المنوعات

«نحـو نمـوذج ثقـافي عـربـي جــديد فـي عـالم متحــول»

30 مايو 2018
30 مايو 2018

د.رفيف رضا صيداوي -

ثلاث محطات أساسية هزت العالم من أطرافه الأربعة، وحتمت الكلام على «نموذج ثقافي جديد»، واستطرادا «نموذج ثقافي عربي جديد»: الأولى تتمثل في ما بدا أنه انتصار لنظرية «نهاية التاريخ» وانتصار الليبرالية الغربية، بنسختها الأمريكية، بوصفها نموذجا أحاديا حتميا؛ الثانية تتمثل في مقولة «صدام الحضارات» بوصفها النموذج الذي سيحكم مسار العالم، ولاسيما عبر تصارع ثقافات الغرب (المتفوق) وسائر الثقافات، وتحديدا الآسيوية والإسلامية التي تنحو إلى فرض نماذجها بعدما بدأت بالتحرر من عقدة التفوق الغربي؛ وأما المحطة الثالثة، فهي العولمة التي شملت العالم بسرعة قياسية وخلفتنا على مشارف «ما بعد العولمة».

«نحو نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحول»، هو عنوان كتاب «أفق» الذي تصدره سنويا مؤسسة الفكر العربي، وهو الذي يتألف هذا العام من أكثر من أربعين مقالة بحثية تدور كلها حول إمكانية بناء نموذج ثقافي عالمي عربي جديد أيضا، نتيجة اهتزاز عالم اليوم، وبخاصة عالمنا العربي الذي شهد منذ سقوط جدار برلين كل أنواع التقهقر السياسي وفوضى الصراعات الدينية والمذهبية والنزاعات والحروب الثقافية، بما يوحي بصحة «نظرية صراع الحضارات» بوصفها تعبيرا عن صراع «نماذج» حضارية وثقافية تجرد الجماعات من قيمها الوجودية لتختزلها في بعدها الغرائزي الحيواني وإلى هوياتها «القاتلة»، على حد تعبير الكاتب أمين معلوف.

وشهد هذا المناخ العالمي أيضا اهتزاز «نموذج التنوير» الغربي، وانطلاق الغرب في رحلة البحث عن نماذج فكرية وفلسفية جديدة، كشفت عنها الملامح المتباينة وغير المكتملة لتشكل نموذج ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق، نحا كتاب «مؤسسة الفكر العربي» نحو التحفيز على استنبات نموذج عربي جديد في محاولة سباقة لتلمس معالم نموذج كهذا في حال قدر له أن يرى النور، أو في حال توافر إمكانية كهذه. فهذا النموذج أو «البارادغما» كما أسماه الباحث والناقد حنا عبود هو « أشبه بوصفة طبية شاملة جدا لمعالجة الحماقة البشرية التي قد تستعجل يوم الدينونة»؛ وهو بحسب ما استخلصت تهاني سنديان من توماس كون « أداة استرشاد، أو دليل إرشادي يسدد خطى البحث العلمي»؛ وهو بحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان «محاكاة منهجية لتمثل العالم وتحليل وقائعه، بالاستناد إلى منظومة نظرية كلية يتم على أساسها فهم هذه الوقائع وربطها وتفسيرها وترقب تطورها. ومن أبرز الأمثلة عن هذا النوع من النماذج العالمية الشاملة، النموذجان الليبرالي والاشتراكي» ... إلخ.

لعل الطابع العام الذي طغى على مضامين المقالات البحثية للكتاب هو انطلاق غالبية كتابه من براديغم عصر النهضة الأوروبي وفكره التنويري، سواء أولئك الذين آمنوا بإمكانية استنبات براديغم عربي (وهم الأغلبية وإن أسهبوا في استعراض المحاذير، وقد اتخذت مقالة عز الدين عناية من تلك المحاذير عنوانا لها، هو «في ملامح النموذج الثقافي المنشود ومحاذيره») أم الذين لم يؤمنوا بذلك؛ وكذلك الذين آمنوا بنموذج حيوي عالمي يتجاوز النماذج «الهووية» ويحتاج- بحسب أم الزين بنشيخة إلى « اختراع أشكال جديدة من الحياة مضادة لثقافة الاستلاب الإمبريالي المعولم، ولسياسات التصحير المفزعة لكل فرح ممكن لأبناء الأرض». لا بل إن أم الزين أضافت أن «بوسع الفن أن يكون بمثابة البراديغم الثقافي الرحب للتدرب على اختراع ثقافة الحياة ومقاومة سياسات اليأس الفاشلة بمكنات الفرح الممكن دوما، ما دام ثمة خيال حي بحوزتنا».

ولأن فكرة النموذج الثقافي يشوبها الالتباس، وتتقاطع مع مفهوم الحضارة، ولأنه يصعب لنموذج ثقافي أن يعبر الزمن ويبقى «نموذجا ثقافيا»، أي من دون أن تنال منه التغيرات والتبدلات والتحولات، وإلا وقعنا في الثقافوية، ولأن الحدود بين الثقافات ليست صعبة التجاوز كما يظن البعض، جعل الباحث جوزيف مايلا من سؤال «هل هناك نموذج ثقافي عربي؟» عنوانا لمقالته، في إشارة ضمنية إلى إشكالية المصطلح والسؤال نفسه.

وبحسب الباحثة ألفة يوسف يقتضي بناء أنموذج ثقافي في زمن التحولات «لغة أخرى متخلصة من ذاكرتها وإرثها القومي؛ لأن تلك اللغات تنتمي كلها إلى عوالم قديمة قد زالت منذ زمن بعيد. فالإنسان العربي اليوم لا يختلف كثيرا عن سائر البشر في أصقاع المعمورة؛ فهو يخضع بدوره لمنطق توزيع الهويات الجديد. وهو منطق لم يعد يعتمد اللغة أو التاريخ أو الدين أو العرق ... في تحديد الفوارق والاختلافات بين الأفراد والتشكيلات الاجتماعية والثقافية المتباينة، ذلك أن مفهوم المجتمع بالتصور الكلاسيكي قد تغير على نحو جذري، حتى بتنا نتحدث عن «اللامجتمع»، لأن العلاقات الفضائية التي كانت مرجع العلاقات الاجتماعية قد دمرتها السرعة، محولة الفضاء الذي طوته طيا إلى قرية صغيرة مبتدعة أشكالا جديدة من الحياة والوجود».

حداثة مجتمعات ما قبل حداثية

بالنسبة إلى المؤمنين بإمكانية التفكر بنموذج ثقافي عربي جديد، مثل هؤلاء الكتاب الذين تم ذكرهم وسواهم من المشاركين في كتاب «أفق» السنوي، تصدر الكلام على الديمقراطية، والمواطنة، والحرية وغيرها من قيم عصر الأنوار قاعدة هذا «النموذج الثقافي العربي الجديد» المفترض. فعلى الرغم من الالتفات إلى بعض الإخفاقات في بعض الدول العربية، رأى الباحث أنطوان سيف أنه في حال إنجاز شروط الديمقراطية إلى حد مقبول، نغدو «أمام إنجاز تاريخي عربي يكون، برأينا، الأكبر بلا منازع .. هذا الانعطاف الكبير في تاريخنا هو موصولٌ بحاضرنا، أي بإمكاناتنا الفعلية من جهة، وبإرادتنا العامة من الجهة الأخرى. لذا نطرحه بتفاؤل كبير، بمقابل التشاؤم العام الذي رسخته فينا الهزائم والعثرات الكبرى المتواصلة».

ومن بين المقومات الأساسية للأنموذج الجديد المنشود، ولبنائه وتعزيزه، على حد تعبير الباحث يوسف الحسن: « توفير الحريات، كحق طبيعي للإنسان، مثل حريات التعبير والفكر والاعتقاد، والنقاش العام والحوار، وامتلاك القدرة على ممارستها، وبما يعزز السلم المجتمعي، والعيش المشترك، وفي إطار الالتزام بحقوق الإنسان، وكذلك إرساء ثقافة المواطنة المتكافئة والتعاقدية وتشريعاتها، وهي التي تضمن العدل، وتكافؤ الفرص والمشاركة، وإشاعة وتعزيز ثقافة التسامح، بمعنى احترام التنوع الثقافي، وإدارة التعددية بشكل رشيد وسلمي»؛ وثمة إجراءات عاجلة تقتضيها محاولة استنبات نموذج ثقافي عربي جديد بحسب خديجة زتيلـي لخصتها بمناهضة الاستبداد السياسي، ومراجعة التعليم والمنظومات التربوية، وإصلاح الفكر (نقد الفقه القديم ومواجهة التطرف).

هكذا لم تخرج عناصر النموذج الثقافي الذي تاقت إليه أغلبية الكتاب، أو وضعوا له تصورا عن الفضاء التنويري، ولكن في ضوء التغيرات الكبرى التي يشهدها عالمنا المعولم، وهي التي ستفضي إلى تمرد أوسع من أجل عيش أفضل تحكمه قيم التنوير. في حين أن التفكير في النموذج الثقافي الجديد لا يمكن أن يتم بحسب الباحثة زهور كرام من دون التفكير «في موقع التكنولوجيا في الإرادة السياسية للدول العربية، وفي قدرتنا على التجاوب الوظيفي مع الثقافة الرقمية، في إطار الخصوصية الثقافية»؛ ثم إن هذا «النموذج الثقافي الجديد» لا ينبغي، بحسب الباحث زكي الميلاد، «أن يكون ملوثا لا بالإيديولوجيات ولا بالمذهبيات (...) والتخلص من هاتين الآفتين، هو السبيل لأن يصبح النموذج الثقافي الجديد نموذجا جامعا يعلي من شأن الهوية الجامعة والأمة الجامعة، وهو الذي يكون شعورا عند الجميع بالجميع، ويتساوى في ظله الجميع، أي لا عنصرية فيه ولا طبقية ولا تمييز، فيتكافأ الجميع بالفرص ولا يتفاضلون، وجميعهم أمام القانون سواء».

لذا ترتبط نجاعة النموذج الثقافي العربي المنشود وحداثته، بحسب الباحث وحيد عبد المجيد، «بمدى إسهامه في خلق مكون معرفي - قيمي للعلم الحديث، أي الأفكار والقيم والأنساق الضرورية لصياغة النظريات العلمية، والمشاركة في الإنتاج الدولي للمعرفة».

على الطرف الآخر شكك البعض في أن يكون للعرب نموذج ثقافي خاص بهم يسهم في بلورة الفكر الإنساني؛ بسبب معاناتنا من مشكلات التحرر العقلي والسياسي والاقتصادي. هذا الواقع المؤسف يدفعنا كما كتبت فاطمة ياواو «للتساؤل عن كيفية التفكير في نموذج ثقافي جديد في مجتمعات ما زال أفرادها رعايا وعبيدا للسلطة الاستبدادية، حيث تغيب فيها أهم شروط العقد الاجتماعي، كما جاءت عند جان جاك روسو منذ ما يزيد على ثلاثة قرون؟ وهو ما أفسح المجال رحبا أمام الحركات الأصولية لترفع شعارا أكثر استبدادية، وهو «الحاكمية لله، (.. ) كيف يمكن أيضا البحث والتفكير في نموذج ثقافي جديد في مجتمع عربي ما زالت الفوارق الطبقية والصراعات المذهبية والإثنية فيه تحصد أرواحا وتنتهك كرامات لتغتال ما تبقى من إنسانية الفرد العربي؟». لذا تساءل الباحث فتحي التريكي قائلا: «هل لدى الفكر العربي نموذج أو نماذج معرفية؟» مضيفا أننا «لا نمتلك نسبيا أي نموذج معرفي أو ثقافي عربي، وإنما نملك بعضا من التخليطات والتداخلات بين أنماط مستعارة من بعض الإرث التاريخي والمعاصر للنماذج الغربية».

وجاءت مقالة الباحث جوزيف مايلا بعنوان: «هل هناك نموذج ثقافي عربي؟»، أي في صيغة سؤال يستفسر»عن واقع الفكر العربي المعاصر ومستقبله»، معتبرا أن «التفكير بثقافتنا المعاصرة يقتضي التعرف عما إذا ما كانت مفاهيمنا وحالة تفكيرنا قادرة على الإحاطة بعالمنا وبتطوره»، ومقترحا «الخروج من النموذج الثقافي للالتحاق بكل بساطة بالثقافة التي هي مجالٌ للتفاعل بين أفراد المجتمع الذين يهدفون، من خلال أفكارهم وقيمهم وممارساتهم ومثلهم وتراثهم ومعتقداتهم، إلى مواجهة تحديات عصرهم وإلى إعطاء معنى لخيارات مجتمعهم وطموحاته».

لا شك أنه يصعب التطرق إلى المقالات البحثية كلها التي يتضمنها الكتاب، ولكن ثمة إجماعا على حقيقة أن المشهد الفكري الثقافي العربي الراهن هو مشهد متأزم. وإذا كان البعض لم يبشر بإمكانية بناء «نموذج ثقافي عربي جديد»، إلا أن الكل، من دون استثناء، توافقوا على أن التحدي لا زال قائما من أجل تغيير كامل متكامل. وكأن لسان حال الكتاب يقول: إما التغيير نحو الأفضل أو القبوع في زمن ما قبل حداثي نظل فيه مستهلكين لما ينتجه الغرب، حتى وإن كنا مغروسين في الزمن الرقمي وثقافته. فالمسيرة لا تزال في بداياتها، على حد تعبير أسامة الغزولي، «والطريق بالغ الوعورة. لكن تيار التغيير يتعمق، ويتسع مجراه، وتتزايد سرعته».

✱ مؤسسة الفكر العربي