أفكار وآراء

التوفيق والتفريق

27 يونيو 2018
27 يونيو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

الحياة مدرسة. الإنسان يظل يتعلم إلى أن يموت، وخلال المسار التعلمي، قد يغير بعض وجهات نظره، أو زوايا رؤيته للحياة والشؤون الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. مهم أن يستجيب المرء بسرعة للمتغيرات، ويعيد صياغة أفكاره أو ترتيبها أو تنقيتها، ودون أن يغادر مبادئه، أو ما يعتبره جوهريا في قناعاته وأهدافه وغاياته في الحياة.

منذ أن بدأ الحديث في مصر وغير مصر عن قوانين للتحكيم الدولي أو الإقليمي أو المحلي ، وأنا وغيري نحذر من وجود مخاطر بالتسرع بالنص في العقود التي تبرمها الدولة أو الشركات العامة أو الخاصة مع الغير من الأجانب، على التحكيم الخارجي طوال الوقت، وندعو إلى التروي والتبصر قبل منح الآخر الحق في التحكيم أمام مراكز التحكيم الدولية أو أمام مركز منها بعينه مثل “ أكسيد “ التابع للبنك الدولي ، أو غرفة جنيف أو باريس وهكذا. لامطلقات هنالك فقد يشترط مستثمر كبير مثل هذا النص وتكون الدولة بحاجة إلى هذا المستثمر.علمتنا تجارب كثيرة كيف أن الدول النامية عموما لا تجيد التبارز في مجال التحكيم أو أنه قد يتم التلاعب بهذا الشكل أو ذاك أحيانا في عمليات التحكيم. وأحيانا ما يكون التقصير ناتجا من البداية عن عدم وعي بقواعد التحكيم الدولي أو متطلباته. وقيل في وقت من الأوقات أن التحكيم يقصر وقت وطرق فض المنازعات بدلا من دورة القضاء العادي الطويلة للغاية بما فيها من استئناف وطعون وإشكالات ونقض ( أمام المحاكم العليا ) . هذا ممكن وإن لم يصدر من جهة ذات صلة ما يؤكد ذلك كقاعدة ، ناهيك عن أن تكاليف التحكيم تكون عادة من الضخامة بمكان . غير أن كل ذلك ليس هو ما أود التطرق إليه بالذات اليوم ولكن الملاحظة التي لاحظتها مؤخرا ذات صلة. لا يكاد يمر يوم أو تمر ساعة دون أن يشكو المستثمرون من البيروقراطية والتعقيدات الإدارية ، ويؤكدون - وعن حق بالفعل- أنها أهم عائق أمام تدفق استثمارات كبيرة على البلد - أي بلد - ، ورغم أن دولا كثيرة بالمنطقة أخذت منذ سنوات بقاعدة فض المنازعات من خلال لجان تتواجد عادة في الجهة المعنية بالاستثمار وتأسيس الشركات أو في وزارة العدل أو في مجلس الوزراء، ومن وقت إلى آخر تعلن جهة من تلك الجهات أنها فضت كذا نزاعا أو أنهت كذا من الملفات المعلقة بسبب وجود خلافات بين المستثمر والدولة ، ومع ذلك ورغم وجود تلك اللجان فإن شكوى المستثمرين من البيروقراطية والتعقيدات - والفساد بالطبع - لا تزال مستمرة ، ما يعني أن هناك أمرا آخر ينبغي عمله. بعد التحكيم وفض المنازعات نشأت فكرة أخرى هي توفيق الأوضاع أي جعل غير الرسمي أو غير القانوني قانونيا ورسميا بعد إجراءات محددة وبعد سداد مبالغ مالية وفق قاعدة مرنة ولكن معلنة ومعروفة إلى حد كبير. وقد دخلت مؤسسات غربية وأمريكية مؤخرا على خط تمويل ورش عمل وندوات ومؤتمرات حول التوفيق بنفس الحماس الذي كانت قد مولت به من قبل التحكيم ولجان فض المنازعات والترويج لهما. المفروض أن يظن المرء أن المستثمر لن يشكو بعد ذلك .. فتحكيم وفض وتوفيق جد كافية أو يفترض كذلك لكن في تقديري أيضا سنظل ندور في نفس الدائرة إلا قليلا لسبب جوهري علمتني إياه الحياة ورأيت شواهد كثيرة عليه أيضا من قضايا في المحاكم وملفات لمنازعات وخاصة في الأيام الأخيرة ولهذا وددت الكتابة عنه اليوم. ليس جانب الثقافة القانونية أو البيئة المحيطة أو عوامل سياسية أو غير سياسية أو حتى قدرية فكل ذلك أمره معروف، لكن العامل المستجد هو وعلى غير ما نتوقع: اللدد في الخصومة بين أطراف المنازعات التي يكون جانباها من القطاع الخاص. فعلى قدر ما يشكو القطاع الخاص ويئن من البيروقراطية وبطء التقاضي ، وعلى قدر ما يتكبد من مشاق وخسائر أو إهدارات بسبب الروتين، على قدر ما نرى العجب أيضا في تشدد بعض رجال الأعمال مع بعضهم البعض في الخصومات والنزاعات والخلافات التحاسبية والمالية. رأيت في غير مرة كيف يحول طرفا الخصومة النزاع سواء حدث لأنهما معا في شركة مساهمة واحدة، أو لأن بينهما عقودا ومبادلات ومصالح ، إلى ما يشبه معركة الكرامة ، فالطرف صاحب الحق يقول في نفسه :  لن أسمح له أن يأكل حقي وحتى لو تكبدت مبالغ للمحامين والمستشارين والمساندين تفوق أصل الحق. إنه ليس أقوى مني. لن أقبل لي الذراع وهكذا. من ناحيته يقول رجال الأعمال الثاني: لطالما عانيت مع هذا الرجل ، والآن لن أسلم له بالسهل. لابد أن أتركه يتكبد من الخسائر الكثير أولا وبعدها نرى. أو يؤكد لنفسه أن لديه من الأسباب ما يجعله يتوقف عن دفع ما عليه مهما وضح الحق، ويسعى طوال الوقت للبحث عن إعاقات واشتباكات وهجومات قانونية تمكنه من تضييع أصول المسألة، أو تخلق له حقا ليبادل عليه، أو تجعل الزمن هو سيد الموقف إلى أن يطوي النسيان الموضوع أو تتوه معالمه ويصعب تجميع أوراقه.

في هكذا نمط من العلاقات لا يمكن أن يتم تسريع حل المنازعات والتوفيق بين الأطراف. الخصومات ليست مع البيروقراطية والحكومة في كل الوقت، ولكنها أيضا بين أطراف أغلبها قطاع خاص /‏‏‏ قطاع خاص ، وما لم تتخلق لدينا ثقافة الحق والمستحق كما يقولون فسنظل ندور في نفس الدائرة.

لحل ملفات ساخنة ومعقدة بحكم الطبيعة السياسية لما جرى بعد «الربيع العربي» نشطت أطراف في عمل قوانين خاصة لتوفيق الأوضاع وأعطت مزايا كثيرة لمتهمين في مراحل تقاض مختلفة وحتى بعد صدور أحكام نهائية ليدفعوا ما عليهم ويعودوا إلى الأسواق والعمل ورغم الاعتراضات الشديدة من قانونيين كبار على ذلك لأنه يفتت أصل قانون العقوبات ويضيع حق المجتمع ويغرى آخرين بالاستهتار بالمال العام على اعتبار أنه سيأتي وقت في النهاية يتم فيه التوفيق وإيقاف سير الخصومة والبحث عن حل وسط.

وفي هذا الصدد يعد أمرا غريبا أنه لا يحدث كثيرا أن نرى توفيقا من هذا النوع بين رجال الأعمال ، ويسمع المرء كل يوم عن أوراق دعاوى تشير بوضوح إلى تزمت شديد من طرف أو تشدد في الخصومة لتفادي سداد حق أو ما يقال إنه حق.

في النهاية مهما تغيرت التشريعات والقواعد والإجراءات فسيظل لعنصر الثقة - خاصة في مجال الأعمال - دور كبير، وفي الثقة بعد شخصي ليس بالقليل لكن أيضا هناك مؤشرات يستدل بها على المصداقية والموثوقية. يجب في كل وقت أن تقود الحكومات تيارات التغيير أو تشجعها وترعاها إن بادر بها القطاع الخاص وفي المقابل يجب أن يتحلى القطاع الخاص بعقيدة حق واضحة ، وأن يحرص على سرعة إنهاء المنازعات حتى مع بعض التضحيات من أجل تسريع دوران رأس المال ، وبالتالي زيادة النمو وحتى تظل الجماعة المهنية ( رجال الأعمال ) قادرة على التوحد حول قضايا عامة تخص مجتمع الأعمال كله أو معظمه وقادرة على اقتراح حلول عملية مقبولة لها. لا أقلل في كل ما فات من تعنت جهات حكومية مع المواطنين عموما مع المستثمرين خصوصا لكن المطلوب في كل الحالات هو ميثاق أخلاقي للحق يحترمه الجميع فذلك سيحد من كثرة المنازعات في المبتدأ، ويسرع بفضها إذا نشبت ، ويجعل نفسية الجميع مرتاحة وراضية بدلا من الغضب الظاهر أو  المكتوم الذي يفصح عن نفسه في المحاكم أو على شاشات الفضائيات أو أوراق الصحف أحيانا.