إشراقات

بين الحق والهوى

21 يونيو 2018
21 يونيو 2018

يوسف بن إبراهيم السرحني -

الناس في الحياة صنفان؛ فائز متبع للحق، وخاسر متبع للهوى، فالنصف الأول مدرك لأهمية وجوده، وعارف للغاية من حياته، فهو لم يُخلق هملًا، ولم يترك سدى، هذا الصنف يكون أسير عمله الصالح، ليس همه إلا طاعة خالقه الطاعة المطلقة، يقول بلسان حاله ومقاله: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). هذا الصنف الموفق هو الذي يحاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، وسلوكه وتصرفاته، ويجعل أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} فهو دائمًا يكون باذلًا أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الوقت الذي هو أغلى من كل شيء، لأنه العمر، لأنه الحياة، فهو أغلى من الذهب، لأن الذهب يمكن أن يعوض، ويمكن أن يدخر، ويمكن أن يسترجع، أما الوقت فلا، فكل لحظة تمر من أعمارنا إنما هي على حساب هذا العمر المحدود والقصير، وإن امتد وطال، فكل نفس نتنفسه يبعدنا عن الدنيا، ويقربنا إلى العقبى، يقربنا إلى القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة.

هذا الصنف من الناس يصفه الله تعالى بالإيمان والاستقامة، ويبشره بتنزل الملائكة عليه وبالجنة، يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} ففي الآيات الكريمة اقتران واضح، وتلازم ضروري، وتعاضد جوهري، لا انفصام، ولا انفصال، ولا انفكاك فيه بين أمرين أساسيين: أولهما الإيمان بالله وحده لا شريك له.

وثانيهما الاستقامة على العمل الصالح في الأمور كلها، والتزام هذا الاقتران دليل على الصدق في الإيمان، والوفاء بالعهد مع الله تعالى، ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي عمرو سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- عندما سأله أن يقول له قولًا في الإسلام لا يسأل عنه أحدًا غيره: «قل آمنت بالله ثم استقم» رواه مسلم. وكما أن الجمع بين الإيمان بالله والاستقامة دليل الصدق مع الله، هو أيضًا دليل المحبة لله تعالى؛ لأن المحب مطيع لمن يحبه، فيؤثر هوى محبوبه على هواه، يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ} سورة البقرة الآية«165» يقول سيد قطب عند تفسيره هذه الآية: «أشدُ حبًا لله، حبًا مطلقًا من كل موازنة، ومن كل قيد، أشدُ حبًا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه، والتعبير هنا بالحب، فوق أنه تعبير صادق، فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود» المصدر: سيد قطب: في ظلال القرآن.

أمَّا الصنف الثاني: فهو يسير في فلك الأهواء، والشهوات، والملذات، فعن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ طُولُ الأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً وَالآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلَ» رواه أحمد. حديث موقوف، وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «العاجز من عجز عن سياسة نفسه».

ومن أقوال الإمام الرضي محمد بن عبد الله الخليلي –رحمه الله تعالى: «أهم أمر هو التقوى، وأضر شيء هو اتباع الهوى». إن أهواء الدنيا وشهواتها مصائد هلاك، فهي كالنار تأتي على الأخضر واليابس، وكالعاصفة الهوجاء تمر كل شيء أمامها، فمن تأمل الدنيا أدرك أنه ليس فيها لذة أصلًا، فإن وجدت لذة شيبت بالنُّغْصَةُ التي تزيد على اللذة أضعافًا.

هذا الصنف يعيش فريسة الأوهام والأحلام والأماني، فهو أسير هواه يلهث وراء شهوات الحياة الدنيا وملذاتها وبريقها، مع أنها سراب بقيعة، وسراب خادع، ولكنه يلهث وراء هذه الشهوات والملذات، ويتعلق بالأماني الفارغة، ويغتر بالدعوى الكاذبة، ويستمر على ذلك مسوفًا التوبة، ومؤجلًا العمل حتى يأتيه صارم الآجال، حتى يأتيه ريب المنون بغتة، حتى يأتيه الموت فجأة، يأتيه هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، وعندئذ يصاب بندامة شديدة مرة، وتغشاه كربة خانقة مؤلمة، وتلم به داهية دهياء، ويعتريه ضيق وألم، وتعتصره غصة مريرة، ويتجرع حسرة عظيمة موجعة، ويعض على يديه، لكن متى؟! كل هذا يحدث في وقت لا تنفع فيه الحسرة، وفي لحظة لا تجدي فيها الندامة، فهذا الإنسان الذي أهمل عمره، وأضاع شبابه في المعاصي، وأفنى وقته في الشهوات والملذات الدنيوية، ناسيًا أو متناسيًا المصير الأخروي الذي ينتظره، ومشتغلًا أو متشاغلًا عن المنقلب الحتمي الذي سينقلب إليه، هذا الإنسان يرجو أن يعود إلى الدنيا؛ ليصلح ما فات، ويعمل صالحًا، لكن هيهات هيهات له ذلك، فقد فات الأوان، لقد مضى وقت العمل، ودنا وقت الجزاء، وانتهى موسم الزرع، وحان وقت الحصاد، فالجزاء من جنس العمل، يقول تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.

لا رجوع للإنسان، ولا عودة له إلى الحياة الدنيا بعد الموت، وإنما يبقى في قبره في عالم البرزخ إلى يوم البعث {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ* فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} لينال كل إنسان جزاء ما قدم في الحياة الدنيا التي هي دار العمل، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ويقول عز وجل: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ* وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ* وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ}.

ويقول الله تعالى في شأن الذين ابتعدوا عن شرعه، وخالفوا هديه، وحادوا عن الطريق القويم، واغتروا بالأماني الفارغة، وأسرفوا على أنفسهم، ولم يتوبوا توبة نصوحًا قبل الموت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّـهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}. نعم؛ هذا هو حال المسلمين الذين يغترون بالأماني الفارغة، ويتعلقون بالدعاوى الكاذبة. إنها عدوى أهل الكتاب التي انتقلت إلى هؤلاء الذين يتسمون بالإسلام، وينتسبون إليه بواسطة الفكر التعصبي، مع أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز محذرًا من هذا: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ويقول سبحانه في شأن هذا الصنف من الناس في معرض حديثه عن حال ومصير المنافقين يوم القيامة: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّـهِ وَغَرَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ* فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والأماني جمع أمنية وهي البغية أو المطلب، والتمني هو طلب حصول شيء محبوب تشتهيه النفس؛ إلا أنه مستحيل الحصول، أو متعذر الحصول.