أفكار وآراء

في الحرب التجارية الأمريكية الصينية..الجميع خاسرون

19 أغسطس 2018
19 أغسطس 2018

د. الطيب الصادق -

إذا أمعنا النظر في الحرب التجارية الدائرة علي أشُدها بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم هما الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية ندرك تماما أنها ليست الحرب الأولى التي تقودها أمريكا بل قادت العديد من هذه الحروب ضد دول العالم المختلفة وكانت «حروب الموز» والحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق وحتى الصراع التجاري مع الاتحاد الأوربي أكبر شاهدين على ذلك.

بكل حال من الأحوال فإن الجميع خاسرون في هذه الحرب التجارية رغم استفادة وقتية لدول أخرى من هذا الصراع بين واشنطن وبكين من خلال استقطاب بعض الاستثمارات الهاربة من السوقين الأمريكي والصيني، واستيراد منتجات أمريكية صينية بأسعار تنافسية، لكن هذه الحرب بكل تأكيد ستقضي علي العولمة الاقتصادية، ليس فقط لأن طرفي النزاع هما كفتا ميزان الاقتصاد العالمي فحسب، بل إن الاتجاه إلى إجراءات بفرض رسوم حمائية وجمركية على السلع والمنتجات الواردة سيسبب ركودا اقتصاديا عالميا ويقضي علي الميزة التنافسية في إنتاج السلع، ويعيق مناطق بعينها من استيراد السلع التي يمثل إنتاجها أكثر تكلفة عليها، وهذه السياسة بالتالي ستؤدي إلى تراجع كبير في الإنتاج العالمي، ولن يتمكن المستهلكون من تلقي أكبر حجم ممكن من السلع مما سيزيد من الأسعار، وهنا بعد أن شهد العالم ثورة تكنولوجية هائلة انعكست على مراحل الإنتاج وتبادل السلع والخدمات وساهمت في زيادة حدة الترابط بين الأسواق والتأكيد على عالمية الأسواق، إلا أن هذه العالمية ستتراجع بسبب الإجراءات الحمائية التي تتخذها بعض الدول وخاصة الكبرى منها.

اذا استمر هذا الصراع ستكون الحرب التجارية بين أمريكا والصين تكرارا لسيناريو عام 1930 عندما قامت أمريكا بإصدار قانون التعرفة الجمركية على الواردات بنسبة تتراوح ما بين 40 % و48 % مما قوبل برد مثيل من الدول الأخرى وهو ما زاد من الكساد الكبير الذي بدأ في عام 1929 لتنخفض التجارة العالمية عام 1932 بنسبة 66% تقريبا مما تسبب في ضرر اقتصادي، وأدى إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي وتضررت منه كل بلدان العالم، حتى أن جميع الدول أصبحت لا تنعم بالحماية التي فرضتها نتيجة عدم وجود أسواق لتصدير منتجاتها بسبب قيام الدول الأخري بالرد بالمثل، ولذلك فالصين نفسها ستتأثر من هذه الاجراءات رغم أنها لم تسع الى هذه الحرب التجارية بل فُرضت عليها ومن مصلحتها عدم الدخول فيها نتيجة للاستفادة الكبرى من دخول منتجاتها للسوق الأمريكية بل استحواذها علي نسب عالية من هذا السوق، ولذلك لم تعد مكتوفة الأيدي بل قامت بالرد السريع وبالمثل بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات المنتجات الأمريكية وهو ما أشعل الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وجعل هذه الحرب تصبح أكثر لهيبا في ظل الانتقادات الموجهة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع التوقع بزيادة تخارج الاستثمارات الصينية من أمريكا التي بدأت بالانخفاض قبل اتخاذ هذه الاجراءات بأكثر من الثلث في عام 2017 لتصل إلى 29 مليار دولار مقابل 46 مليار في 2016 حسب تقرير لجنة العلاقات الأمريكية الصينية ومن المتوقع تراجعها خلال العام الحالي بنسبة كبيرة وهو ما يفقد أمريكا هذه الاستثمارات التي ستتجه الى أسواق أخرى قريبة من الولايات المتحدة كالمكسيك ودول أمريكا اللاتينية، كما أنه متوقع أن تنخفض الاستثمارات الأمريكية في الصين والتي بلغت في عام 2017 حوالي 14 مليار دولار وذلك لنفس الأسباب المتعلقة بالحرب التجارية بين البلدين.

الصين عبرت عن رفضها للقرار الأمريكي وأكدت أنها لن تسمح بأن تدفع ثمن سياسات أمريكية خاطئة، وفقا لوجهة النظر الصينية، ومخالفة لقواعد منظمة التجارة العالمية ومن المفارقة أن تصبح الصين حاليا أكثر الدول دفاعا عن حرية التجارة والعولمة الاقتصادية والانفتاح على العالم الخارجي وترى كما جاء في الكتاب الأبيض الذي أصدرته الصين في 28 يونيو 2018 تحت عنوان «الصين ومنظمة التجارة العالمية» أن العولمة الاقتصادية عززت من النمو العالمي وهو اتجاه لا رجعة فيه وأن انتشار الأفكار المعادية للعولمة في الأعوام القليلة الماضية مع زيادة الحمائية والأحادية، فرض تحديات شديدة على النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي تقع في قلبه منظمة التجارة العالمية.

تداعيات القرار الأمريكي ستنعكس على الاقتصاد الصيني بالسلب لأنها تعتمد اعتمادا كليا على السوق الخارجية، حيث تستورد الصين المواد الأولية، وتصدر السلع الصناعية، واعتماد الصين المفرط على الصادرات يعد من أهم نقاط ضعف الاقتصاد الصيني، حيث تصل الصادرات إلى 20% من إجمالي الناتج المحلي، وتقدر حصة السوق الأمريكية من إجمالي الصادرات الصينية بحوالي 21% وبالتالي سيتأثر اقتصاد أكبر دولة مصدرة للبضائع في العالم وستشهد ركودا أكبر للتجارة البينية مع أمريكا وسينخفض نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 1.4% وبالتالي سينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 5% لذلك ستلحق الصين خسائر كبيرة بسبب افتقادها السوق الأمريكي الذي يعد أكبر سوق عالمي من ناحية السيولة وثقة المستهلكين، واستيراد صناعة التكنولوجيا العالية من أمريكا، بالإضافة إلي استيرادها ثلث إنتاج أمريكا من فول الصويا، إلى جانب 25 % من طائرات البوينج، ومن الصعب على الصين أن تجد بديلا عن أمريكا لكن بإمكانها أن تمارس الضغط على أمريكا لعدم التوسع في هذه الحرب خصوصا أن الصين تتصدر مالكي السندات الأمريكية بواقع حوالي 1.189 تريليون دولار، كما أن هناك صعوبة لقيام الصين بفتح أسواق جديدة بديلة لعدم وجود هذه الأسواق بنفس قوة السوق الأمريكي ولأن ذلك يتطلب بعضا من الوقت وضمان المواءمات السياسية التي يمكن أن تلجأ إليها الولايات المتحدة مع الدول التي ستفتح ذراعيها للسلع الصينية، لكن بكل تأكيد فإن ضرر الصين لن يقل عن غريمتها الولايات المتحدة، فالجميع خاسرون وتصبح الأسواق العالمية مهدد - في حالة استمرار الحرب التجارية - نتيجة لتباطؤ الاقتصاد العالمي المتوقع والذي سيؤثر علي عمليات الإنتاج بالسلب وبالتالي سيؤدي إلى إغلاق العديد من المصانع وخفض العمالة أو تسريحها في ظل الارتفاع الكبير في الأسعار الناتج عن عدم وجود تنافسية في الأسواق وزيادة الطلب علي السلع والمنتجات مع قلة المعروض منها بسبب توقف عمليات الاستيراد من الخارج.

ورغم أن الدول العربية لم تكن طرفا في هذه الحرب لكنها ستتأثر أيضا من تداعيات الحرب التجارية بين بكين وواشنطن نتيجة لأنها جزء من العالم وأن هذه الحرب سيكون لها انعكاس سلبي على جميع الأسواق العالمية بما فيها الدول العربية صاحبة المواد الخام وعلى رأسها النفط والغاز والموارد الأخري لأن انكماش الاقتصاد العالمي وتوقف عجلة الإنتاج سيؤدي إلى تقليل الطلب على استيراد هذه المواد الخام التي تصدرها الدول العربية للدول الصناعية والتي تشكل مداخيل مهمة وموارد رئيسية لموازناتها مما سيؤدي إلى عجز كبير في ميزان مدفوعاتها ولاسيما الدول النفطية في الخليج ستكون أكثر تضررا من الدول العربية الأخرى غير المصدرة.

كل هذه التداعيات السلبية مرهونة باستمرار اشتعال الحرب التجارية بين أمريكا والصين أو أن تأخذ هذه الحرب حجما أكبر من ذلك مما يلحق ضررا كبيرا على جميع الدول وفي الوقت ذاته لا يوجد من يحتوي هذا الضرر ويوقف هذه الحرب، لكن تبادل الضربات بين أمريكا والصين واشتعال الحرب التجارية بين البلدين سيجعل الجميع متضررا.