إشراقات

آثار مترتبة

21 يونيو 2018
21 يونيو 2018

يحيى بن سالم الهاشلي / إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

خلق الله الإنسان ليقوم بدور الخلافة في الأرض وميزه بكونه حر الإرادة والاختيار ليقوم بدوره في هذه الحياة وفق هذا الامتياز (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، ولكونه حرا مختارا لزم أن يكون لديه ضابط لخلافته يرجع إليه كي تكون زاكية لا خائبة، فكان هذا الضابط أن يتبع الحق فيها، فيوجه الله تعالى نبيا من أنبيائه لذلك فيقول سبحانه: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، من هنا يظهر أن سبيل صلاح الفرد والمجتمع في اتباع الحق وأن اتباع الهوى أس لكل فساد للأفراد والمجتمعات.

ونجد أن القرآن الكريم قد أولى هذه المسألة بالاهتمام، فقد وردت لفظة «الهوى» ومشتقاتها فيه تسعا وعشرين مرة، وتناولت هذه الآيات جوانب مختلفة لتأثير اتباع في الجوانب الاعتقادية والمعاملية، ففي جانب الاعتقاد ورد: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) وقوله سبحانه: (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وفي جانب المعاملات ورد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، كما ورد ما ينبه إلى أن اتباع الهوى سبب للفساد: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)، كما ورد أن النجاة تكون في مجانبة اتباع الهوى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)، فهذه الآيات تبين ما لاتباع الهوى من تأثير سلبي على حياة الإنسان يبعدها عن الحق ومنهج الله وبالتالي ضياع الخلافة الراشدة في الأرض. وقد ورد من الأحاديث النبوية الشريفة ما يعزز النظرة القرآنية في هذا الجانب ويترجم توجيهات الكتاب الواردة في ذلك، فورد في بيان الفرق بين حال الإنسان العامل ومتبع الهوى قوله صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)، كما ورد في بيان حقيقة الإيمان قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) فالإيمان الحق من كان صاحبه منقاد النفس والجوارح لأمر الله، خاضعا لها مسلما مستسلما له سبحانه، ليس لهوى نفسه ونوازعها تأثير عليه.

ومن خلال ما استعرضنا من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية يظهر جليا أن اتباع الهوى هو المسبب الأول للفساد والمؤذن بالهلاك، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ إن اتباع الهوى له صور متعددة وأنماط مختلفة لكن تندرج جميعها تحت بابين رئيسين، هما اتباع الشهوات ومكابرة الحق، فإن تطرقنا بداية لاتباع الشهوات لوجدنا أن أغلب ما تعانيه البشرية اليوم من انحلال وفساد إنما مرده لشيوع اتباع الشهوات بلا ضوابط تحفظ للإنسان إنسانيته بل نزعة فاجرة لاتباع الهوى نقلت الإنسان لدركات أقل في الكرامة من البهائم لذلك يصفهم االله تعالى بقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، فالناظر في أحوال الأمم التي أطلقت سعار الرغبات الجنسية بلا ضابط أمست تعاني ويلات الأمراض الفتاكة وشيوع جرائم الاغتصاب والاختطاف والاستعباد الجنسي كعلامة كبرى على حجم الفساد الناتج عن اتباع الهوى، كما في تفشي تعاطي المخدرات والمسكرات جانب مظلم آخر لمجتمعات يهرب أفرادها من واقعهم المظلم إلى ظلمات أحلام الوهم فيظلوا في ظلمات بعضها فوق بعض، وهناك العديد من صور الفساد والمعاناة الناتجة عن اتباع الهوى في جانب الشهوات لا تقل ظلما وظلاما وفسادا وإفسادا تبين ما له من آثار مهلكة مدمرة للمجتمعات الغارقة فيها. أما الباب الآخر لاتباع الهوى فهو مكابرة الحق، ولعل أكثر ما يتعلق بهذا الباب ما يكون من إنكار لحقائق الدين ومصادمة لأحكامه، ونجد أن أكثر ما ورد في القرآن من ذكر لاتباع الهوى متعلق بهذا الباب كمثل قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)، كما يضرب الله لنا مثلا في وصف ذلك الإنسان المكابر فيقول سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فالحال مع الكافر المعاند أنه يكابر حقائق الإيمان وينكر حقائق الوجود اتباعا لهواه قاصدا نيل مكاسب مادية أو انتصارا لرغبات نفسية كالتعصب والحسد والاستعلاء، كما يدخل في هذا الباب كل من يصادم الأحكام الدينية الثابتة انتصارا لهوى النفس، فيقصد إلى تمييع أحكام الدين وإثارة الشبه وتشكيك أفراد المجتمع في ثوابت دينهم وتسفيه أراء العلماء العاملين المستندة إلى صحيح الأدلة، ويدعي التجديد في الاجتهاد وهو لا يملك أدواته بل ولا يملك القصد الحسن لذلك فهؤلاء ينطبق عليهم الوصف القرآني في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، لذا وجب على المجتمع أن يحصن أفراده من أمثال هؤلاء الأدعياء وأن لا يترك لهم مجال العبث بقواعد الدين فحفظ الدين أوجب الواجبات. كما يندرج في باب مكابرة الحق اتباعا للهوى تصرفات يقوم بها أفراد يعم ضررها المجتمع بأسره، ونذكر هنا أمر التهور والطيش في قيادة المركبات الذي عم خطره وأثره المجتمعات المعاصرة، فليس هناك من يجادل أن من صور الكبر والتكبر ما يقوم به البعض من القيادة بسرعات عالية والاستعراض بالمركبات بطيش وجنون متلفين فيه الأموال ومهلكين فيه النفوس فهذه صور قبيحة مستهجنة من اتباع للهوى والفساد (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، فهذه صورة من أقبح صور اتباع الهوى بليت بها مجتمعاتنا يلزم تكاتف جهود الجميع لإزالتها. إن معالجة آثار اتباع الهوى على الأفراد والمجتمعات إنما يكون من خلال الاسترشاد بالتوجيه القرآني، ويوجهنا الكتاب العزيز لذاك بقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، فالأساس في نظر القرآن وجود الجماعة المؤمنة المخلصة التي لا تنظر للحياة نظر الطامع بها بل تصبر وتصابر لنيل رضوان الله وتحقيق الصلاح والفلاح، وتحصن نفسها عن الغفلة واتباع الهوى والتفريط، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).