1384087
1384087
المنوعات

سـالـونـيـك .. المدينـة الواقعـة بيـن ملتقـى الحضـارات وتحـديـات العـولمـة

07 يوليو 2018
07 يوليو 2018

سالونيك- اليونان: أحمد بن علي الذهلي -

ما بين الشواهد التاريخية الدالة على عظمة التراث الإنساني،وما أنجزته الحضارات عبر الحقب المتتالية لعصور قضت الأيام على أصحابها.. ثمة حديث طويل لا يمكننا تجاوزه أو إغفال أهميته من ارث الشعوب وتاريخها العظيم، ومدى تأثيره على متغيرات العالم الجديد، الذي يموج بالكثير من التحديات والمتغيرات.

وفي هذا العالم المترامي الأطراف، هناك خبايا كثيرة، وأجزاء عديدة لا نعرف عنها الكثير، ربما يأخذنا الفضول، فنقرأ بعضا من القشور التي لا تغرق معارفنا بكافة التفاصيل، ولذا يبقى لب الحياة،وطبيعتها سرا يصعب علينا معرفته،إلا من خلال التعمق في جوف المجتمع والاندماج فيه، إننا عندما نعبر القفار الواسعة والبحار والمحيطات، تتكشف أمامنا الكثير من الحقائق المجهولة، وتضيء في دروب أذهاننا أجزاء مهمة قد نجهلها، رغم الذي نقصده هو ركن مهم من كرتنا الارضية، ربما الاسماء في بعض الأحيان تتشابه، لكن نمط الحياة وطبيعتها،تختلف جذريا من مكان إلى آخر، وفي كل زيارة لوطن بعيد أو قريب، ندرك جليا عظمة الخالق في قدرته قبل كل شيء، وذلك في تسييره لأمور الحياة،ومنها البشر على وجه البسيطة،فتبارك الله احسن الخالقين.

في سياق الحديث التالي،نكشف وجها مضيئا من عالمنا المترامي الاطراف،في رحلة سياحية الى ثاني اكبر المدن اليونانية وهي «سالونيك » أو كما تنطق هكذا لدى البعض، رحلة السفر تستغرق من مسقط تقريبا نحو 6 ساعات جوا،لكن لا بد لك من التوقف بمحطة تحويل الرحلة في مدينة دبي،ومن ثم تنطلق مباشرة إلى وجهتك.

رحلتي إلى سالونيك كانت في إجازة نهاية الأسبوع الماضي، انطلقت من دبي عند الساعة التاسعة صباحا، قطعنا المسافة في 5 ساعات تقريبا،عبرنا أجواء عربية كالعراق ثم تركيا ودول أخرى الى ان وصلنا إلى مطار مقدونيا عند الواحدة والنصف تقريبا، الانطباع الأولي منذ الوهلة الأولى، أنها مدينة لها رونقها الخاص؛ فهي تجمع ما بين الماضي المتأصل في شكل معالمها الأثرية، والتي لا تزال شامخة في صدر المدينة النابض بالحياة، برغم التحولات التي تشهدها الدول، وانصهار المجتمعات في حمى التمدن، و مواكبة العولمة،وما يفرزه الاخير من تحديات جسيمة على نمط معيشة الشعوب والأمم في شتى بقاع الأرض، مكثت في مدينة سالونيك نحو 72 ساعة فقط - اعتقد بأنها مدة كافية لتكوين صورة واضحة للقارئ - الساعات قضيتها في هذه المدينة الوادعة في القطر اليوناني المثقل منذ فترات ماضية بالعديد من الأزمات الاقتصادية التي عصفت به، ولكن الجديد أن بشائر التعافي بدأت الآن تظهر جليا في هذا البلد في اقتصاده، بفضل حزمة الإنقاذ التي قدمت اليه من دول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول.

وجاءت الزيارة إلى مدينة سالونيك اليونانية، بدعوة من شركة طيران فلاي دبي، التي دشنت خطها الجديد لهذه الوجهة منذ أيام قليلة،وضم الوفد الإعلامي عشرة من الصحفيين والاعلاميين من وسائل الاعلام المختلفة تم اختيارهم من العاملين في المواقع الالكترونية الرائدة في الوطن العربي،والاذاعات والصحف المتميزة ومن ضمنها صحيفة عمان وبعض المجلات الواسعة الانتشار، يمثلون جنسيات عدد من الدول بما فيها سلطنة عمان و الهند والإمارات وبريطانيا وامريكا وروسيا غيرها.

حين بدأنا الهبوط التدريجي الى مطار المدينة (مقدونيا)، ومنذ الدقائق الاولى التي شعرنا باننا في المجال الجوي لمدينة سالونيك، كانت انظارنا تسقط من السماء لتعانق الأرض، كما سحبتنا الجاذبية اكثر الى الارض، كلما تسرب في جوفنا شعور انساني ممتزج بالفضول نحو معرفة ما تخبئه الحياة بعيدا عنا،وهذا يتضح من خلال نظرنا الطويل من نافذة الطائرة الى الخارج، هبوطنا في مطار مقدونيا لم يكن سهلا،وذلك لصغره نسبيا امام الحركة الجوية،فتضاريس المدينة وموقع المطار الجغرافي الملاصق للمنازل،وشدة الرياح المعاكسة كانت تختبر قدرات الطيار في عمله، بعد أن استقرت الطائرة في مكانها الصحيح، اطفأ قائد الكابتن أضواء ربط الاحزمة، وتحدث الينا المضيف مرحبا بنا في المدينة متمنيا لنا إقامة سعيدة، حملنا امتعتنا الشخصية، وتوجهنا خارج الطائرة حيث الحافلة كانت في انتظارنا، دخلنا صالة الوصول وجدناها تعج بالمسافرين، فوصولنا تزامن مع وصول العديد من الرحلات الخارجية أو الداخلية، وقفنا في الطابور كلا يحمل جواز سفره، سرني جدا سرعة انجاز اجراءات السفر من قبل الموظفين، وهذا مكننا من الفرار سريعا من الوقوف في طوابير طويلة.

حملنا حقائبنا سريعا،والتقينا بمن كان ينتظر وصولنا في المطار، بعد اكتمال العدد والحقائب، انطلقنا الى الحافلة التي اقلتنا الى فندق ميت الذي لا يبعد كثيرا عن المطار،لكنه يتوسط المدينة،وعند الوصول اعطينا قليلا من الوقت لتنظيم امورنا مثل استلام الغرف وتغيير ملابسنا وغيرها، وفي الوقت المحدد، التف الوفد على مائدة الغذاء في الفندق،حيث استقبلنا عدد من المديرين والمسؤولين بالترحاب، وتبادلنا أطراف الحديث والتعارف، والمدهش ان احد المديرين كان عربيا من اصول (لبنانية)،تحدث إلينا باللغة العربية بطلاقة،وهذا الأمر سرني جدا ان يكون هناك من بني جلدتنا في هذا الموقع،عقب ذلك خرجنا في جولة في وسط المدينة،وكانت البداية الذهاب الى فندق اليكترا بالاس،وهو من الفنادق القديمة ويطل على ساحة ارسطو الشهيرة،قمنا بجولة ميدانية في أقسام الفندق الذي وجدناه يحمل الطابع القديم، وتم اضافة العديد من اللمسات الحضارية ليظل محافظا على رونقه وجمالياته ومواكبا للتمدن، ثم تناولنا وجبة العشاء في مطعم الفندق الذي يقع في الطابق الاخير، وبه بانوراما جميلة جدا، تكشف للجالس في المكان جمال المدينة وروعتها خاصة وهي تودع النهار،وتستقبل المساء بأنوار مضيئة، الساحة تعج بالزوار، فكما قيل لنا إنها تمثل جزءا مهما من حياتهم، فهم يستمتعون بالاجواء الجميلة مع اطفالهم،وفي حديث جانبي مع الدليل السياحي الذي رافقنا خلال الرحلة اشار إلى أن الساحة تم تصميمها في عام 1918 من قبل المهندس المعماري الفرنسي إرنست هبرارد،أي انها شيدت عند انتهاء الحرب العالمية الاولى، وايضا يوجد بالقرب من الساحة مسرح ودار للسينما، وهذا ما يجعل الزوار يتوافدون من اماكن مختلفة من المدينة، بهدف الاستمتاع بالاجواء ويحرصون على أن يتناولوا أجمل المأكولات المحلية بالمطاعم التي يفوح من أركانها عبق التاريخ، ومع مرور الوقت شاهدنا الشمس وهي تتوارى خلف الجبال المحيطة بالمدينة، في مشهد يذكرنا كثيرا بجماليات الليل وسكونه، فهي أجواء فريدة تمزج بين الرومانسية والهدوء، كنا ننظر الى الساعة باستغراب، صلاة المغرب موعدها عند الساعة التاسعة ليلا،اما موعد صلاة العشاء فيحين عند الحادية عشرة والفجر عند الرابعة صباحا.

قيل لنا إن هذه المدينة لا تنام مبكرا كعادة بعض المدن في أوروبا، فهي تظل ساهرة بحركة الناس رغم الهدوء النسبي الذي تشاهده في أماكن عديدة من المدينة، يبقى أن نشير إلى أن حالة الجو بالنسبة لنا جميلة فهي عند الثلاثينات أو اقل بقليل، لكن سكان سالونيك يرونها انها مرتفعة، اما فترة المساء وخاصة الليل فنسيم البحر يسحرك بعليله فهي تطل على شريط ساحلي وفي تضاريسها الجبال،وتتضح صورها من الطائرة التي تحلق على ارتفاع منخفض فتشاهد الطرق المعبدة التي شقت بين جبالها السمراء.

عقب وجبة عشاء ثقيلة، ترجلنا خارج الفندق،وعبرنا ساحة ارسطو باتجاه البحر، ثم مشينا بمحاذاته، كان لا بد ان نمشي قليلا حتى نستطيع ان نطرد الكسل الذي جاءنا فجأة، أعجبني المطعم كونه يقدم قائمة من المأكولات اللذيذة، في طريقنا على البحر شاهدنا كيف السكان يحافظون على ممارسة الرياضة،وأدهشني أن هناك طريقا مخصصا لاصحاب الدراجات الهوائية لا يسمح لنا نحن المارة بالدخول اليه الا طبعا المتطفلين او الذين لا يحترمون قواعد السير،وبما اننا وصلنا الى مدينة سالونيك في آخر ليلة يوم عمل فإن المكان يعج بالسهارى، و السبت هو اجازة.

بعد السير لمسافة لا بأس بها، قررنا العودة إلى الفندق حيث الساعة تشير إلى الواحدة ليلا،وفي مسقط الثانية بعد منتصف الليل،بمعنى أن هناك فارقا في التوقيت ساعة واحدة فقط ، نمط الحياة في هذه المدينة، يختلف عن الطابع الغربي الذي تسكن فيه الحياة قبل السابعة ليلا، وهذا فرق آخر يحسب لهذه المدينة، خلدنا الى النوم ونحن نحلم بصفحة جديدة تكشف لنا جوانب أخرى مشرقة.

زيارات سياحية

مر الليل سريعا، الفجر عند الرابعة صباحا، رتبنا امورنا على ان نصحو مبكرين من اجل تناول وجبة الافطار، والتجمع في الوقت المحدد وهو التاسعة والنصف صباحا، حيث ينتظرنا جدول زيارات مزدحم، فهناك اماكن عديدة يجب علينا ان نزورها، وفي الوقت المحدد، ركبنا الحافلة وتوجهنا الى المحطة الاولى وهي زيارة البرج الابيض، وهو بناء اسطواني الشكل بني من الحجارة، و سجل هذا المعلم الاثري حضوره كرمز لهذه المدينة،فيعود الهدف من بنائه في الأساس للدفاع عن المدينة في العهود البيزنطية والعثمانية، وحاليا يحتوي على بعض الصور التي تتحدث عن تاريخ المدينة، وهذا سبب مهم في جذب،وقبول واسع من الزائرين من سائحي وقاصدي هذه المدينة الرائعة على زيارته، وهنا اشير الى انه ليس صحيحا كما يشاع ويكتب عبر المواقع الالكترونية بانه يحتوي على متحف يعرض المقتنيات القديمة.

وبالقرب من المكان كانت هناك سفينة، تقدم خدماتها في نقل من يرغب من الزوار في ركوب البحر، دون اي رسوم مادية، ما عدا المشتريات التي يشتريها من ظهر السفينة، ويقف على مدخل باب السفينة رجل يرتدي ملابس غريبة وبيديه خواتم وحلي وهو بذلك يمثل شخصية القرصان،يدعونا للدخول والاستمتاع بالاجواء، ورغم رفضنا الفكرة، كان القرصان ودودا جدا معنا حين تحدثنا الينا.

وليس ببعيد عن البرج الابيض وعلى البحر مباشرة،يقف نصب الاسكندر الاكبر المقدوني، وامامه ساحة واسعة،يتم تنظيم بعض الفعاليات بها،والكثير من السياح وحتى من ابناء المدينة يحرص على التقاط الصور التذكارية لهذا النصب.

عقب ذلك انتقلنا الى قوس غاليريوس (أو كامارا) وهو على الأرجح الهيكل الروماني الأكثر تميزا في سالونيك، وللاسف لم يتبق منه الا البوابة الرئيسية التي لا تزال تحافظ على متانتها، وايضا مصدر جذب للسياح في التقاط الصور امام هذا القوس،و يمكن للزوار أن يشاهدوا تسلسل المعركة المحفورة بشكل جميل على الأركان المتبقية للممر الرئيسي بالقوس.

وعلى بعد امتار قليلة يوجد أقدم نصب تذكاري وهو نصب روتندا وهو عبارة عن مبنى مستدير ضخم يمثل أول معبد روماني، ثم تحول إلى كنيسة مسيحية، ثم مسجد لم يتبقَ منه إلا مأذنة حيث تم اقتطاع الجزء الأعلى من المنارة. واصلنا المسير، وتذكرنا أن المدن الأوروبية تهتم كثيرا بدور العبادة، فكان لدينا فرصة الدخول الى كنيسة القديس ديمتريوس أو كنيسة هاغيوس ديمتريوس ويعود تاريخ الكنيسة إلى التاريخ الذي كانت مدينة سالونيك ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية البيزنطية، وتعتبر هذه الكنيسة هي واحدة من أقدم المباني الدائمة.

عندما وصلنا الى المدينة كنا نرى المنازل تصطف لتصل الى قمة الجبل، وكنا نتساءل كيف يمكننا الوصول الى هناك، وشاءت الاقدار أن تكون الاجابة ضمن برنامج الزيارة حيث أخبرنا المرشد السياحي بان هذا المكان يوجد به المدينة القديمة والتي تقع على سفح الجبل، وفي طريقنا شاهدنا كيف تبدو المنازل بانحدار شديد،وتناغم في اللون والمنظر،وصلنا إلى سور المدينة القديمة المتبقي، حيث تنتشر بعض المحال التي تبيع بعض التذكارات التي تجسد المدينة القديمة وسورها العظيم، في قمة الجبل هناك بعض المقاهي الصغيرة المطلة من الأعلى إلى الأسفل حيث تشاهد المنازل بانحدارها إلى أن تصل إلى البحر، قادتنا اقدامنا الى أحد المقاهي التي تفوح منها رائحة القهوة اليونانية،واستمتعنا بالمنظر الرائع، ثم عاودنا الانطلاقة مرة أخرى حيث توجهنا الى السوق القديم،حيث كان محطتنا الاولى تناول وجبة الغداء، كنا حذرين في طلب الاكل، ونسأل عن ما هو مباح من المأكولات، وخلال جلوسنا الطويل كان الحديث ينصب حول مباريات كأس العالم، والفرق المغادرة، والمرشحة للفوز، انتهينا من الغداء ثم اخذنا جولة في السوق، والذي يسمى باليونانية (بازار) وفيه يباع كل شيء قديم وحديث، وايضا هناك سوق للفواكه والاسماك واللحوم وغيرها،كانت الشمس لا تزال في كبد السماء، قررنا العودة الى الفندق من اجل الراحة والاستعداد لمواصلة استكشاف المدينة.

وصلنا الفندق في الثامنة والنصف أي قبل حلول الظلام، وفي الوقت المحدد للخروج توجهنا نحو احد المطاعم الشهيرة في سالونيك حيث يقدم العديد من الاصناف والمأكولات مثل:الاسماك واللحوم والدجاج لكن الشيء الملاحظ ان المائدة اليونانية قريبة جدا من العربية خاصة المقبلات، وبالتالي فإن الزائر الى سالونيك لن يألو جهدا في البحث عن الاكل الحلال.

اخذنا وقتا طويلا في تناول العشاء،لان العرف السائد في المطاعم اليونانية ان الأكل لا يأتي مرة واحدة،وإنما على فترات وبالتالي لديك المجال في الحديث مع اصحابك، عقب ذلك خرجنا الى البحر حيث استمتعنا بالسيرعلى الطريق البحري الذي يعج كعادته بالناس، كل يتبع سبيله، شاهدنا بعض المواهب الموسيقية والتي تسمى فن الشارع، وهي طريقة لكسب الرزق من المارة كنوع من الدعم لهم، بعد ليوم طويل عدنا الى الفندق الذي سنودعه فالغد، أحسست بان هذه المدينة رفيق مخلص لكل من يقترب منها أو يرنو إليها.

محطتنا الأخيرة

وفي اليوم التالي، جاءت محطتنا الأخيرة في ثاني مدينة يونانية، اعتادت منذ عصور على ان تنام،وتصحو على ذراع البحر، تستلهم من التاريخ أصالتها،ومن تعاقب الحقب حكايات تبقى خالدة في أذهان من يسكنها؛لتظل أحداثنا تسرد على مسامع ابنائها او لمن يأتي إليها.

وقبل ان أنسى، المدينة تعج بالكثير من الطلبة الذين يتوافدون اليها بقصد الدراسة حيث الجامعات تفتح ابوابها لهم، ولذا فوجودهم بكثرة في الشوارع والمقاهي، امر ليس بغريب، فقد اعتاد الزوارعلى رؤيتهم،كل من يزور المدينة لابد ان تدهشه حالة السكون التي تعيش فيها، فهو الوجه سائد،وملازم لها في كل جزء من سالونيك الحالمة والمرحبة بالزوار.