أفكار وآراء

صمود الجبهة الاقتصادية

09 مايو 2018
09 مايو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

عرفنا من علماء وخبراء وقادة السياسة والمحللين الاستراتيجيين ما هي قوة الدولة الشاملة وما معنى الجبهة الداخلية ومتى يقال إنها صامدة. وتقبلنا انه في تلك الحالة يتسع المقام للحديث عن وحدة الصف وتماسك الأيادي ووحدة الهدف والمصير وصلابة الجبهة والوحدة الوطنية وسلامة النسيج الاجتماعي والالتفاف حول الهدف الأعلى وغير ذلك. المخاطر عالية بما لا يدع مجالا لأي تغافل أو تعامٍ والحاجة الملحة الى أحاديث من هذا النوع ليس فيها أي اصطناع، والتخوف من أن البعض يوظف تلك اللغة في غير محلها أو لتحقيق أهداف سياسية أو إخفاء أهداف أخرى لا يقلل مطلقا من جسامة ما تتعرض له المنطقة وكل بلد فيها من عواصف لا تهدأ إلا لتثور بشكل أعنف، ولا يكاد المرء يجد في العالم كله منطقة كمنطقتنا تتعرض لمثل تلك الهزات والمواجهات والأزمات وتتداخل في سياساتها وعلى أراضيها مطامع ومطامح قوى سافرة أو مستترة بما لم يعد يخفى حتى على العابث اللاهي. غير ان ما يعنيني في هذا السرد أن أتوقف قليلا عند ما أسميته الجبهة الاقتصادية وأتحدث قليلا عن معنى صمودها. يعرف كثيرون ان قيادة مصر -على سبيل المثال- اعتادت ان تعتبر انه لا يجب أن يمر يوم دون السؤال عن متوسط ارتفاع مياه أو منسوب النيل ومخزون البلاد من السلع الأساسية ووجود حوادث طائفية من عدمه على اعتبار ان تلك العوامل الثلاثة  تشكل جوهر ركائز قوة البلد وثباتها. وكما رأينا فهناك مكونان من الثلاثة لهما صلة بالاقتصاد والعيش والعمل والإنتاج. المعنى ان كل بلد في الأوقات الصعبة خاصة عليه أن يتأكد أولا من أن احتياجاته الأساسية موجودة وبقدر مناسب من الوفرة أو من الاحتياطيات وأن يأخذ في الاعتبار أن لا أحد يضمن أن تقع وقائع ما في أي لحظة تعوق حركة التجارة أو تعطلها أو تقلل تدفقها أو تجعل من العسير القيام بأعمال النقل الداخلية المطلوبة. حساب السيناريوهات والبدائل والسياسات  اللازمة والإجراءات مع كل سيناريو أمر لا مفر منه.

ما تقدم هو أساس لصمود الجبهة الاقتصادية ورغم ضرورته القصوى لا يغني عن سلامة بقية البنيان. لقد حدث تقدم مذهل في مفهوم ماهية الجبهة الاقتصادية بعد التطور الرهيب الذي حصل ويجري في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إذ أصبح الأمن السيبراني مثلا شأنه شأن لقمة العيش، أمن المنشآت  الحيوية والموانئ والمطارات والطائرات والسدود ومخازن الإمدادات ومحطات الكهرباء والمياه والغاز، وتأميمها إلكترونيا أو تقليديا لا يقل خطورة عن  الطعام والشراب. ومن الضروري أن يكون هناك احتياطي لكل أصل ذي صلة، كما يجب ألا ننسى أن مهارة التشغيل يدويا تنقذ من شدائد في الوقت العسير.

من الملاحظ أيضا أن قضايا مثل عملة التمويل اتخذت أبعادا سياسية بامتياز، فقد شهدنا في الآونة الأخيرة معركة مكتومة بين الولايات المتحدة والصين على من يكون له اليد العليا في أمر عملة الاحتياط والتجارة الدولية وأين يجب أن يقف أو يتقدم اليوان الصينى، وتذهب تحليلات متعددة الى أن العالم سيشهد اصطفافا نقديا شديدا خلال أشهر قليلة أو ربما سنة وسيكون الاستقطاب حادا فمن يقبل أن يتم تبادل سلعته - وخاصة النفط - باليوان - يتم حسابه على معسكر معين والعكس بالعكس وسيصبح إيجاد  توفيق بين سلة العملات الكبرى في العالم أصعب من أي وقت مضى. هنا نجد للعملة دورا وقيمة لم يكونا بهذا الشكل من قبل ما يضيف أبعادا جديدة الى الصمود الذي نعنيه للجبهة الاقتصادية وكيف يمكن تحقيقه، ومن الواضح انه يلزم هنا اتخاذ قرارات دقيقة وحساسة ومرنة وديناميكية بين هذا وذاك طوال الوقت.

وقد أثبتت عمليات إرهابية وإجرامية بعينها ان الصراع على كعكة السياحة أصبح أيضا ملعبا يتم فيه توظيف جماعات إرهابية أو تفجيرية لإبعاد السائحين من منطقة لحساب أخرى وذلك أيضا أمر لم يكن له نظير في السياسات الدولية من قبل ولا زلنا حتى الآن لا نعرف بالضبط كيف تتم معالجته إذ ان كل ما يحدث هو من قبيل الأعمال المخابراتية الشديدة الغموض والتعقيد بحيث تعرف من الشواهد من وراء الجريمة وتعرف الهدف لكن لا تعرف كيف تتوقى أو تحاسب أو تواجه إلا بصعوبات بالغة.

في شأن الجبهة الاقتصادية القوية أيضا ربما تحتاج السلامة الداخلية لها الى إعادة توزيع الموارد لتحسين الإنتاجية من ناحية ولكن أيضا لتطوير الاستدامة الاجتماعية ... وأعني بوضوح تحريك موارد الى الجهات الأكثر فقرا بطرق مبتكرة وجديدة وبنوعية موارد لم يكن يتم تحريكها من قبل.

سلامة الجبهة الاقتصادية أيضا تحتم المعرفة الدقيقة بحقيقة أوضاع سوق العمل والتشغيل وتأثير العوامل الديموغرافية والجديدة - مثل الأعداد المتزايدة من اللاجئين والمهاجرين أو النازحين وفي بلدان عربية عديدة - فالتزاحم على الفرص أصبح أشد وطأة.

الجبهة الاقتصادية المتماسكة هي جبهة لا تؤدى الفوارق المالية والطبقية فيها الى صدع لا يمكن رتقه ...وإذا كنت وغيري نعرف صعوبة التصحيح الضريبي للاختلالات الموجودة في كل بلد على حدة وفى العالم كله معا إلا أن الفرصة بدأت تسنح مع قيام الدول الأوربية الى أخذ الإصلاح الضريبي ومكافحة التجنب الضريبي والملاذات الضريبية بكل الجدية بعد أن هدد نضوب الموارد الدول الديمقراطية العتيقة بل والليبرالية ذاتها كفكرة حاكمة.

وفي اللحظات العصيبة أيضا تكتسب الأمور البسيطة والتي تمس إنسانية الإنسان قيمة مضاعفة ومن هنا فإلغاء أي أشكال تمييزية لا ضرورة لها في الحياة العامة والخدمات العامة أمر حيوي وفتح مساحات في الخدمات العامة الجديدة للفئات غير القادرة بحيث تشعر أنها ليست محرومة تكنولوجيا.

من المهم أيضا تعديل سلوك المستهلكين أو ما يسمى بثقافتهم الاستهلاكية ويجب ألا يبدو هذا أمرا بسيطا وأنا أتحدث عن خبرات حياتية واجتماعية. الملاحظ أن جيل الشباب لا يمتلك أو لم يتح له بعد أن يملك جلد الكبار. لا أقارن بين الأجيال واعرف يقينا أن لدى الشباب كنوزا من المعارف والطموحات لم ندركها نحن لكن الميزة التي يجب ان نرى كيف ننقلها إليهم هي الجلد أو بمعنى آخر تقبل استهلاك منخفض للغاية في بعض الأوقات وذلك دون تذمر. ان شعبا يستطيع ان يعيش الحياة بالطول والعرض وبأقل القليل عند الخطوب لهو شعب يستحق الاحترام ويعمل له ألف حساب حيث لا يمكن ان يتم كسره بسهولة.

يبقى من موجبات الصمود في الجبهة الاقتصادية ان ننظر حولنا لنرى أي موارد محلية بين أيدينا ولم نستفد منها كما يجب وأي موارد أجنبية نستهلكها دون داع ويمكن ببساطة استخدام بدائل محلية لها.

هناك الكثير ليقال ولدى القراء ما هو أكثر وحسبي هنا أن أنوه فقط الى بعض الشؤون التي تعضد قوة البنيان في وقت التوتر، ولست متشائما ولا أدعو الى التشاؤم لكن أريد أن نعرف أن الحكمة ضالة المؤمن، وقانا الله وإياكم كل مكروه.