أفكار وآراء

واشنطن وبكين.. ومقدمات الحرب الباردة

22 أغسطس 2018
22 أغسطس 2018

عبد العزيز محمود -

لا خلاف على أن الهدف الخفي من الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين هو احباط صعودها كقوة عالمية، والمؤكد أن هذه الحرب ليست إلا جزءا من استراتيجية أمريكية هدفها منع الصين من تجاوز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة مهيمنة على العالم.

ومع تصاعد الحرب التجارية بين البلدين، يبدو أنهما على أعتاب حرب باردة شبيهة بتلك التي اندلعت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بين عامي ١٩٤٧ و١٩٩١، وفي هذه الحالة قد تتحول في وقت لاحق إلى نزاع عسكري يمتد إلى تايوان وبحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية.

والحرب الباردة مواجهة جيوسياسية بين دولتين أو كتلتين تحكمهما اختلافات سياسية واقتصادية عميقة، ومن خلالها يحاول كل منهما تدمير الآخر باستخدام أدوات الحرب الاقتصادية والتكنولوجية والنفسية إلى جانب عمليات التجسس والانخراط في نزاعات إقليمية فيما يُعرف بالحرب بالوكالة.

والحقيقة أن العلاقات الأمريكية الصينية تمر بأخطر مرحلة منذ أربعة عقود، بعد أن تطورت من التعاون المشوب بالحذر إلى التوتر الحاد، في ظل الشكوك المتبادلة والجدل الدائر عالميا حول العولمة، وصعود اليمين الشعبوي والحمائية، وتبني الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسياسة (أمريكا أولا)، التي تستهدف استمرار الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم.

وفي ظل هذه السياسة أعلن الرئيس ترامب حرب التجارة ضد الصين، بدعوى مواجهة العجز التجاري بين البلدين الذي يقدر بنحو ٣٧٥ مليار دولار، لكن الهدف من حرب التجارة كان احتواء الصين لاحباط مشروعها التنموي والتكنولوجي، كما حدث من قبل مع اليابان لاحتواء تقدمها الصناعي والتكنولوجي.

وهكذا تبادلت واشنطن وبكين فرض التعرفات الجمركية الانتقامية، والقيود على صادرات التكنولوجيا وعمليات الاستحواذ والدمج والاستثمار، إلى جانب الدخول في سباق تسلح رقمي، فالمنافسة حول التكنولوجيا الفائقة تشكل الآن لب الصراع، خاصة في مجالات تكنولوجيا الروبوتات والذكاء الاصطناعي والمركبات الذاتية والطباعة ثلاثية الابعاد والتكنولوجيا الحيوية وشبكات الجيل الخامس.

وكان واضحا أن الولايات المتحدة تحاول احباط برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥) لمنع الصين من الهيمنة عالميا على صناعات التكنولوجيا الفائقة، وأيضا احباط مبادرة (الحزام والطريق)، لمنعها من التوسع جيوسياسيا حول العالم.

لكن الصين كانت تدرك أن فشل برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥) ومبادرة (الحزام والطريق) يعني أنها سوف تلقي نفس مصير الاتحاد السوفييتي، لكنها وفي نفس الوقت لا تريد الدخول الآن في مواجهة مع الولايات المتحدة، مما دفعها للإعلان عن استعدادها للتوصل إلى اتفاق حول قضية العجز في الميزان التجاري.

وعبر أربع جولات من المفاوضات بين البلدين، ارتفع سقف المطالب الامريكية من تخفيض العجز التجاري إلى المطالبة بالحد من القدرة الصناعية المفرطة للشركات الصينية، وخصخصة جزء من هذه الشركات، وحرمانها من نقل التكنولوجيا، والتخلي عن تمويل مشروعات البنية التحتية حول العالم.

وكان طبيعيا ان ترفض الصين هذه المطالب، مما دفع الرئيس ترامب للتهديد بفرض تعريفة جمركية على كل واردات بلاده من السلع الصينية، فالخلاف من وجهة نظره بين البلدين أكبر من قضية العجز التجاري، فضلا عن أن استمرار المسار الصيني بوضعه الراهن يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وتوقعاتها. فقد ظلت واشنطن تدعم طوال أربعة عقود برامج الإصلاح والانفتاح والتحديث في الصين على أمل أن تتبنى الأخيرة تدريجيا القيم الغربية، مما يساعد على تغيير جذري في نظامها السياسي، لكن الصين استثمرت هذه الإصلاحات في إقامة نموذج للتنمية الاقتصادية يعتبر منافسا للنموذج الأمريكي في بعض الوجوه على الأقل .

ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي فان الناتج المحلي الإجمالي للصين سوف يصل في عام ٢٠٢٥ إلى ٥٨ تريليون دولار مقابل ٣٤ تريليون دولار للولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الصين سوف تصبح القوة الاقتصادية الاولى عالميا، وهو ما يهدد النظام العالمي أحادي القطب القائم الآن .

وهكذا اندفع الرئيس ترامب في خطته لتحديث الصناعة الأمريكية ومواصلة التقدم في قطاعات التكنولوجيا الفائقة والانترنت، وتبني الحمائية في التجارة لمعالجة الخلل في الميزان التجاري، والزم حلفاء بلاده بزيادة الانفاق على الدفاع وشراء الأسلحة الأمريكية.

وفي المقابل واصلت الصين بقيادة الرئيس شين جين بينج تنفيذ برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥) ومبادرة (الحزام والطريق) في إطار استراتيجية للتنمية متوسطة وطويلة، وبدا أن المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية تشتد بين البلدين، مما يساهم في زيادة الاحتكاكات، والتمهيد لحرب باردة.

صحيح أن الصين تؤكد أنها لا تستهدف بهذه الاستراتيجية تحدي هيمنة الولايات المتحدة، لكن الأخيرة لديها قناعة بأن الصين تحاول أن تحل محلها كقوة عظمي، من خلال من خلال الحرب الاقتصادية والتكنولوجية وتطوير قدراتها الدفاعية، والانتشار الجيوسياسي حول العالم.

وساهم في دعم هذا التصور كون الصين تمتلك ثاني أكبر ميزانية دفاعية في العالم، ولديها أكبر جيش دائم من القوات البرية وثالث أكبر قوة جوية عالمية، بالإضافة الي قوة بحرية تضم ٣٠٠ سفينة، فضلا عن انشائها سلسلة موانئ على امتداد المحيط الهندي، الى جانب الجزر الاصطناعية التي شيدتها لأغراض عسكرية في بحر الصين الجنوبي.

ويبدو مستقبل العلاقات بين البلدين أمام خيارين، إما تعزيز التعاون وحماية المصالح المشتركة والسماح للصين بدور أكبر عالميا، أو فك الارتباط الاقتصادي والدخول في حرب باردة سوف تكون تكلفتها باهظة، خاصة اذا تحولت الي نزاع عسكري قد يشمل تايوان وبحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية. ومع الإعلان عن استئناف المحادثات بين البلدين في وقت لاحق من أغسطس الجاري، يحاول الرئيس ترامب التوصل الي اتفاق سريع لدعم موقف الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ، بينما تفضل الصين التريث لحين إعلان نتيجة الانتخابات،على أمل حدوث تحول مفاجئ في موقف الرئيس الأمريكي على غرار موقفه تجاه اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) والاتحاد الاوروبي وكوريا الشمالية.

وأيا كانت نتيجة الجولة المرتقبة من المحادثات، فالمؤكد أن العلاقات الأمريكية الصينية تمر بأخطر مرحلة منذ أربعة عقود، وما لم يتوصل البلدان الى اتفاق حول نقاط الخلاف، فإن الحرب الباردة بينهما تبدو حتمية.