء على عالم البطولة في ثقافتنا، كما قدم نموذجا آخر وهو ديميتيريو، البطل الذي قتلته الأعراف والتقاليد، وقدم نفسه بطلا لرواية السيرة الذاتية «بقايا صور»، وهي من أمتع ما يمكن أن يقرأ في الأدب الروائي، ومن أعماله الأخيرة، القمر في المحاق، والنجوم تحاكم القمر، وقد وضع نفسه كمؤلف تحت تصرف المحكمة التي أقامها أبطال رواياته عليه، وكانت تجربة فريدة في العمل الروائي.

كانت تربطني به علاقة شخصية، وقد تعززت بوساطة الصديق د.عاطف البطرس، وكنا نسعد بزيارته وكان يجبرنا على البقاء عنده؛ حتى ساعات الصباح الأولى ، ومن المعروف عن الأستاذ حنا كرمه وسخاؤه، وطبيعته الشعبية.

كان يردد: «خمسون عاما في دمشق لم أستطع أن أنقل البحر إليها، ولم أستطع أن أنقل دمشق إلى البحر»، وهما عالماه وفضاؤه، ولم يعش بعيدا عن أي منهما.

كان يردد مقولة مكسيم غوركي عندما سئل من أين لك العلم بالاقتصاد فقال:»إنه محفور على ظهري» من المعاناة كتب وأبدع، ومن الواقع استسقى وصنع، ومن الصدق بدأ، ومن هموم الناس تخيل، فكان «المعيش مصدر المتخيل».

وداعا شيخ الرواية والرواة، ستقرؤك أجيال وأجيال، وستكون حيا مع كل جيل، كما المعري وأبوتمام.

وأستعير هنا بيتا لبدوي الجبل ـ وحنا كــــــــان معجبا جدا بالبدوي ـ في رثاء شـــــوقي 1932:

لا الأمس يسلبك الخلود ولا الغد

هيهات أنت على الزمان مخلد

الربان وشيخ 

الياس الحاج -

كتبت غير مرة عن استنكاري حول تصدير إشاعة رحيله في مرات سابقة وقد جددها البعض.. واستنكرت أن هناك من صدقها وبدأ بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي فقلت كمن لا يريد أن يسمع أو يصدق يوما رحيله: وقد طمأنني صديقي البحار الفنان «سعد حنا مينة» عن الرجل الذي نكبر به والده أستاذنا الكبير حنا ( أبو سعد ) وأنه بخير ولا يزال ينبض بعشق البحر والإبحار .

سهلٌ على الإنسان أن يجلس في برج عاجي ويكتب نظريات في علم الاجتماع أو يدرس ويكتب الفلسفة أو ربما الأدب، والواقع أن البرج العاجي لا يخفى عند كثيرين من المفكرين لا بل من الفلاسفة، وهذا يخفي شعورا بالفوقية على الجنس البشري الذي يتخبط في عالمه ويبحث عن خلاص، ولكن الضمير الإنساني يُخرج من حمأة الواقع رسلاً بسطاء لهذه الإنسانية يلهمونها بمواقفهم، وأعمالهم.

من حمأة هذا الواقع وفي غمرٍ من الفقر المدقع تفتّح برعمٌ حطّت عليه السماء قطرة من ندى هي قبلة السماء وبركتها، هكذا كانت ولادة حنا مينه، لقد سُجِّلت في خلاياه منذ نعومة أظفاره معاناة شعبه وبؤس الفقراء، لكي تتحول هذه المعاناة وهذا البؤس فيما بعد إلى نسغ يغذي كيانه ويطلقه في عمل إبداعي لا مثيل له في غزارته وبساطته ورهافة حسه لخلجات القلب الإنساني. وهكذا نسمعه يقول عن نفسه:

أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.

إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في إسكندرونه، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، والتي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل.

عندما طردني من غرفته

د. نضال صالح  -

قبل ثلاث عشرة سنة، أمضيت مع الراحل حنا مينر في سنة 2005 أربعة أيام خلال استضافة جامعة حلب له في «ندوة الرواية السورية»..

لم أكن أغادره إلا عندما كان يطردني من غرفته في الفندق ليتفرغ إلى معشوقاته: الكأس، والسيكارة، والكتابة.

آنذاك تعرفت إليه إنساناً بعد أن تعرفت إلى إبداعه كلّه، وخلال ذلك اكتشفت سرّ الأسرار في الإبداع، أعني الموهبة، والموهبة وحدها، قبل الشهادات، أيّ شهادات، وذلك ما كانت السماء حبته بها، بالإضافة إلى تثقيفه العالي لنفسه، وتجاربه الاستثنائية في الحياة.