أفكار وآراء

هل حان أوان عسكرة الفضاء ؟

09 يونيو 2018
09 يونيو 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

وسط موجات العسكرة المتلاحقة التي تجري فصولها حول العالم برا وبحرا وجوا، لتعيد سيرة زمن الحرب الباردة مرة أخرى، يبدو وكأن هناك خطوات جادة على الطريق الأممي من أجل إعادة إحياء برامج عسكرة الفضاء، وإن كان القائمون على تلك البرامج لا يتحدثون مباشرة عما تجري به المقادير من تجهيزات عسكرية لجعل الفضاء مرة جديدة موقعا وموضعا لصراعات لم يسمع بها البشر من قبل.

يعن لنا أن نتساءل في أول الأمر ما هي فكرة عسكرة الفضاء. وإلى من يعزى بلورتها وانطلاقها؟ وأين قدر لها البداية؟ ومتى حدث ذلك؟

يبدأ الجواب في واقع الأمر من عند حدود الثمانينات في القرن المنصرم، حين كانت المواجهة بين حلف الناتو وحلف وارسو على أشدها، وبدا وكأن الحرب العالمية النووية على الأبواب.

في ذلك الزمان كانت الترسانات البرية الروسية تتفوق على نظيرتها في حلف الأطلسي وكذلك كان لدى الروس كميات هائلة من الصواريخ النووية العابرة للقارات، وإن كان الناتو يتفوق على وارسو فيما يخص أساطيل البحار.

كان الخوف والهلع الأمريكيين مفاده أن أي صاروخ نووي روسي يمكنه ان يخترق سماوات البلاد سوف يقضي على عشرات الآلاف دفعة واحدة، وحتى لو قام الأمريكيون بضربة مضادة، فإن الأمر في نهايته لن يسفر إلا عن قدر غير مقبول ولا معقول من الخسائر البشرية. في ذلك الوقت كان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان يتربع على عرش البيت الأبيض، ومعروف أن زمن ريجان كان زمن اشتداد عود تيار اليمين الأصولي الأمريكي، ذاك التيار الذي اعتبر الاتحاد السوفييتي قوة الشر بل امبراطوريته حول العالم، واستعاد من زمن الحروب التي جرت بمسحة دينية في القرون الوسطى مفردات تحتم المواجهة، وروج اتباعه لفكرة معركة هرمجدون التي لابد فيها لقوى الخير من أن تنتصر على قوى الشر، وأن تسحق قوات الشيوعية ومن لف لفها في عموم أوروبا الشرقية.

في هذه الأوقات تفتق ذهن بعض كبار مستشاري ريجان من العسكريين الجنرالات أصحاب النجوم الأربع فوق الأكتاف، عطفا على كبار وعاظ اليمين الأمريكي المنحول عن فكرة ابتكار مجال جديد للحروب يعجز الاتحاد السوفييتي عن مداراته أو مجاراته، وكانت كلمة السر تتمحور حول الفضاء.

في هذا السياق يدرك الجميع أن الاتحاد السوفييتي هو من كان له السيادة والريادة على الفضاء أولا وقبل الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما صعد رائد الفضاء الروسي الأشهر «يوري جاجارين» ودار بمركبته حول الأرض، قبل أن يلقى مصرعه في هبوط طائرة على الأرض.

أدرك الأمريكيون لاحقا تأخرهم في مجال العلوم الطبيعية لا سيما الفيزياء والرياضيات، الأمر الذي دفع بالرئيس الأمريكي وقتها «جون كيندي» لمخاطبة علماء بلاده ووكالة ناسا تحديدا للرد على السوفييت، الأمر الذي تمثل لاحقا في ترتيب برنامج يمكن الأمريكيين من ارتياد القمر .

قطعا لم تكن محاولات الجانبين لارتياد الفضاء أغراضها علمية أو سلمية بالمطلق، إذ كان هناك ولا شك جانب خفي لاستكشاف الفضاء، جانب يتصل بعسكرته أي جعله جزءا من مجال الصدام العسكري بين الطرفين وان لم يعلن ذلك رسميا.

خلال نحو عقدين من الزمان تبلورت رؤية أمريكية خالصة في إطار جعل الفضاء الخارجي للكرة الأرضية مسرحا للحرب القادمة عبر آليات غير معهودة من البشر في حروبهم مذ وجد الإنسان على سطح الكرة الأرضية . لكن على الناحية الأخرى كانت موسكو عاجزة عن اللحاق بالأمريكيين لا عن نقص في العلوم أو المعرفة، وهم السباقون في هذا الإطار، لكن بسبب عجز مواردهم المالية عن اللحاق بموارد الأمريكيين الغنية والثرية والتي كفلت لهم في نهاية المشهد فوزا كبيرا . فكرة حرب الكواكب أو حرب النجوم التي انطلقت من البنتاجون الأمريكي في زمن رونالد ريجان والتي عرفت باسم مبادرة الدفاع الاستراتيجي تم إنشاؤها في 23 مارس 1983 لاستخدام الأرض والنظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة من هجوم بالصواريخ الباليستية النووية الاستراتيجية الروسية . الفكرة ببساطة تقنيا كانت عبارة عن نشر مظلة من صواريخ فضائية تعمل بأشعة الليزر ترصد تحرك أي صواريخ منطلقة جهة الولايات الأمريكية المختلفة والمترامية الأطراف من المحيط الأطلسي شرقا إلى المحيط الهادي غرب البلاد، لتفجيرها في الغلاف الجوي قبل أن يقدر لها الوصول إلى الأراضي الأمريكية وإصابة الأمريكيين.

كانت الرؤية الأمريكية لهذا البرنامج هي انه يوم ستصبح سماوات الولايات المتحدة محمية من خلال شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية فإن واشنطن ستصير اكثر انطلاقا في التعامل مع الملف النووي للآخرين وبالتالي اقدر على إجبار العالم ان يغير نفسه كما تريد له ان يتغير.

على ان علامة الاستفهام في قصة الأمس هذه ..هي هل قدر لهذا البرنامج ان يمضي قدما، وماذا كانت حظوظه من النجاحات أو الإخفاقات؟

الشاهد انه بعد خمس سنوات من بدء البرنامج وصل إلى مقعد سكرتير الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف الرجل الذي سيكون حامل مفاتيح إغلاق صفحة امبراطورية الشر السوفييتية بحسب تعبيرات ريجان نفسه، ومع وصوله كذلك لسدة الرئاسة عام 1990 كان انهيار حلف وارسو يصيب العالم بصدمة، وبدأت المفاوضات الأمريكية الروسية لتفكيك المئات من الرؤوس النووية السوفييتية المحمولة على صواريخ عابرة للقارات.

ومع الاتفاقيات العسكرية الجديدة بين الجانبين والتي رفعت عن كاهل الأمريكيين حمل المواجهة مع أسلحة الدمار الشامل، فقد بدأت الأهمية النسبية لبرنامج حرب النجوم تتقلص إلى حد أنها شبه تلاشت من خارطة المواجهة العسكرية الأمريكية، غير انه وفي دولة امبراطورية مثل الولايات المتحدة فانه لا شيء يترك للمصادفات الواقعية أو القدرية، وعليه فقد تم الاحتفاظ بأبجديات البرنامج في أضابير البنتاجون إلى حين تتطلب الحاجة استعادته وتفعيله مرة جديدة، ويبدو أن هذا ما حدث بالفعل في العامين الأخيرين ...ما الذي جرى وكيف جرى على وجه التحديد ؟

من قبل أن يبلغ دونالد ترامب عتبات البيت الأبيض وأثناء حملته الانتخابية لم ينقطع حديثه عن جعل أمريكا مرة أخرى الدولة الأولى حول العالم، والمؤكد أيضا أن العقول التي رتبت وصوله إلى المكتب البيضاوي تنتمي إلى تيار المحافظين الجدد وأنصار اليمين الأصولي، أولئك الذين يؤمنون بذات الأفكار التي آمن بها رونالد ريجان قبل أربعة عقود وفي القلب منها الإيمان بالقوة المسلحة الأمريكية كأداة لحسم القضايا، أي تفضيلهم للقوة الخشنة في مواجهة القوة الناعمة . لم يكن الناتو أمينا مع موسكو حين تجاوز الاتفاقيات التي ارتضاها الطرفان من قبل، وباتت أطماع الناتو تتجه شرقا إلى بولندا ومحاولة إقامة درع صاروخي هناك، الأمر الذي جعل الروس يعجلون في صناعة ترسانتهم العسكرية الجديدة، والتي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأول من مارس الماضي عبر ما عرف بخطاب الأمة، تلك الأسلحة التي تضم نوعيات غير مسبوقة في الترسانتين الغربية والشرقية على حد سواء وبخاصة الأسلحة فرط الصوتية، ناهيك عن الصواريخ من نوع «سارامات» الذي يمكن له أن يعرض عشر ولايات أمريكية للخطر دفعة واحدة.

بدا المشهد للأمريكيين عامة وللمجمع الصناعي العسكري الأمريكي بنوع خاص فرصة ذهبية لإعادة برنامج حرب النجوم إلى مساره مرة جديدة، لمواجهة أسلحة بوتين من جهة، ولمقاربة فكرة أمريكا أولا من ناحية أخرى .

في أوائل شهر فبراير المنصرم كانت مؤسسة هاريتاج الأمريكية إحدى المؤسسات الفكرية التابعة للمحافظين الجدد تستعرض الخطط الأمريكية طويلة الأمد لاستثمار التفوق العسكري في مجالات شتى والتي كان لها «بعدا للأمن القومي منذ ما ينوف عن ثلاثة عقود»، وشددت على أن تقنية الأقمار الاصطناعية رمت لتحقيق جملة أهداف منها «تبوء موقع مرتفع متقدم لمراقبة القوات العسكرية ومراكمة معلومات استخباراتية فضلا عن تعزيز الهيمنة الأمريكية في الصراع الأيديولوجي إبان الحرب الباردة».

وتضيف هاريتاج أن جدارا سميكا من السرية فرض على طبيعة عمل « أقمار الاستطلاع الأمريكية » خلال الحرب الباردة، وتلاشت بعض التصنيفات السرية منذ عام 1991، عقب انتشار صور فوتوغرافية التقطتها أقمار اصطناعية لمجريات حرب الخليج وانتشارها بشكل واسع .

هل ما أشارت إليه مؤسسة هاريتاج هو المقدمة الطبيعية لعودة الولايات المتحدة إلى برامج عسكرة الفضاء ؟

من المثير جدا في شان تلك البرامج الجديدة أنها لم تعد قاصرة على القطاع الأمريكي الحكومي بل تخطته إلى القطاع الخاص الذي بات يمثله اليوم فيما خص غزو الفضاء المهندس الأمريكي الجنسية الكندي الأصل «ايلون ماسك» والذي احدث ثورة في أمريكا مؤخرا على عدة أصعدة .

كان إطلاق شركة «سبايس إكس» الأمريكية التي يمتلكها «ماسك» في الفترة الأخيرة صاروخا هو الأحدث والأقوى في علم الفضاء (فالكون هيفي) (الصقر الثقيل) قد أعاد الحيوية لجدل استغلال الفضاء لأغراض عسكرية، لا سيما لميزته الفريدة في وضع حمولة يصل وزنها إلى 70 طنا في مدار قريب من الأرض، مما يعادل ضعفي الحمولة المتوفرة راهنا في أسطول «دلتا 4» الأمريكي .

رئيس شركة « سبايس اكس » «ايلون ماسك» افصح عن نواياه الخاصة ولخدمة الاستراتيجية الأمريكية عقب الإطلاق الناجح بالقول « نحن بحاجة إلى رسم سباق في الفضاء، السباقات هذه مثيرة ...الصاروخ «فالكون هيفي « باستطاعته إطلاق وتوجيه الحمولة مباشرة لكوكب بلوتو وما بعده، دون أي توقف، كما ان ماسك نفسه منكب على تصميم صاروخ اكبر حجما وقدرة تحميلة اكبر، سوف يطلق عليه اسم «بيج فالكون» أو «الصقر الكبير»، ذاك المعد له أن ينطلق إلى القمر أو كوكب المريخ في المدى المنظور .

هل ستضحى برامج «ايلون ماسك» بنوع خاص كعب اخيل للعسكرية الأمريكية يمكن من خلالها الهيمنة على العالم وتحقيق الحلم الريجاني القديم؟

الشاهد ان شركة «سبايس اكس» قد حققت إنجازا معتبرا بكلفة ضئيلة نسبيا لما هو الحال في برنامج الفضاء الأمريكي، ويعزز طموحاتها للتعاقد مع القوات المسلحة الأمريكية حمل وإطلاق تقنية متطورة في الفضاء الخارجي .

على أن مشهد عسكرة الفضاء لا يتوقف عند حدود الولايات المتحدة الأمريكية ذلك أن توزيع الأقمار العاملة في الفضاء، وفق بيانات مكتب الأمم المتحدة، تشير إلى أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى بنحو 803 أقمار متعددة المهام، تليها الصين بمعدل 204، وفي المرتبة الثالثة جاءت روسيا بمعدل 142قمرا.

البيانات الأخيرة تدعونا للبحث في عدة أسئلة عميقة لعل أولها... هل تخطط الصين لان تكون قطبيتها القادمة قطبية فضائية لا أرضية أي أن يكون الفضاء هو طريقها إلى مواجهة القطب الأمريكي المنفرد بمقدرات العالم؟