أفكار وآراء

الجولان.. هل هي الخطوة التالية بعد نقل السفارة؟!

02 يونيو 2018
02 يونيو 2018

د. عبدالعاطى محمد -

لم يعد هناك شيء مستغرب في عالم اللامعقول اليوم، فما يبدو ضربا من الخيال أو الجموح، سريعا ما تكشف كواليس السياسة في الشرق الأوسط أنه ممكن أو يجري التخطيط له فعليا، إلى أن يظهر للعلن ويصبح أمرا واقعا بغض النظر عما يحيطه من ردود أفعال غاضبة.

ما كان أحد بمن فيهم أطقم الإدارات الأمريكية السابقة لإدارة ترامب يريد أن يقدم على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، أو بالأحرى لا يريد أن يذهب بعيدا في تدليل إسرائيل بالنظر إلى أن هناك مصالح ومبادئ في التعامل واتفاقات مع بقية الأطراف، بل وقرارات من مجلس الأمن تمنع ذلك أو يتعين أخذها في الاعتبار ومن ثم عدم الاقتراب من هذا الملف. لقد كان الإقدام على قرار كهذا من باب اللامعقول كتصور عام، قبل أن يكون من تقلبات السياسة واحتدام الخلافات. ولكنه حدث فعلا، وسط حالة من الذهول عند الجميع ما عدا الولايات المتحدة وإسرائيل. فمنذ أيام احتفل الجانبان بهذا العمل المخالف لكل التصورات والقواعد.

لم تمضِ أيام قليلة على واقعة نقل السفارة حتى دوت الصدمة الثانية، عندما قال وزير المخابرات الإسرائيلي إسرائيل “كاتش” لوكالة رويترز: إن بلاده تضغط على إدارة ترامب للاعتراف بسيادتها على مرتفعات الجولان المحتلة منذ 1967. وبدا المسؤول الإسرائيلي واثقا من أن الأمر سيتم بالفعل خلال بضعة أشهر على الأكثر. ولكي يعزز كلامه صرح بأن بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ناقش الفكرة للمرة الأولى مع الرئيس ترامب خلال لقائه به في البيت الأبيض في فبراير 2017، وأن الفكرة قيد النقاش حاليا على مستويات متعددة داخل الإدارة الأمريكية والكونجرس. وبما أنه لم يصدر تعقيب بالنفي لهذا التصريح الخطير سواء من داخل الحكومة الإسرائيلية أو الإدارة الأمريكية، ليس أمام المراقب لتطورات الأحداث في الشرق الأوسط إلا أن يتعامل مع هذا المطلب الإسرائيلي على أنه حقيقة كاملة بالفعل أو أنها تتشكل من خلف الستار ويصبح إعلانها مسألة وقت ليس إلا، خصوصا أنه بات راسخا في الأذهان أن هناك رئيسا في البيت الأبيض اعتاد أن يذهب بالأمور إلى حافة الهاوية غير مكترث بأية ردود فعل مضادة لما يتخذه من مواقف بشأن الأوضاع في المنطقة.

على النقيض مما فجره المسؤول الإسرائيلي من تصريح مدوٍّ، هناك 4 رؤساء وزارات إسرائيليون هم إسحاق رابين وشيمون بيريز وإيهود باراك ونتانياهو نفسه قالوا من قبل إنهم مستعدون لإعادة مرتفعات الجولان لسوريا وفق بعض الشروط، ولم يصدر منهم أي تصريح أو تلميح بأنهم يفكرون في ضم الجولان المحتلة لإسرائيل. والمعروف للمتابعين لملف الجولان والمفاوضات السورية الإسرائيلية (قبل كل ما جرى على مدى السنوات السبع الماضية) أن هناك وثيقة تم تداولها تحت عنوان «وديعة رابين» التي صدرت في بداية النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، ومضمونها وفقا لرواية بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأسبق في كتابه «حياتي» أن إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قد تعهد له قبل مقتله بأنه سيعيد الجولان إلى سوريا بشرط أن تلبي الأخيرة بعض الشروط الإسرائيلية منها وضع محطات إنذار مبكر واستمرار اعتماد إسرائيل على بحيرة طبرية لتأمين جزء من احتياجاتها المائية، ولكنه طلب من كلينتون أن يبقي هذا التعهد سريا إلى أن يعلن رسميا عندما تكلل المفاوضات الشاملة مع سوريا بالنجاح. ووفقا لكلينتون فإن بيريز حافظ على هذا التعهد (الوديعة) بعد موت رابين، وبناء عليه جرت مفاوضات السلام بين سوريا وإسرائيل عام 1996 في واى ريفر. ولكن المفاوضات فشلت لسببين رئيسيين أولهما يتعلق بأن صحة حافظ الأسد كانت تتدهور ويريد أن ينقل السلطة لابنه بشار دون أن يشكل له مشاكل داخلية تضعفه، في إشارة إلى أن المفاوضات حتى مع وديعة رابين ستعنى ضرورة تقديم تنازلات من جانب سوريا والأسد الأب لا يريد أن يحرج ابنه داخليا إذا ما قدم تنازلات، وثانيهما أن الصحافة الإسرائيلية سارعت بتسريب مسودة اتفاق واي ريفر مما أظهر الجانب السوري بأنه موافق على تقديم تنازلات ومن ثم وجد نفسه في وضع حرج داخليا. ومع ذلك فإن إيهود باراك حافظ بدوره على هذه الوديعة وبناء عليه جرت مفاوضات يناير 2003 قبل أن يغادر كلينتون البيت الأبيض في آخر محاولة له لإنقاذ عملية السلام في الشرق الأوسط، وفشلت بدورها لأن الجانب الإسرائيلي أصر على بقاء السيادة له على القدس. وعندما وصل نتانياهو إلى السلطة أكد من جانبه أنه ملتزم بوديعة رابين!.

فما الذي جرى حتى تنقلب حكومة نتانياهو على ما سبق التعهد به، هذا بافتراض أن ما قاله وزير المخابرات الإسرائيلي حقيقة أو حقيقة يجرى تشكيلها في الوقت الحاضر؟. بداية الخيط في الإجابة على هذا السؤال جاءت على لسان هذا المسؤول الإسرائيلي وهو يتحدث لرويترز، وذلك عندما قال «هناك فرصة عظيمة مواتية واحتمال كبير لحدوث الاعتراف الأمريكي بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل».

ومع أن المسؤول الإسرائيلي لم يفصح عن الأسباب التي تجعل من الأمر فرصة عظيمة لبلاده، إلا أن الأسباب تبدو واضحة لكل ذي عينين، ومن ثم لم يكن المسؤول الإسرائيلي في حاجة لتبرير ما يجري التخطيط له (لنا أن نتذكر أن نتانياهو ناقش الفكرة مع ترامب العام الماضي). من ذلك أنه لم يكن بإمكان إسرائيل أن تفكر ثم تطلب ضم الجولان لا إعادتها كما دأبت حكوماتها السابقة على التعبير عنه، لولا وجود رئيس أمريكي، على خلاف كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، هو دونالد ترامب المؤمن بأن يكون حليفا مخلصا تماما لإسرائيل بأكثر مما هي كانت تتوقع أو تنتظر، ويبني سياسته تجاه الشرق الأوسط على أن يجري تغيير كل أوضاع المنطقة بالقدر الذي يرضي إسرائيل كليا ولا يجعلها تتذمر من أي خطر أو مبرر، حتى لو كان الانحياز المطلق لها يضر بباقي مصالح الولايات المتحدة مع أعز أصدقائها أو المتعاونين معها في المنطقة. وربما كانت سياسة كهذه هي من قبيل الذهاب بعيدا في الضغوط لجني أقصى المكاسب في نهاية المطاف، ولكن التداعيات السلبية والتكلفة العالية التي تصيب علاقات الولايات المتحدة بدول المنطقة كافة لن تؤدى إلى تحقيق المكاسب المفترضة، بل على العكس تماما تؤجج الصراعات وتجعل من إسرائيل ذاتها أكثر الأطراف التي تدفع ثمنا باهظا.

ومن الأسباب الأخرى أن سوريا كدولة لم تعد كذلك وأمامها وقت طويل لاستعادة مقوماتها، وبما أن الطرف الذي يشكل الجانب الآخر من المعادلة ليس موجودا بحالة قوية فمن الأفضل لها، بنظرة إسرائيل التوسعية، أن تلجأ لفكرة الضم وأن تجر الولايات المتحدة لنفس التصور. وأيضا قيمت إسرائيل تجربة اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لها ووجدت أن ما كان يدخل في حكم المستحيل يمكن أن يكون ممكنا. القدس جزء مهم من أرض فلسطينية محتلة وهناك قرارات دولية صدرت بشأنها تمنع تغيير وضعيتها لحين التوصل إلى نتائج مفاوضات الحل النهائي، والجولان أرض محتلة وصدرت بشأنها قرارات دولية تحتم إعادتها إلى سوريا عبر مفوضات سلام مباشرة. وفي الحالة الأولى نفذت الولايات المتحدة ما أرادت ولم تجد القوة التي تمنعها، فما وجه الغرابة إذن لو تكرر الأمر بالنسبة للجولان. لن تخشى لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة من أي رد فعل مضاد رادع، إذ ستتوالى بيانات الإدانة ولكن الواقع الجديد سيصبح أمرا قائما يصعب تغييره.

ومن جهة أخرى فإن تطورات الأزمة السورية أفضت إلى أن إيران أصبحت فاعلا مهما على الأرض السورية واقتربت قواتها من الجولان نفسه، وحدث ما حدث من مواجهات مسلحة وأصبح الجولان في مرمى النيران الإيرانية أو السورية بمساعدة قوية من طهران، وعلى الضفة الأخرى هناك حزب الله المدعوم من إيران والمتأهب لقض مضاجع الإسرائيليين في أي وقت، ثم تفجرت أزمة إلغاء إدارة ترامب الاتفاق النووي مع إيران، وبالإجمال التقت مصالح إسرائيل والولايات المتحدة بإبعاد أي تهديد إيراني يأتي من سوريا ولتحقيق ذلك ليس من المستغرب أن يذهب كلاهما بعيدا في تصعيد المواجهة إلى حد اعتبار الجولان أرضا إسرائيلية!. ولا شك أن وضعية فرض السيادة الإسرائيلية على الجولان تتيح وجودا عسكريا فيه واسع النطاق باعتباره أرضا إسرائيلية ويترتب عليه إخراج قوات الأمم المتحدة من الحدود هناك!!.

ما اعتبره المسؤول الإسرائيلي فرصة عظيمة لبلاده قد يكون كذلك بحسابات الانتهازية السياسية والاستقواء والاستخفاف بالموقف الدولي ككل وليس العربي وحده، ولكن بالحسابات الموضوعية وبمنطق «المعقول» لا بمنطق «اللامعقول» الذي أخذ بأذهان صناع القرار في تل أبيب يمكن أن يكون الأمر نقمة وكارثة على هذين الطرفين. فربما كان قرار نقل السفارة نوعا من السيادة الأمريكية ولذلك استنكره المجتمع الدولي في مجلس الأمن وغيره ، ولكن تم ترك الباب مفتوحا للجانب الأمريكي في عملية السلام، وأما في حالة ضم الجولان فإن ذلك سيتطلب حتما قرارا دوليا بخروج قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهو أمر يصعب جدا تصوره بالموافقة عليه من جانب مجلس الأمن، كما أن الجامعة العربية ترفضه بكل تأكيد والسكوت عليه يعنى التنازل العربي عن أرض عربية محتلة، وإذا ما تورطت الولايات المتحدة في تدعيم السيادة الإسرائيلية المفترضة عسكريا، فإنها تلقى بنفسها في مستنقع حرب طويلة هي في غنى عنها، وقد تصل الأمور ليس فقط إلى مواجهة مسلحة مع طهران ولكن مع موسكو أيضا.

بحسابات المنطق والمعقول ما كان لهذا المسؤول الإسرائيلي أن يروج لإمكانية فرض السيادة الإسرائيلية على الجولان أو ضمه بمعنى أكثر صراحة ، ولكن تقلبات سياسة ترامب وجموح حكومة نتانياهو والإشارة الى أن الفكرة موضع نقاش مع واشنطن، يجعل المراقب لا يستبعد وقوع المفاجأة أو الصدمة التالية بعد صدمة القدس.