أفكار وآراء

الثابت والمتغير .. علاقات التضاد والتكامل

13 مايو 2018
13 مايو 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ثمة أسئلة جوهرية تبحث في العلاقات الوشائجية في مفهوم «الثابت والمتغير» وهذه الأسئلة تقف كثيرا على مجموعة الوسائل الذاهبة في تفعيل صورة هذا «الثابت» أو هذا «المتغير» أو عدم المساس بهما، على اعتبار أن الحالة لا تتحمل أي إرباك لها في ظرف زمني ما، ولأن الاعتماد قائم دائما على المعرفة، فإن هذه المعرفة، وهي الضاغطة بقوة تأثير من يعتنقها.

أول ما يشار إليها في شأن هذه العلاقة، ولذا فالمعرفة تعيش في حالة تضاد؛ وفق هذا التقييم، فإما أن يشاد بدور المعرفة لأنها الأداة المحركة لحالة «الثابت والمتغير» وهو ما يجب أن تكون عليه، ويشار إليها بالبنان؛ إكبارا لدورها وتأثيرها، وإما أن تتهم بالقصور، وتعاد كل مرجعيات التغير؛ وخاصة البدائية منها، إلى قصور المعرفة، وخاصة عندما لا تجد المعرفة الأرضية الخصبة للنمو والازدهار، وهذا في حالة وجود أصوات تقصي عوامل المعرفة في مهدها خوف تفرعها وسطوتها، وامتداد شعبيتها التي لا تقف عند حد، ومما يبعث على الاطمئنان أن مثل هذه الصور المتخلفة تلاشت اليوم، وهناك تدفق غير عادي لتأثيرات المعرفة، وهناك تغيرات كونية، وليست فقط محلية، بفضل هذه المعرفة التي تتفرع، وتتشعب، وتضرب في عمق القناعات فتخلخلها؛ وبما يتفق مع واقع اليوم وظرفه، حيث لا مناص من العيش وفق مقتضيات الواقع واستحقاقاته الكثيرة.

ومن يتقصى الحركة الكونية في شأن «الثابت والمتغير» يجد أنها تأخذ بعدين متوازيين: فهناك حركة موضعية رأسية تخلخل البناءات القديمة؛ فتبقي الثابت القائم على المعرفة الحقيقية والمنطق السليم، وتزيح المتسلق الذي لا يرتكز على هذين الأساسيين، وهناك حركة أفقية منتشرة ومتسارعة تتقصى كل المكونات البشرية، وتلتحم بكل الجغرافيا التي تتمدد على مساحاتها الشعوب، ولا تستثني شعبا، أو عرقا، أو لونا، أو عقيدة أيدلوجية، ولو يكون ذلك عبر عناوين عريضة، يتخذ هذا «المتغير» إشكالا وألوانا، تعبر عن مدى شمولية الحركة الأفقية للمتغير، والسؤال: هل هناك ثمة موقف مقلق لما سوف تؤول إليه الحالة في أي من هذين الاتجاهين؟ والتصور هنا - انطلاقا من هذا السؤال - القلق لن يوازي قيمة العائد من مجمل المتغيرات كلها، فهناك عوائد ناتجة من ديناميكية «الثابت والمتغير» وهناك جميع الشعوب؛ إلا الاستثناء؛ يقدرون هذا العائد، ويرون فيه حياة جديدة معبرة عن واقع حالهم الذي يعيشونه، وأنهم فعلا تجاوز مظنة العيش «تحت جلباب أبي» وخاصة لدى فئات السن الصغيرة، الذين يرون في ثيمة «الثابت والمتغير» تحقيقا واقعيا لذواتهم التي يبنونها طوبة طوبة، وهنا مقاربة جميلة مع مثل صيني يقول: « حيث ينال الرجل سطوة، حتى فراخه وكلابه تصعد إلى السماء» كما ورد في رواية «بجعات برية ليونغ تشانغ، ولذلك عندما تزور أراض لشعوب بدائية تستغرب من تسلل مظاهر لصور الحضارة الحديثة، ولو على شكل «لا فتات» للوجبات السريعة، على سبيل المثال، حيث ترى التهافت الغريب على الانتماء لها من خلال روادها البسطاء، ذلك لأنها تعنيهم، وتعبر عن حالتهم التغييرية التي ينشدونها.

سطوة الصراع الطبيعي المشتعلة من خلال صورة «الثابت والمتغير» يراها البعض أنها ما يربك القيم الكامنة بين مختلف العلاقات، وبالتالي ما يؤدي إلى زعزعة البناءات القديمة الثابتة، فيتحول الثابت إلى متغير والمتغير إلى ثابت، وبقدر مباركة الناس لمثل هذه التحولات، لكنهم يضعون لها شروط عدم المساس بالمصالح الذاتية، وهذا أمر يستحيل تحقيقه، فالخير يعم، والشر يعم، هذه الصورة من الحالات التي يكون فيها تبادل في الأدوار بين «الثابت والمتغير» كما هو الحال في مباريات كرة القدم؛ على سبيل المثال؛ فإن هناك ثمة مباركة للطرف الفائز الذي كان مهزوما، ومواساة للطرف الخاسر الذي كان منتصرا، مع أن الناس يعمدون؛ من خلال تشجيعهم - لكل فريق مناصروه - إلى اضطرار الفريقين لأن يتبادلان هذه الأدوار، قسرا عنهم، ولو بركلات الترجيح، وهذا مما يناقض ما يتكئ عليه البعض كقناعة، عندما يرى أن «الثابت» هو الأصل، وأن «المتغير» هو الاستثناء، ومع ذلك كلا الاثنين يعيشان تضاد القبول من كل الناس؛ إلا الاستثناء؛ والاستثناء يعد دائما خروج عن القاعدة.

عندما نفكر في النجاح، في الانتصار، في التميز، في قيادة الركب، في أن يشار لنا بالبنان، في موقع بارز، عندها لا بد أن يكون الـ«متغير» هو منهجنا، وأن تكون عندنا قناعة بذلك، حتى نجد، ونحن نمارس هذه الرؤية المتقافزة إلى الأعلى، المبرر للبحث عن وسائل جديدة، طرق مختلفة، حيوية في العلاقات بين مختلف المكونات، حتى تبقينا على نفس المستوى، لأن الثوابت عموما تعاني من ركود يبعث على الملل في كثير من الأوقات، ولا يتيح فرصة استنشاق الأمل والتحرر من الصور النمطية، وهي، في العادة صور متعبة إذا داوم تكرارها في أي نشاط إنساني، ولذلك ترى في حيوية النظم السياسية، على سبيل المثال؛ في بعض التجارب الدولية، شيئا من التغيير المستمر، وهناك صور جديدة في كل مرحلة زمنية، تتراكم فيها الممارسة التنموية، ولذلك يقال لك: هذه شعوب حية، وهذه نظم ديناميكية، لأن الركون المبالغ فيه إلى «الثوابت» يوجد نوعا من الرهاب في النفس، فلا تتقدم خطوة، بقدر ما تتأخر خطوات، ومن هنا يظهر وجه الممارسة بينها وبين الشعوب البدائية التي تقتات على المسلمات، حيث ترى فيها المخرج من كل إشكالية لمختلف قضايا الحياة اليومية، ولذا فهي تعيش بعيدا عن مفهوم «المتغير» الذي ترى فيه «اللعنة» على مقدراتها الاجتماعية، هذا جانب من المناداة ببقاء «الثوابت» وفي ظل هذا الثبات، تبقى الحسابات واضحة والأرقام ثابتة، ومن يعتنق مثل هذا المذهب يرى أن طوق النجاة هو البقاء على امتداد هذا الخط، وهذه ضمن القناعات التي ينادي بها بعض البشر، ويتخذونها منهجا.

نعي تماما أن نمو السكان، على سبيل المثال؛ حالة متغيرة؛ قد ينظر إليها من جانب مشرق؛ حيث تكمن الحياة والتفاؤل والأمل، فالصحة الإنجابية في أعلى مستوياتها، لأنها تقدم هدايا ديموغرافية مستمرة، وهذا ما يضفي على الشعوب الحيوية، ولكن في نظرة أخرى، او ثقافة أخرى ينظر الى تكرار حالات الولادة على أنها معضلة «عصر» لأنها تتطلب الكثير من الاستحقاقات، وعندما لا تكون الاستحقاقات بحجم الطموح يتحول التفاؤل إلى تشاؤم، والأمل إلى يأس، وقد يتراجع هذا التغيير إلى مستوى الثبات، وهناك تجارب إنسانية سنت قوانين جديدة في هذا الاتجاه، أدت إلى تحديد النسل، ومع ذلك واجهتها مشكلة الكهولة بعد زمن ما، فجاءت تنشد التغيير من جديد، فهل هنا صورة «الثابت والمتغير» بعد كل هذا العمر من التجربة الإنسانية لم تستطع أن تتوغل في فهم الناس لها، بمعنى: هل لا تزال الصورة ضبابية في هذه المسألة؟

وتقيم المفاهيم الاقتصادية والسياسية والأمنية على أنها «ثوابت» لأنها ركائز الحالة الاجتماعية في أي تجربة إنسانية، في الوقت نفسه أن هذه الركائز مجتمعة لن تأتي أكلها بالصورة التي يتوقعها المخطط إلا من خلال معايشتها لحالة «الثابت والمتغير» ولا بد من إعمال الفكر في كيفية جعلها تقوم بدورها في هذه المحافظة، مع القدرة على جعلها حيوية التأثير، وهنا ما يستلزم إحداث تحولات مستمرة في مجال الحريات والمهارات والعلاقات مع شيء من الانضباط، لتقنين صورة «الثابت والمتغير» حيث لا إفراط ولا تفريط؛ أيضا؛ فالتوازن بين كلا المفهومين جيد، لأن الفضيلة كما يقال: «بين طرفين كلاهما رذيلة» والعلاقات عموما لها القدرة على إنتاج نفسها للتخفيف من أثر «الثابت والمتغير» خاصة عندما يكون هناك من يدفع بـ«الثابت والمتغير» بقوة الحماس، لا بحاجة التغيير، وذلك قبل أن يأخذ طريقه وفق سياقه الطبيعي.