أفكار وآراء

الجسر الجوي فوق برلين ..نموذج تحتاجه أوروبا وأمريكا الآن !!

06 يوليو 2018
06 يوليو 2018

سمير عواد -

مر سبعون عاما في الأسبوع الماضي على حدث نشأت على أساسه قاعدة العلاقات الألمانية - الأمريكية بعد نهاية العهد النازي مع نهاية الحرب العالمية الثانية ، على أيدي الحلفاء الأربعة الكبار (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا وفرنسا) .

لكن هذه المناسبة لم تشهد احتفالات كما كان يتم في الماضي؛ لأن دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، يعمل منذ استلامه منصبه قبل أكثر من عام، في الضغط على العلاقات مع برلين بشكل ملحوظ ، وآخر قراراته التي استفزت الألمان اعتزامه سحب القوات الأمريكية من ألمانيا وهم قرابة 35 ألف جندي. لكن العلاقات الألمانية - الأمريكية عرفت أياما أفضل خلال السنوات الماضية.

ففي عام 1948 وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت قبل ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ ، باستسلام ألمانيا النازية في الثامن من مايو 1945، وكلف حلم هتلر بإقامة إمبراطورية نازية سقوط ملايين البشر، وكانت ألمانيا تسعى للنهوض من ركام الدمار الذي ألحقها به الحلفاء المنتصرون، كان سكانها يأملون بأوقات تنسيهم الحرب لولا أن تبعهتا حرب باردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق ، أي بين المعسكرين الغربي والشيوعي، وكانت برلين مسرح هذه الحرب حيث كانت المدينة تحت وصاية الحلفاء الأربعة وبينما تقاسم واشنطن ولندن وباريس الشطر الغربي من المدينة، سيطر السوفييت على شطرها الشرقي. وبعد تقسيم ألمانيا إلى شطرين تحولت برلين الغربية إلى جزيرة تابعة للمعسكر الغربي محاطة بدول المعسكر الشرقي. وفي 20 يونيو 1948 حصل حدث أدى إلى حدوث تصعيد في الصراع بين الشرق والغرب واختبارا لقوتهما في ذلك الوقت . فقد قرر الحلفاء الغربيون إصدار عملة ألمانية في ألمانيا الغربية سميت بالمارك، لهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي في ألمانيا وكان بديهيا أن يتم تداول العملة الجديدة في برلين الغربية أيضا لكن الاتحاد السوفييتي رفض لأنه كان يخشى تداولها في برلين لأنه كان يرفض اعتبارها تابعة للشطر الغربي كما كان يأمل بأن يتخلى عنها الغرب لكن هذا ما لم يحدث ، وتحول الخلاف حول برلين إلى نزاع خطير بين المعسكرين الغربي والشيوعي ، وهو ما دفع سكان برلين الغربية ثمنه غاليا. فقد فرض السوفييت حصارا على برلين الغربية بتاريخ 24 يونيو 1948 ، وقبلت واشنطن التحدي ، واعتبرت برلين الغربية اختبارا لتأكيدها على وقوفها إلى جانب ألمانيا الغربية ، ومن ثم رفضت التخلي عنها والرضوخ للسوفييت . واستجاب الحلفاء لنداء إيرنست رويتر عمدة برلين الحاكم الذي خاطب التحالف الغربي مناشدا «أنظروا إلى هذه المدينة وسترون أنها وسكانها لا يريدون الاستسلام»، مما جعل الحلفاء ينظمون حملة نادرة في التاريخ لتزويد سكان برلين الغربية بكل ما يحتاجونه من أجل الصمود بوجه الحصار السوفييتي ، وبالفعل خصصوا ثلاثة ممرات جوية لهذا الغرض ، وأمر هاري ترومان الرئيس الأمريكي في تلك الفترة، بتخصيص جسر جوي لتأمين الاحتياجات لمليوني نسمة. وتتواجد بعض الطائرات الأمريكية التي شاركت بهذا الحدث في متحف الحلفاء في برلين، الذي أصدر بهذه المناسبة منشورات خاصة.

انطلقت بتاريخ 26 يونيو 1948 أول طائرات تابعة لسلاح الجو الأمريكي والبريطاني والفرنسي من مدن في ألمانيا الغربية إلى مطار «تمبلهوف» في برلين، وكان ملفتا للأنظار كيف أن الفرنسيين بالذات ساهموا في هذه العملية رغم كل ما عانوه من العهد النازي، وكانت كل دقيقة ونصف تقلع وتحط إحدى الطائرات التابعة للحلفاء في إطار هذه العملية حيث كان يتم نقل ستة آلاف طن من البضائع على مدار الساعة، ولم تكن بدون مخاطر لأن الطيارين كانوا يصابون بالإنهاك بسبب قلة الراحة وكانت الطائرات تحلق على علو منخفض عندما تصل إلى برلين حيث كان الأطفال يلوحون بأيديهم للطيارين الذين كانوا يرمون لهم الشوكولاتة والعلكة بوساطة مظلات صغيرة، وكانت هذه استراتيجية أدت إلى انتشار شعبية الأمريكيين بين سكان برلين الغربية. وبحسب فالتر هوفر المؤرخ السويسري الذي كان أستاذا في الجامعة الحرة في برلين في عقد الخمسينيات من القرن الماضي ، فإن الحلفاء الغربيين حصلوا من خلال إنقاذ برلين الغربية قبل سبعين عاما من السقوط بيد السوفييت على تعاطف في مختلف دول العالم، بينما فقد السوفييت الكثير من التأييد. واضطر الزعيم السوفييتي جوزف ستالين إلى إنهاء ذلك الحصار بتاريخ 12 مايو 1949 بعد مفاوضات سرية مع الأمريكيين . وبلغت الطلعات التي قام بها الأمريكان من بدء الحصار حتى نهايته 260 ألف طلعة جوية تم خلالها نقل أكثر من مليونين ومائة ألف طن من البضائع المختلفة ، وقد تم إطلاق اسم «الجسر الجوي» على شارع في برلين لتخليد هذه المناسبة.

أحد الطيارين يُدعى جايل هلفرسون يبلغ اليوم من العمر 97 عاما كان يزور ألمانيا باستمرار في السنوات الماضية للمشاركة في تخليد هذا الحدث. واليوم ينظر هلفرسون بقلق حيال الدمار الذي يلحق بالعلاقات الألمانية - الأمريكية وبرأي بيرند فون كوسكا، المسؤول في متحف الحلفاء في برلين فان التعاون بين الحلفاء في إنقاذ برلين الغربية من الرضوخ للسوفييت ، كان بداية نهوض ألمانيا الغربية واتفاق الحلفاء المنتصرون على استراتيجية تقوم على دعم ألمانيا الغربية واعتبارها جزءًا من التحالف الغربي. وأعرب فون كوسكا عن أمله بأن تبوء محاولات ترامب تدمير الصداقة التاريخية بين الألمان والأمريكيين بالفشل ، مؤكدا أن عملية الجسر الجوي بين ألمانيا الغربية وبرلين الغربية تصلح كنموذج في عصرنا ، ويمكن تطبيقها في أماكن النزاعات والمجاعة في مختلف أنحاء العالم ، بشرط توفر النوايا السياسية كما نشأت بين الحلفاء المنتصرين على ألمانيا النازية في عقد الأربعينيات من القرن الماضي .