1386631
1386631
إشراقات

د. كهلان: ما يكاد بالأمة ليس بخاف على أحد.. والاعتصام بكتاب الله هو الحل!

12 يوليو 2018
12 يوليو 2018

تنشئة الأجيال على تدبر القرآن تحصين لهم من شبهات المبطلين وتأويل الجاهلين -

المسلمون اليوم أحوج إلى ما يحقق ألفتهم ويجمع كلمتهم ويرأب صدعهم -

متابعة:  سالم الحسيني -

أكد فضيلة الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن المسلمين اليوم هم أحوج ما يكون إلى ما يحقق ألفتهم ويبعث فيهم ما يجمع كلمتهم ويرأب صدعهم ويحقق فيما بينهم المعاني التي أرادها لهم ربهم- تبارك وتعالى- حينما شرع لهم دينهم الحنيف.. مؤكدا أن واقع المسلمين اليوم يدعو إلى أن يتمكنوا من معاني قرآنهم العظيم، ليردوا بها على شبهات المبطلين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المغالين.. وأن العقيدة هي تصل أهل الإيمان ببعضهم البعض، ويرسى على أساسها بناء المجتمع، فلا نسب أعظم من نسب الدين، مشيرا إلى أن الذي يُكاد بالأمة ليس بأمر خافٍ على أحد وأنه لا سبيل إلى التصدي لهذه الشبهات والأباطيل إلا بمزيد من الاعتصام بكتاب الله عز وجل، وأن تنشأ أجيال المسلمين على التدبر في آيات القرآن العظيم ليتمكنوا من تحصين أنفسهم من هذه الشبهات والأباطيل.

وأوضح الخروصي في محاضرته أن هناك محاولات جادة تسعى في هذه الأمة لكي تعزلها عن أصولها التشريعية من كتاب ربها ومن سنة نبيها محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولا مناص للمسلم اليوم من أن يكون على وعي ودراية بمثل هذه المكائد وأن يزداد إقبالا وتمسكا بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جاء ذلك في محاضرة له ألقاها مؤخرا بجامع السلطان قابوس بجعلان بني بو علي تحت عنوان: «لطائف قرآنية».. وهنا الجزء الأول منها:

استهل فضيلته هذه المحاضرة قائلا: أيها الإخوة أي شيء يمكن أن يكون أحق بجمع كلمة المسلمين وتأليف قلوبهم وتحقيق التآخي والتعاطف والتراحم فيما بينهم من كتاب الله عز وجل، فلئن كانت غاية كل عاقل من أبناء هذه الأمة أن يتلاقى مع أخيه المؤمن على مائدة التقوى والخير والصلاح والاستقامة فإن منشأ ذلك لا يمكن أن يكون إلا على مائدة القرآن، فربنا تبارك وتعالى يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ويخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).

وقال: إذا كان حديثنا عن كتاب الله عز وجل تدبرا في معانيه وتأملا في عظاته ودروسه، واستفادة من حكمه وأحكامه فإننا لسنا بحاجة إلى مبررات، لكن بعض الأسباب أظهر من بعض، ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى ما يحقق ألفتنا ويبعث فينا ما يجمع كلمتنا ويرأب صدعنا ويحقق فيما بيننا المعاني التي أرادها لنا ربنا- تبارك وتعالى- حينما شرع لنا دينه الحنيف، فكيف ونحن نعلم أن واقع المسلمين اليوم يدعو أيضا إلى أن يتمكن المسلمون رجالا ونساء شيبا وشبابا من معاني قرآنهم العظيم، ليردوا بها على شبهات المبطلين، وتأويل الجاهلين، وانتحال الغالين، لأن الذي يكاد بهذه الأمة ليس بأمر خاف على أحد، ولا سبيل إلى التصدي لهذه الشبهات والأباطيل إلا بمزيد من الاعتصام بكتاب الله عز وجل، وأن تنشأ أجيال المسلمين على التدبر في آيات القرآن العظيم ليتمكنوا من تحصين انفسهم من هذه الشبهات والأباطيل ثم من هداية هذه الإنسانية الحائرة إلى شاطئ الأمان وإلى بر الخير والرحمة والهدى والنور، فالحق سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، ولا يخفى أن محاولات جادة تسعى في هذه الأمة لكي تعزلها عن أصولها التشريعية من كتاب ربها ومن سنة نبيها محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولا مناص للمسلم اليوم من أن يكون على وعي ودراية بمثل هذه المكائد وأن يزداد إقبالا وتمسكا بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم.

مشيرا إلى أن هذه الأسباب مجتمعة إضافة إلى شغف- كما هو شغف كل واحد منكم- بآيات الكتاب العزيز إذ تتعلق بهذا الهدى والنور القلوب وتهفو النفوس وتستنير العقول، وتتقد الضمائر وتتصل بالخالق سبحانه وتعالى إيمانا وإسلاما وانقيادا وطاعة له وحده سبحانه وتعالى، لهذا آنس دائما أن يكون حديثي حول بعض اللطائف القرآنية.. وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين.

وأضاف: قد اخترت لكم الليلة آية من كتاب الله عز وجل تتعلق بنبيه الكريم سيدنا نوح عليه السلام، فلئن كان الله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).. مؤكدا أن ذلك يعني أننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحق الناس بميراث النبوات السابقة، وفي مقدمتها ميراث رسول الله تعالى نوح عليه السلام، خصوصا أن في سيرته وما جرى له مع قومه من العبر والآيات والعظات ما نحن اليوم في مسيس الحاجة إليه، لكننا نقرأ أحيانا ولا نتدبر، نسعى إلى أن نأخذ من وردنا من القراءة طمعا في الأجر والثواب والتماسا للبركة دون أن نفتح نوافذ قلوبنا، وعقولنا لما تشتمل عليه الآيات التي نتلوها من عظات وعبر، فلو سألت الحضور: هل وجدوا فعلا أن ما يقرأونه من آيات الكتاب العزيز هو أحسن الحديث، فالله تبارك وتعالى يقول: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، متسائلا: هل تجدون ذلك في قرارة نفوسكم حينما تقرأون آيات الكتاب العزيز؟.. وقال: لا أريد جوابا جهريا، أريد كل واحد منا أن يقف مع نفسه وقفة صادقة، هل يجد ذلك الإعجاز البياني ويتذوق ذلك الجمال والإعجاز في آيات الكتاب العزيز حينما يتلو ويقرأ؟ فان وجد نفسه مترددا في الجواب، فليراجع حساباته، وليعلم انه ما أوتي إلا من قبل إهماله للنظر والتأمل والتدبر في آيات الكتاب العزيز، والله سبحانه وتعالى يقول: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، ويقول سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، موضحا أن من مقاصد استشهدي بآية أو آيتين لنقف عندها ولنعطي عقولنا ونفوسنا الفرصة لكي تتأمل وتتدبر حتى نلمس الفارق حينما نسمح لأنفسنا أن نقف مع آيات الكتاب العزيز شريطة أن نفتح قلوبنا وان نهيئ عقولنا وان نتطلب ما أودعه الله تبارك وتعالى مع معان في آيات كتابه فان الله سبحانه وتعالى سيأخذ بأيدينا ويلهمنا رشدنا.

وأضاف قائلا: الآن مع الآيات التي نقف معها الليلة، يقول الله تبارك وتعالى في سورة هود: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، نقرأ هذه الآية ولا نقف عندها كثيرا، هنا الآية تتحدث عن سيدنا نوح عليه السلام في دعاء يتضرع به إلى ربه سبحانه وتعالى، وحتى نفهم هذا المشهد لنعد قليلا لنتحدث عن سيدنا نوح عليه السلام، فما الذي تعرفونه عنه عليه السلام؟ وكم مكث في قومه؟، لقد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وقد وجد شيئا من العنت والمشاق في دعوته لقومه، وإلا ما احتاج أن يكرمه الله تبارك وتعالى إلى يمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ولذلك نجد في سورة نوح انه نوّع الأساليب بين الدعوة إسرارا وجهارا وإعلانا في الليل وفي النهار وبالدعوة إلى الاستغفار وبالترغيب والترهيب، لكنهم ما ازدادوا إلا عتوا ونفورا، وقد مكث فيهم هذه الأزمان، ومع ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)، فتصوروا لو أنه مطلوب منه أن يقدم تقريرا سنويا بنتائج دعوته كم دخل في الإسلام كل عام طوال هذه السنوات؟ ما آمن معه إلا قليل.

وأردف قائلا: هذا أيها الإخوة هو الدرس الأول فلا عذر لواحد منا، الظروف من حوله صعبة، مطالب الأسرة كثيرة، مشاغل الوظيفة، المرأة، الأولاد، الصحة، المال، المسكن، قارنوا أنفسكم بنوح عليه السلام، ولا يلزم أن تقارنوا أنفسكم بالألف عام، يكفيكم أن تقارنوا ولو بمائة عام من اجتهاد نوح عليه السلام، حتى نفهم هذا الدعاء الذي تضرع به نوح في آخر المطاف إلى ربه تبارك وتعالى، وقد ذكر ابن القيم في «مدارج السالكين» يقول: إن صبر نوح هو أعظم صبر على الإطلاق، وهو أعظم من صبر أيوب عليه السلام، لأن نوحا عليه السلام وعد معه عليه السلام إبراهيم وموسى لكنه صدّر الحديث بنوح عليه السلام، فقد صبر لله ولذلك فصبره أعظم واستحق أن يكون من أولي العزم من الرسل، ثم انظروا في قوم نوح، ما الذي تتصورونه عنهم؟ هل كانوا مطواعين يجادلون بالحسنى ولذلك احتملوا نوحا عليه السلام هذه المدة الطويلة، قد يتصور الباحث هذا ولا ينتبه أن القرآن الكريم يبين لنا طبيعة القوم الذين كان فيهم نوح عليه السلام، فقد قال عنهم في سورة النجم: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) فقد قيل ذلك انه على الإطلاق، وقيل فيمن جاء بعد نوح عليه السلام من المذكورين، ولكن الآية تدل على أنهم أظلم وأطغى على الإطلاق، أي أنهم كانوا أشد تعنتا وأكثر تمردا، وأبلغ في الصدود عن دعوة الحق، وفي النكاية بنبي الله تعالى نوح عليه السلام وفي إنكار معجزاته والتصدي له، ولذلك: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وبيّن الخروصي في محاضرته قائلا: حتى لا يحتج أحد ويقول: إن نوح عليه السلام قال: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، وهذه ما قالها إلا بعدما قالوا هم له: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وحينما أوحى الله تبارك وتعالى إليه قائلا له: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).. مبينا أن الصورة أصبحت أوضح قليلا، فيما يتعلق بنبي الله تعالى ورسوله الكريم نوح عليه السلام، وفيما يتعلق بفهمنا لقومه، والآن لننتقل إلى صورة أخرى أيضا في سورة هود، تسعفنا على فهم سر دعاء نوح عليه السلام وما فيه من العبر والعظات، يقول ربنا تبارك وتعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)، فإذن جاء أمر الله تبارك وتعالى إلى نوح عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل أمة زوجين اثنين، وان يحمل معه أهله إلا من سبق عليه القول، ومن سبق عليه القول إنما هي امرأته وكانت كافرة مشركة - وسنأتي إلى ابنه - لكن الذي يؤكده كتاب الله عز وجل أن من أهل نوح عليه السلام الذي يعلم انهم مشركون وانه اطلع على انهم لن يكونوا معه في السفينة امرأته، ثم قال: (وَمَنْ آَمَنَ) أي أن يحمل معه في السفينة من آمن معه، ونحن نعلم انه ما آمن معه إلا قليل، وهنا لما حان موعد إهلاك قوم نوح بالطوفان كما تعلمون رأى نوح ابنه قبيل الغرق، وكان في معزل فقد عزل نفسه عن الكافرين فقال له نوح عليه السلام: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)، قال: (سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

وأضاف الخروصي متسائلا: هل كان ابنه مشركا، فلما عزل نفسه رأى نوح فيه بوادر الإيمان؟ وتذكر وعد الله تبارك وتعالى له بأن يحمل معه أهله، ولا شك أن ابنه من أهله فطمع ورجا أن يكون قد هم بالدخول في الإيمان فقال له: (اركب معنا).. مشيرا إلى أن ذلك قول عند طائفة من المفسرين، وقيل: بأنه لم يكن من أهل الشرك، بدليل أن نوح عليه السلام لما دعا ربه قائلا: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) جاء الجواب: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، مبينا أن ذلك يعني أن امتناع ابن نوح عن الركوب في السفينة امتثالا لأمر الله تبارك وتعالى الذي بلغه إياه أبوه نوح عليه السلام هو العصيان، وهو العمل غير الصالح، لأنه لم يمتثل لأمر الله وقال: (سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)، ولذلك قال: انه عمل غير صالح، وهذا أقرب وأظهر يتناسب مع السياق ويتناسب مع منزلة نوح عليه السلام لأنه حينما دعا ربه: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) لا ريب أن هناك سببا دعاه إلى ذلك لكي يذكّر بابنه، كما يقول عدد من المفسرين الشفقة الأبوية لكننا نتحدث عن هذا النبي الكريم فالذي يتناسب مع سياق القصة أي يكون ابنه قد عصى ربه بالامتناع عن الركوب في السفينة وامتثال أمر الله بالركوب فيها فعزل نفسه وقال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.

وقال: دعونا نقف مع هذه الآية الكريمة: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) أين هو الطلب في هذا الدعاء؟ متسائلا: هل تجدون طلبا؟ فما أروع هذه الآية القرآنية، وما ابلغ هذه العظة! انظروا إلى هذا النبي الكريم كيف يخاطب ربه تبارك وتعالى، فهذا هو هدي الأنبياء، وهذا هو الأدب الذي ربى الله سبحانه وتعالى عليه أنبياءه ورسله الكرام، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم يدعو بكل تذلل وبكل أدب، وبكل تواضع يخاطب ربه: (إن ابني من أهلي) فهو يعبر عن مكنون نفسه من العاطفة الحانية على ابنه، وقد يشمله ذلك الوعد: (وأهلك إلا من سبق عليه القول)، وقد رآه عزل نفسه فهذه بوادر إيمان، ولكنه مع ذلك يقف في هذا الموقف موقف المتذلل المتواضع الخاضع بين يدي الله تبارك وتعالى، فيقول: إن ابني من أهلي، وان وعدك الحق، لا يخلف، ومع ذلك في كل الأحوال أنا مقر معترف انك احكم الحاكمين، فأنت الملك العدل الحق المبين، حكمك عدل ونافذ في عبادك، فيأتيه الجواب: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فقد انتفى السبب، فما أحرى أن نتحلى نحن اليوم بمثل هذا الأدب النبوي، في ندائنا لربنا، تضرعنا ودعائنا، بل في تعاملنا مع الآخرين، ثم انظروا في هذه التربية الربانية فليست المسألة مسألة القرابة في النسب، وليست المسألة مسألة وراثة في الدم، كل هذا باطل زائل، إنها العقيدة والعمل الصالح، انه الإيمان والتقوى، هي التي تصل أهل الإيمان ببعضهم البعض، وهي التي يرسى على أساسها بناء المجتمع، فلا نسب أعظم من نسب الدين، ولا ولاية يمكن أن تداني ولاية الإيمان، والعمل الصالح.

وأشار الخروصي إلى أن معنى قوله تعالى: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أي لا تسألني ما ليس لك به علم صحيح، لان هذا ليس من شأن الأنبياء والرسل وأهل الإيمان إنما هو من شأن الجاهلين، الذين يظنون أو يمكن أن يظنوا أن المنزلة عند الله سبحانه وتعالى إنما هي بالأحساب والأنساب والوراثة والدم، أما في موازين الله تبارك وتعالى فهو: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فهل فهمنا نحن هذه المعاني؟ وهل أعطينا أنفسنا الفسحة لكي تقف مع مثل هذه العظات التي لا تحتاج إلى كبير عناء، حتى ندرك أو نتدبر بعض دلالاتها ومعانيها؟.

(تكملة المحاضرة في الحلقة المقبلة)