6635
6635
روضة الصائم

قاهرة المعز في رمضان .. نظرة من واقع المكان وتفاصيـــــــل الزمان

01 يونيو 2018
01 يونيو 2018

رحلة البحث عن «القهوة المصرية» التقليدية بكراسيها الخشبية...ليست بتلك الصعوبة -

القاهرة : أحمد بن علي الذهلي -

ما بين تراث محفور في كتب التاريخ، وحضارة ضاربة في القدم، تطل القاهرة بمفاتن مآذنها الخالدة ومساجدها العتيقة، كوجه مشرق في عيون الزوار، وعلى المدى تظل حضارتها الشامخة عبر مرور الزمن مكانا محبذا للسياح الذين يتوافدون عليها من كل بقاع الدنيا، الحياة القاهرية بمجملها عبارة عن سيل متدفق من البشر يسعون الى مآربهم على مدار اليوم.

في رمضان، هناك طقوس تتوالى في كل عام، واستعداد متلازم يعيشه سكان القاهرة وغيرها من المدن الأخرى، هي أجواء استثنائية تهفو إليها النفوس، فلا تكاد تغيب عن بصرك، وجه الفوانيس المعلقة في الشرفات، أو أينما ذهبت، سواء في الشارع أو البيت أو المحل، تدهشك أشكال الزينة التي تمتد من بيت الى آخر في عقد مترابط من المصابيح المضاءة، أو الأشكال الورقية الزاهية الألوان، الكل يحتفي بشهر الخير والبركات على طريقته وحسب مستوى معيشته، وهناك أشكال كثيرة للفوانيس الرمضانية بأحجامها المختلفة، وأيضا تحمل شخصيات معروفة ففي السابق كان (فانوس المفتش كرومبو) هو السائد، أما هذا العام ففانوس اللاعب محمد صلاح هو الحاضر بقوة، وفي كل عام تظهر بعض الشخصيات الكرتونية المعروفة لدى الناس وتجتذب الصغار آليها.

في صباح رمضان،تخف حركة السائرين في شوارع القاهرة، حيث يبدأ العمل من بعد التاسعة صباحا، لكن حركة الناس تنشط بعد صلاة العصر، وتعود إلى السكون عندما يقترب موعد الإفطار، في الأحياء الشعبية تجد الكثير من مظاهر الحياة وأكثرها حيوية، فهناك العديد من موائد الرحمن تفترش الطرقات المؤدية الى المنازل، وأيضا الباعة ينتشرون قرب المساجد عقب صلالة التراويح خاصة الذين يبيعون الفواكه الموسمية وغيرها من المستلزمات الرمضانية. لا يزال القاهريون يفطرون على صوت مدفع الإفطار، فمن يعش قرب قلعة محمد علي يمكنه أن يسمع الطلقات يوميا وهو بالطبع تقليد قديم، أضف إلى ذلك عذوبة الأصوات التي تنطلق من حناجر المؤذنين في المساجد، تشعرك بروحانية الحياة الرمضانية في قلب القاهرة القديمة، فهناك عدد ليس بالبسيط من المساجد التراثية الكبيرة التي لا تزال تحافظ على رونقها، وجماليات الزخارف الإسلامية التي تزين أسقفها خاصة في الأحياء القديمة كحي الجمالية والسيدة زينب والحسين وغيرها.

 

إن الزائر إلى القاهرة في شهر رمضان الفضيل، لا ينقطع عن ناظريه التناثر المتزايد للمقاهي الشعبية التي تصطف الكراسي أمام واجهاتها، تقدم مشروبات باردة خاصة وان هذه الأيام تشهد القاهرة ارتفاعا ملحوظا في درجات الحرارة، لكن بعض رواد المقاهي تشده رائحة القهوة التي تقدم فيها البن (وهو بأنواعه السادة أو البن المحوّج أي الذي يضاف إليه الهيل ويأتي على نوعين وهما البن الفاتح والغامق)، وكثير من عشاق القهوة يفضلون تناولها على النحو التالي: (سكر زيادة أو مضبوطة أي السكر الذي بها وسط، أو على الريحة)، وتتميز بعض المقاهي بانها تقع على مفترق طرق، ولذا تجتذب السائرين في طريقهم بمحاذاة المقهى أو القهوة بلغة عامة الناس، وتكتظ بعض الأماكن في القاهرة بالمقاهي خاصة الأماكن السياحية كحي الحسين، وتزدحم أزقة الشوارع الجانبية بكثرة الجالسين على جانبي الطريق وذلك لتناسب أسعارها، فهي تشهد حركة دؤوبة من سكان المكان، أو من المحافظات البعيدة الذين يأتون إلى القاهرة على فترات متواصلة، فمن عقب صلاة المغرب عبورا بليل القاهرة، يجلس الناس يتسامرون، وينتهون عندما تعلو أصوات المؤذنين لصلاة الفجر، لتبدأ القاهرة مرحلة أخرى من الحياة، فهي بذلك تلملم ضجيج السهارى بحكاياتهم، وأحاديثهم التي لا تنقطع، وسعيهم اليومي من أجل لقمة العيش.

في مدينة القاهرة يعيش تقريبا 9 ملايين شخص يتوزعون في أنحاء متفرقة، منها الأماكن الراقية، والأحياء الشعبية، فيما يدخلها يوميا عدد كبير من البشر بقصد العمل ثم يعودون الى إدراجهم عقب انتهاء أعمالهم آخر النهار.

وإذا كنا نتحدث عن القاهرة فمن الضروري أن نعرج إلى شكل المقاهي وتطورها، بعضها، واقصد هنا الأثرية التي لا تزال تزين جدرانها الرسوم الفرعونية باللون البني، وأخرى مزخرفة بلون الذهب، ومن الأشياء الواجب التأكيد عليها ان بعض المقاهي باقية على حالها منذ نشأتها من حيث الطراز المعماري سبب آخر لتهافت السياح على الجلوس فيها.

كم هي متعة نفسية، تشعرك بانك لا تزال تتنفس هواء الماضي، وربما تشاهد مجموعة من الصور تزين صدر القهوة أما لصور أصحابها الذين أنشؤها أو لعدد من عمالقة الفن أو الأدب الذين كانوا يرتادون هذه المقاهي سواء في فترة الثلاثينات أو الأربعينات أو الخمسينات أو غيرها من القرن الماضي، فلا غرابة ان يرتفع صوت المذياع أكثر مما ألفته في بلادك، ففي المقاهي القديمة أصبح لديهم عرف ممتد، فتصدح بالغناء أصوات الزمن الجميل بالأغاني الطربية مثل: أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش أو عبد المطلب وغيرهم من عمالقة الغناء العربي، وفي بعض المقاهي تسمع أصوات بعض عمالقة المنشدين والمتألقين في الموشحات والابتهالات مثل النقشبندي الذي ارتبط بحياة الناس خاصة حينما ترنم بـ(كلمات أنشودة مولاى إنى ببابك):

مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي

مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟

أقُوم بالليّل و الأسّحار سَاجيةٌ

أدّعُو و هَمّسُ دعائي.. بالدموع نَدى

بنُور وجهك إني عائذ و جل..

ومن يعذ بك لَن يَشّقى إلى الأبد..

مَهما لقيت من الدُنيا و عَارضها..

فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي..

تَحّلو مرارة عيش في رضاك..

و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد..

أدّعوك يَا ربّ فاغّفر ذلّتي كَرما..

و اجّعَل شفيع دعائي حُسن مُعتَقدّي

و انّظُر لحالي..في خَوّف وفي طَمع..

هَلّ يرحم العَبّد بعد الله من أحد؟

مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي..

مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟

رحلة البحث عن «القهوة المصرية» التقليدية بكراسيها الخشبية والنقوش التي تحتويها فبعضها يحمل اسم القهوة التي تجلس عليها ... فكثير من الأماكن التراثية، تزيّن حارات القاهرة الشعبية القديمة، حيث ينطق التاريخ بعظمة أصحابه، فكلما أخذت جولتك في الأحياء القديمة سوف تكتشف وجوها جميلة، وربما تكون جواهر مخبأة بين جدران المساجد العتيقة، وجميعها قلب نابض بالحياة وبالشخصية المصرية.

وفي عصر التمدن والتحضر، مرت المقاهي المصرية بسلسلة من المتغيرات منها على سبيل المثال: أصبحت المكان المناسب لبعض عامة الناس لمشاهدة مباريات كرة القدم المهمة، فهناك شاشات تلفاز موزعة داخل وحول المقهى، ويسمح للإناث بالجلوس في المقاهي، لكن مع كل ذلك بعض الذين يزورون القاهرة يشدهم كثيرا رحلة البحث عن المقاهي التي لها خصوصية من الناحية التاريخية فهم يريدون الغوص في المناطق الشعبية والجلوس على مقاهٍ بلغت من العمر عتيا.

وتعج منطقة وسط البلد، بوجود الكثير من المقاهي مثل: (مقهى أو قهوة ريش) الواقع في شارع طلعت حرب بوسط البلد، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1908، واحتضن الكثير من الأحداث الفاصلة في تاريخ مصر، ويمكن للزائر للقاهرة الوقوف أمام واجهة المقهى والتقاط الصور التذكارية إذا كان لا يود الدخول إليه -مثلما فعلت أمام قهوة ريش-، ،أسر لي أحد الذين أعرفهم عن مقهى الفلاح الذي يقع في شارع المعز لدين الله، وهو يعد أحد أبرز شوارع القاهرة الفاطمية، وتحيط به الكثير من المعالم الأثرية وتم خلال السنوات الماضية إعادة تطوير هذا الشارع الذي يوصف من قبل الأثريين كأكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، وخلال شهر رمضان يشهد حركة سياحية نشطة، إضافة الى توفر الكثير من الأكلات الرمضانية كالكنافة وغيرها من الحلويات المعروفة، ومثلما أسردت سابقا فهناك مسجد الحسين، الذي لا تخف أقدام زواره عن الحركة، فهو يقع على بعد عشرات الأمتار من جامع الأزهر، الذي يعد هو الآخر أحد أهم المساجد في مصر وأشهرها في العالم الإسلامي.

ومن المقاهي الأخرى التي قرأت وسمعت عنها المقهى الذي اعتاد الموسيقار محمد سلطان، زوج الفنانة الراحلة فايزة أحمد، الجلوس به، يتميز بهدوئه، وعدم صخبه ككثير من مقاهي منطقة وسط البلد. ومع ذلك فأسعاره مناسبة جدا، ومما سبق نصل الى حقيقة مشرقة وهي ان «الجلوس على القهوة»، أو المقهى، في القاهرة هو جزء لا يتجزأ من التراث المصري الخالد وهو وجه حاضر بقوة من خلال الأفلام القديمة، فلا يمكن تخيل حارة مصرية بدون وجود القهوة التي يجتمع فيها الرجال لاحتساء الشاي وتبادل الأحاديث.

ومع تغير وتيرة الحياة في العاصمة، أصبح المقهى أو «الكافيه» بمعناه الحديث يشبه أمثاله حول العالم، لكن الزائر للقاهرة يبحث عن المقاهي القديمة، ذات الطابع المصري البحت ليستنشق عبق الماضي وروعة ما تركه الرجال القدامى من إرث يمتد لسنوات طويلة بالرغم من هبوب رياح التمدن والتحضر والتغيير.