أفكار وآراء

العالم الأوراسي.. بين الممكن والمستحيل !!

04 مايو 2018
04 مايو 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

واحدة من كبرى علامات الاستفهام التي لا تزال مخيمة على العالم في حاضرات أيامنا تلك المتعلقة بمصير النظام الدولي الذي يبدو ضبابيا حتى الأيام الأخيرة ، ومع المزيد من الحروب المرشحة للانفجار سيما في الشرق الأوسط وآسيا الشرقية .

ولعل الناظر للخريطة الدولية يتساءل أيضا هل نحن مقبلون على زمن تقاسم قطبين دوليين فقط مقدرات العالم مرة أخرى أم أن هناك أقطابا مختلفة مرشحة لأن تلعب أدوارا تاريخية حاسمة في تشكيل العالم الجديد؟

السؤال مركب وليس بسيط ، فهو من جهة يتصل بحالة القطبية العالمية المجبولة منذ البداية على الثنائية ، ومن جهة ثانية يفتح أعيننا على مصطلح جديد هو العالم الأوراسي القادم حثيثا من الشرق الأدنى إلى الشرق الأوسط ، ورويدا رويدا ربما يجد طريقه إلى أوروبا ، ومن يدري غدا وبعد غد أين سيقدر له ان يحل ، وهل ستمتد تأثيراته إلى ما وراء المحيط الأطلسي ليطال الولايات المتحدة الأمريكية ، وكذا عموم أمريكا الشمالية ؟ وإذا فعل فهل أمريكا الجنوبية بدورها مرشحة لأن تكون ملعبا جديدا للعالم الأوراسي ام سيقتصر الأمر على الشرق فحسب ؟

ينبغي بداية الإشارة الى ان قصة الحلم الأوراسي ليست وليدة اليوم ، وإنما تعود الى عقود خلت ، وقد كان الزعيم الفرنسي الشهير « شارل ديجول » هو من الأصوات الأولى التي نادت بالطرح الأوراسي، أي بقيام اتحاد سياسي وجغرافي بين أوروبا وآسيا ، اتحاد تبدأ حدوده من عند المحيط الأطلسي غربا إلى جبال الأورال شرقا ، الأمر الذي يمكن الأوروبيين والآسيويين من تخليق كيان بشري وتجمع إنساني يفوق في القوة والقدرة والعدد الولايات المتحدة الامريكية .

والمؤكد ان رؤية شارل ديجول في خمسينات وستينات القرن المنصرم لم تكن تهدف إلى الصراع أو المواجهة مع الجانب الآخر من الأطلسي ، أي مع الأمريكيين ، بل كان جل هدفها موصولا بتحسين حياة الأوروبيين والآسيويين معا ، عبر تعاون بناء اقتصادي وثقافي ومجتمعي، على الرغم من أن الجانب الشرقي من آسيا في ذلك الوقت كان شبه محتل أيديولوجيا بالنظام الشيوعي ، الذي ينافي ويجافي التوجهات الليبرالية لأوروبا الغربية ، كما ان الصين لم تكن حاضرة بقوة في المشهد في ذلك الوقت كما الحال حاليا في حاضرات أيامنا .

هل نحن أمام نهاية القرن الأمريكي وبداية القرن الأوراسي ؟

الجواب على السؤال المتقدم يجيب عنه الكاتب والباحث الاستراتيجي المصري الشهير في العلوم العسكرية والاستراتيجية « عمرو عمار »، وذلك ضمن مؤلفه الصادر حديثا ويحمل نفس عنوان السؤال المتقدم ، وفيه يربط بين ثلاثة تحولات : انتهاء زمن القطبية الأمريكية الوحيد المتحكم في مصائر وأقدار العالم من ناحية ، ونشوء وارتقاء العالم الأرواسي من ناحية ثانية ، فيما الركيزة الثالثة تتصل بالحزام الاقتصادي وطريق الحرير ، أي بواقع الحال الذي تفرضه حقائق القوة الاقتصادية وتاليا بلا شك العسكرية للصين .

يربط الباحث في كتابه الواقع في أكثر من أربعمائة وأربعين صفحة بين فكرة الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط ، وبين مولد العالم أو القرن الأوراسي كما يسميه ، وهو في طريقه لا ينسى ان يشير إلى أن زمن ما عرف بالربيع العربي ، لم يكن إلا تكرارا لفترة الحروب الدينية التي خبرتها أوروبا قبل ان تصل إلى اتفاقية ويستفاليا ، وقد استخدمت واشنطن المنطلقات الدينية في الشرق الأوسط في محاولة لتفتيت المنطقة ، فيما كان الهدف الأكبر الذي لا يغيب عن أعين صناع الامبراطورية الأمريكية وحكامها الحقيقيين هو تمهيد الطريق ل «ويستفاليا جديدة» ، وان كان غالبية محللي شؤون الشرق الأوسط في عالمنا العربي يتحدثون عن « سايكس بيكو الثانية ، والهدف الرئيس هو الاستعداد لمواجهة الدب الروسي ، والتنين الصيني في الصراع المرير على رقعة الأوراسيا .

قراءة صفحات هذا العمل الكبير تمضي في اتجاه يكاد يكون من المعلوم للمحللين الذين أدركوا أبعاد التطورات خلال العقد المنصرم في الشرق الأوسط ذلك انه لم يكن تقسيم الجمهوريات العربية ، وتفكيك الجيوش النظامية لتلك الدول إلا المقدمة فحسب .

بنهاية المطاف كانت واشنطن تخطط لأن تأتي بحكومات إسلاموية موالية كحائط صد لتمدد لاعبي الشرق الأوراسي ، تلك المتحالفة مع واشنطن منذ زمن بعيد يعود إلى القرن الماضي .

كان الدور المنوط بتلك الأنظمة صد لاعبي الشرق الأوراسي من التمدد في المنطقة ، ومنح البحرية الأمريكية السيطرة على الموانئ والممرات المائية ، وقطع شرايين وأوردة الحزام الاقتصادي على طريق الحرير البحري ، تلك المبادرة التي كشف النقاب عن اهم ملامحها الرئيس الصيني « شي جين بينغ » من الاستانا عام 2013 .

من جهة أخرى تبدأ قوى الإرهاب في الإزاحة والاصطفاف ناحية القوقاز ، ومن ثم ضرب روسيا في خاصرتها الجنوبية بالإصدار الثاني من الحرب الباردة بالتوازي مع عمليات الإزاحة حتى حدود الصين ، عبورا بالدول الأعضاء في شنغهاي ، مع تفعيل دور الخلايا النائمة داخل مجتمعاتها الإسلامية ، لإشعال ثورات ملونة جديدة، تقضي على هذا التحالف الساعي للسيطرة على رقعة الأوراسيا ، وتوقف زر العد التنازلي ، لإطلاق القرن الأوراسي .

سطور كتاب الباحث المصري عمرو عمار تدفعنا الى التساؤل هل هناك محاولات أمريكية أخرى لقطع الطريق على أوراسيا بعيدا عن ثورات الربيع العربي المغشوش ، وبأياد آسيوية أصيلة وأصلية ؟

بعيدا عن فكرة محاولات أمريكا تعظيم الأصوليات الدينية في الجمهوريات السوفييتية السابقة بهدف إحداث أكبر شقاق وفراق في النسيج المجتمعي ، يبدو أن القائمين على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين يقومون بقلب الآية أو عكس دفة القيادة واللعب على المتناقضات وكأن الأمر قراءة في المعكوس .. ماذا نعني بتلك العبارات والتي تبدو مبهمة بعض الشيء ؟

باختصار غير مخل يمكن القطع بان القوى الأوراسية تتكون من روسيا والصين بشكل أساسي ورئيس ، ثم تأتي الهند لاحقا ، هؤلاء يشكلوا معا أكثر من مليارين ونصف من سكان العالم ، وهم ليسوا قوة عددية ولا قوة عسكرية فقط، بل أيضا قوة اقتصادية يمكنها أن تسبب الإزعاج الكافي للأمريكيين في الحال والاستقبال .

في هذا السياق لا ترغب واشنطن أن ترى وحدة واحدة تجمع تلك القوى معا، سيما وأنها إذا اجتمعت على كلمة واحدة فان البديل المتاح أمام واشنطن ستضيق مساحته ، ولهذا فان واشنطن تتلاعب بكل من موسكو وبكين تلاعبا استراتيجيا وان كان المرء لا يظن انه ينطلي على الروس أو الصينيين . تاريخيا وفي سبعينات القرن المنصرم عندما كان الاتحاد السوفييتي هو العدو الأول لأمريكا فان وزير خارجية أمريكا العتيد هنري كيسنجر كان وراء دبلوماسية التقريب بين واشنطن وبكين، وذلك من خلال ما عرف بدبلوماسية البنج بونج ، وقد كان الهدف وقتها هو ترتيب الأوراق لمواجهة أو على الأقل تحجيم وتلجيم موسكو .

هنا يعن لنا ان نتساءل هل كان اختيار دونالد ترامب طروحات السلام والتقارب مع موسكو – بوتين هدفها الرئيس والأهم هو إقامة حلف سياسي اقتصادي يمكنه ان يقف سدا وحدا في مواجهة رؤى الصين التوسعية ، وبخاصة خطتها المعروفة بطريق الحرير الجديد ، ذاك الذي يعيد سيرة هذا الطريق التاريخي القديم والذي كان ضربا من ضروب العولمة قبل أن يطلق عليها هذا التعبير مؤخرا ؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك بشكل أو بآخر وبخاصة هناك علامات تدلل على ذلك جرت بها الأحداث خلال الأعوام الثلاثة الماضية ومنها التطويق العسكري الأمريكي في بحر الصين الشرقي لتقويض النفوذ الصيني وفق أدبيات الجغرافيا السياسية لـ « ماكيندر » التي فرضت نفسها على خطط البنتاجون لعقود ، بهدف قطع أواصر روسيا وتطويق الصين عسكريا ، وفصل الفضاء الاقتصادي بين آسيا ودول شرق ووسط أوروبا ، وغمسها في امبراطورية الفوضى .

هناك في الحديث عن العالم الأوراسي علامة استفهام أخرى تحاول استكشاف ما بين موسكو وبكين وهل هو تحالف استراتيجي أم تكتيكي؟

المعروف أن هناك العديد من الاتفاقيات الحديثة التي تربط بكين بموسكو ، ومنها اتفاقيات تتصل بالنفط والغاز ، وأخرى اتفاقيات تجارية واقتصادية ،عطفا على العديد من أوجه التعاون الثنائي .

غير أن واقع الحال وما وراء الكواليس يؤكد على أن ما بين العاصمتين الآسيويتين الكبيرتين بل والاستراتيجيتين إنما هو تحالف براجماتي كأعلى ما تكون البراجماتية ، والهدف هم مواجهة الاستراتيجية الأمريكية التي تبلورت عام 2010 وعرفت باسم « الاستدارة نحو آسيا »، كإصدار حديث من وثيقة القرن الأمريكي للعام 1997 للمحافظين الجدد.

الذين يعلمون طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الروس والصينيين يدركون تمام الإدراك انه بدون الترسانة النووية الروسية وبقية أسلحتها الفائقة التقدم ما كان لأطماع بكين ان تخمد في روسيا وهي قضية تاريخية تعود إلى عقود وقرون سابقة ، ولهذا فان روسيا ليس من صالحها بالمطلق قيام الصين بالانفراد بشرق آسيا ، وربما لهذا رأينا نشوء وارتقاء جماعة البريكس التي تضم إليهما الهند كعامل مرجح ، بالإضافة إلى جنوب أفريقيا والبرازيل .

هل سيكون رأس المال هو نواة العالم الأوراسي ؟

الجواب يقودنا إلى مسالة الردع النقدي ، تلك التي تتجاوز الردع النووي ، فقد أدرك الجميع ان السلاح النووي هو سلاح غير قابل للاستخدام لفداحة الخسائر الناجمة عنه ولهذا تخطط الصين لأن يكون المال والأعمال والاقتصاد والاستثمار هي ركيزة العالم الأوراسي الجديد .

في هذا الإطار نفهم لماذا أعلنت الصين في أبريل من عام 2015 عن تاسيس بنك الاستثمار الآسيوي لتمويل مشروعات البنى التحتية للحزام الاقتصادي وطريق الحرير في مواجهة مؤسسات بريتون وودز الخاضعة للهيمنة الأمريكية ، واليوم تتسابق دول العالم للانضمام كعضو مؤسس بما فيها خمس دول من مجموعة السبع الصناعية الكبرى وبعض دول آسيا المحورية .

الخلاصة : قد لا يكون العالم الأوراسي قريبا كما يخيل للبعض ، لكن المؤكد أن العالم لم يعد أمريكيا بالمطلق ، فزمن الأقطاب المتعددة قادم لا محالة .