أفكار وآراء

أزمة قمة السبع الكبار في مساراتها الثلاثة

18 يونيو 2018
18 يونيو 2018

د. صلاح أبونار -

عندما توافد رؤساء الدول السبع الصناعية الكبرى على منتجع «لا مالباي» لحضور قمة قادة الدول الصناعية الكبرى 8- 9 يونيو الجاري، توافدوا على قمة اصطلح منذ انطلاقها 1975 على دعوتها بقمة السبع الكبار. ولكن عندما انتهت القمة كانت قد حصلت علي اسم جديد، عندما اطلق عليها الرئيس الفرنسي ماكرون: قمة سته زائد واحد، تلخيصا لدلالة الأزمة التي طالتها نتيجة احتدام الخلافات بين الولايات المتحدة وبقية الأعضاء.

لم تكن مشكلات الأزمة ولا كان عجز القادة الكبار عن حلها مفاجأة. كانت كل عناصر الأزمة حاضرة وموثقة قبل الاجتماع، وآخر تجلياتها فشل اجتماع وزراء المالية في 31 مايو - 2 يونيو. وبالتالي كان أقصى ما يطمح إليه المجتمعون هو البحث عن آليات للتهدئة وإيقاف التصاعد، وتأكيد الالتزام الأمريكي بالقواعد والاتفاقيات المنظمة للتجارة العالمية . إلا أن القمة فشلت في ذلك وانتهت بإخفاق ذريع وجد رمزه في سحب أمريكا لتوقيعها على بيانها الختامي.

تجسدت تلك الأزمة على ثلاثة مستويات.أولها يتعلق بأزمة سحب الموافقة الأمريكية على بيان القمة، وثانيها يتعلق بأزمة التبادل التجاري بين أمريكا و الدول الست الأخرى، وثالثها يتعلق بأزمة النظامين التجاري والسياسي العالمي.

ماهي وقائع الأزمة على المستوى الأول؟ غادر ترامب القمة قبل نهايتها استعدادا لقمته الكورية، موافقا على بيانها النهائي. وبعد مغادرته عقد رئيس الوزراء الكندي ترودو مؤتمرا صحفيا، تناول فيه مشاكله التجارية مع أمريكا. وكان أهم ما قاله أن كندا لن تسمح لأمريكا بلوي ذراعها، وسترد بفرض رسوم على السلع الأمريكية. وأنها سترفض في إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة لشمال أمريكا، الاستجابة لطلب أمريكا بإضافة فقرة تسمح بالانسحاب بعد خمس سنوات، لأن هذا يعني الدخول في اتفاقية تنتهي آليا بعد خمس سنوات. ولم تحمل تصريحاته أي تجاوزات، ومع ذلك كانت سببا مباشرا لقرار ترامب بمجرد معرفته بها وهو في طريقه إلى سنغافورة، بسحب الموافقة الأمريكية على بيان القمة، وشن هجوما على ترودو شاركه فيه مستشاروه التجاريون لاري كودلو وبيتر نافارو. وكان هذا أمرا مثيرا للدهشة. فليست هناك صلة بين التصريحات وسحب الموافقة، ولم يتخط ترودو الحدود في حديثه عن أمريكا. ونتصور أن السبب الحقيقي لعنف رد الفعل موجود في قمة ترامب - كيم. الأرجح أن ترامب سحب الموافقة استعراضا لقوته أمام مفاوضه الكوري الشمالي العنيد. وشجعه تأكده من سياق القمة ان أوروبا وكندا سيتخذون إجراءات جمركية مضادة. وفيما يتعلق بعنف رد الفعل اللفظي ضد ترودو، فتفسيره فيما نتصور موجود في اعتراض ترودو على طلب أمريكا إضافة فقرة حق الانسحاب. جاء الاعتراض بينما ترامب في طريقة للاجتماع مع كيم، وكأنه رسالة تقول أن أمريكا غير ملتزمة بتعهداتها الدولية، وهذا إضرار ضمني غير مقصود بموقفها التفاوضي. وتؤكد تصريحات كودلو ونافارو صحة هذا التفسير. فالأول ذكر مباشرة أن تصريحات ترودو تضعف من موقف ترامب التفاوضي، والثاني وصفها أنها طعنته « في الظهر وهو يخرج من الباب» وتلك مبالغة. فلم يكن كيم في حاجة للتصريحات ليدرك هذا، ولم تمض سوى أيام على الانسحاب من اتفاقية الاتفاق النووي مع إيران. وسنجد علة المبالغة في تجذر الأزمة داخل مجموعة السبع الصناعية، ونزعة التصرف الانفرادي الأمريكية، واستهانة ترامب الشديدة بشركاء القمة.

احتل المستوى الثاني واجهة الأحداث وشكل صلب المفاوضات .انطلقت الأزمة في أول يونيو، بإصدار ترامب لقرار بفرض رسوم جمركية علي واردات الصلب والألمنيوم بنسبة25% و10% على التوالي، من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك. كان محركها الفعلي معالجة العجز الضخم في الميزان التجاري مع تلك البلدان. وفي تبريرها الرسمي استخدم القسم 232 من قانون التوسع التجاري 1962، الذي يتيح حماية الصناعات الحيوية للأمن القومي. بالإضافة الى الشكوى من ارتفاع الرسوم الجمركية لتلك البلدان. وفقا للإحصائيات شهدت صناعات الصلب والألمنيوم الأمريكية، خلال السبعة عشر عاما الماضية تدهورا متواصلا في نصيبها من السوق العالمي، فانخفضت إلى 5% في الصلب وقفزت الصين الى 50%.الا أن هذا التدهور لا يمكن رده الى الرسوم الجمركية فقط. وبالنظر الى المتوسطات العامة لرسوم الأطراف الثلاثة، سنجد أن الفوارق بينها هامشية ويصعب تصور قدرتها علي توليد هذا العجز.فإذا كانت في أمريكا 2%، فهي في الاتحاد الأوروبي 3% و في كندا 3.1%، وفقا لإحصائيات 2015. ولكن تلك الأرقام متوسطات عامة لكل السلع، وفي سلع كثيرة يمكن للأوروبيين والكنديين تقديم أرقام تثبت ان رسومهم اقل.

وجهت انتقادات عديدة إلى قرارات ترامب. أولها أن سياسة رفع الرسوم، تعني ببساطة حربا تجارية لن يكسبها احد. فالمتضرر سيرد على المبادر، ولكي يضره سيتوسع صوب سلع أخرى، ويدخلان في دائرة مفرغة. وهو مايحدث الآن. فبعد الانتقادات، اطلق ميركل وتيريزا ماي وماكرون وترودو التهديدات، وبعدها بدأ التطبيق الفعلي. وهكذا فرضت أوروبا قبل المؤتمر رسوما إضافية على سلع أمريكية مثل الأقمشة وموتوسيكلات هارلي ديفيدسون. وفرضت كندا جمارك كلفت الولايات المتحدة اكثر من 16 مليار دولار. وثانيها أن الحجج المقدمة للدفاع عنها غير منطقية ولا مقنعة . فحجة الأمن القومي حسب تيريزا ماي « لا يمكن إقناع ناخبينا ورجال أعمالنا بها»، وحسب احد المحللين فإن تهديد أمريكا بتطبيقها علي السيارات، أمر لا يستقيم منطقيا مع الحجة. وحجة الرد بالمثل علي رسوم الآخرين، تناقض الواقع لأنها تتبني نظرة جزئية، ولأن الأوروبيين يطرحون أرقاما تدحض الأرقام الأمريكية، ولأن الولايات المتحدة هي الطرف المبادر برفع الرسوم. وثالثها محدودية فوائدها وكثرة أضرارها. أوردت دراسة عن النتائج المحتملة للتصعيد التجاري بين كندا وأمريكا، أنها ستكلف كندا 6000 وظيفة، بينما ستكلف أمريكا 22700 وظيفة .وأوردت دراسة لمؤسسة بيترسون ان الرسوم المقترحة على السيارات، ستكلف أمريكا 195000 وظيفة؛ دون حساب تأثير القرارات المضادة للدول الأخرى. وتوصل محللون آخرون لنفس النتيجة فيما يتعلق بصناعات الصلب والألمنيوم، وأكدوا أن بعضها سيزدهر ولكن اكثرها سيخسر. وأضافوا أن هذا يعني ان قدرتها على تلبية احتياجات السوق بأسعار اقل من الواردات ستكون محدودة، وهو ما سيلحق أضرار مؤكدة بالصناعات والأقاليم المعتمدة علي الواردات.

يرتبط المستوى الثالث بالسياق العالمي، ويمكننا رصد عناصره المكونة عبر ثلاثة سياقات فرعية : سياق العلاقة بالنظام التجاري العالمي، وسياق العلاقة بالتحالف الغربي، وسياق العلاقة بالنظام السياسي العالمي.

فيما يتعلق بسياق النظام التجاري العالمي، نوه كثير من المراقبين وكبار الساسة أن تاريخ علاقات أمريكا وطرفي النزاع الآخرين لم يكن خاليا من المنازعات التجارية الحادة. الا انهم لاحظوا أنها المرة الأولى التي لا يدور فيها النزاع حول مشاكل محددة، بل حول شرعية وإلزامية القواعد المنظمة للنظام التجاري العالمي. وأضافوا أن هذا النظام يواجه من فترة تحديات حقيقية، مصدرها قوى صاعدة لا ترغب في تحمل مسؤولياتها، لكنها المرة الأولى التي يأتي فيها التحدي من أمريكا المهندس الرئيسي للنظام وضامنه الأساسي. وهكذا أصبح التحدي الرئيسي الآن، ليس حل مشكلة الرسوم، بل صياغة إجماع جديد حول إلزامية قواعد النظام التجاري العالمي.

وفيما يتعلق بسياق العلاقات مع التحالف الغربي. أدرك الساسة الأوروبيون بعد انتخاب ترامب، أن ثمة قادما جديدا وحاولوا التفاهم معه لكنهم عجزوا، ومع توالي الأزمات أدركوا أن التحالف الغربي يواجه تحديا مصيريا. ومع الأيام اتضحت عناصر هذا التحدي. يحمل ترامب إعجابا قابلا للتحول لدعم مباشر بالتيارات الشعبوية المهددة لأسس الديمقراطية الغربية، ولا يبدو معجبا بالاتحاد الأوروبي كتجربة اندماجية واظهر استعدادا لدعم الخروج عليه، وينظر الى الناتو كعبء اقتصادي، ويبدو لامباليا بفكرة الغرب كرابطة حضارية، واكثر قربا من شخصيات مثل بوتين بالمقارنة بانجيلا ميركل مثلا، ولدية قناعة تامة أن أوروبا على مدار سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية نهبت امريكا. ويحدث هذا بينما يواجه الاتحاد الأوروبي احتمالات انفصالية اطلقها بريكسيت، وتعاني اغلب حكوماته ضعفا سياسيا واضحا، ويبدو مهددا بعد الانتخابات الايطالية بمد شعبوي جديد. والمؤكد ان أزمة المؤتمر التي تشكلت نواتها في عالم التجارة، وجدت في أزمة العلاقات الغربية، سياقا لا يساعد على كبحها بل يخلق لها جذورا في مجالات أخرى تعمل على تصعيدها.

ماذا عن صلة الأزمة بالنظام السياسي العالمي؟ في عام2017 كتب الجنرال ماكماستر مستشار ترامب السابق للأمن القومي، أن العالم ليس جماعة دولية بل « فضاء تتنافس فيه الأمم والفاعلون الآخرون، وهناك يشتبكون ويتعاملون.» عبارة تمنحنا افضل مدخل لتوجهات السياسة الأمريكية الجديدة.مزيج من العزلة والتدخلية تشكله المصلحة المباشرة، وسعي محموم لتقليص دور المؤسسات الدولية، وتعامل نفعي مع الاتفاقيات الدولية، وإدارة الأزمات بمنطق المباراة الصفرية، والخلط العميق بين حسابات التحالف السياسي وحسابات العائد الاقتصادي، واستهانة سافرة بالإجماع الدولي. ويمكننا بسهولة ان نرصد عناصر التوافق، بين منطق هذه التوجهات العالمية ومنطق إدارة ترامب لأزمة قمة السبع الكبار، وفي سياق ذلك علاقات التغذية المتبادلة بينهما.