أفكار وآراء

تعزيز المشاركة في التراث الثقافي

29 أبريل 2018
29 أبريل 2018

أ.د. حسني نصر -

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي أهمية نشر الوعي بالتراث الثقافي العماني كمقدمة ضرورية للحفاظ عليه وصونه، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للتراث الثقافي. وأكدنا أن قيام المؤسسات الرسمية والشعبية بتوظيف وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في التوعية بهذا التراث، ومن ثم تعزيز المشاركة الجماهيرية في جمعه وحمايته أصبح ضرورة لا غنى عنها في ظل التطورات الكبيرة التي يشهدها الإعلام العالمي من جانب، وخصوصية تراثنا الثقافي من جانب أخر. ثلاثة أدوار إذن يمكن أن تقوم بها وسائل الإعلام الاجتماعي في مجال التراث الثقافي تبدأ بنشر الوعي وتنتهي بدعم حملات صونه والحفاظ عليه، مرورا بتعزيز ثقافة المشاركة الشعبية فيه. واليوم نتحدث عن الدورين الأخيرين، ونبدأ بالحديث عن تعزيز المشاركة الجماهيرية في هذا التراث.

الواقع أن وسائل الإعلام الاجتماعي لا تساعد فقط في نشر التراث الثقافي والتعريف به، بل إنها أيضا يمكن أن تكسر الحواجز التي ربما تكون قائمة بين الجمهور والمؤسسات الثقافية المعنية بالتراث الثقافي. ويمكن القول إن هذه الوسائل قادرة علي إزالة الحواجز بين ما كان ينظر إليها باعتبارها ثقافة رفيعة وبين المجتمع، وبالتالي فإن الاهتمام بالتراث الثقافي الذي ظل لفترة طويلة مقصورا على نخبة من المثقفين والباحثين، أصبح مفتوحا، بفضل الوسائل الجديدة، لقطاعات واسعة من الجمهور.

والمؤكد أن انفتاح مؤسسات التراث الثقافي على الجمهور لا يعود بالفائدة على الجمهور فقط ولكن أيضا على هذه المؤسسات. والنموذج العالمي الذي يؤكد ذلك هو مشروع «مجلس عموم فليكر» الذي تأسس في عام 2008بالتعاون مع مكتبة الكونجرس بهدف زيادة وصول الجمهور العام للمجموعات التراثية المصورة وتشجيع مشاركة الجمهور في إثراء هذه المجموعات، وهو ما أدى إلى الحصول على المزيد من الصور التاريخية. وفليكر كما نعرف هو شبكة من شبكات التواصل الاجتماعي تختص بمشاركة الصور والفيديوهات وتنظيمها وحفظها، ويحتوي على أكثر من خمسة بلايين صورة. ويستخدم مجلس عموم فليكر خاصية وضع علامات لكل صورة تاريخية مع السماح للمشاركين بإضافة معلومات عنها، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة المعرفة بالصور الجديدة لتصبح إضافة قيمة للمجموعة كلها باعتبارها تراثا تشاركيا. والواقع أن هناك مؤسسات عديدة تستخدم فكرة مجلس العموم مثل معهد بحوث جيتي المتخصص في تاريخ الفن، ويمتلك أرشيفا يضم اكثر من مليوني صورة بالولايات المتحدة، والأرشيف الوطني بالمملكة المتحدة الذي يضم أكثر من 75 ألف صورة ووثيقة تغطي نحو ألف عام من تاريخ العالم في جميع المجالات، وحتى وكالة ناسا بالولايات المتحدة.

إن دعوة الجمهور ليكون جزءًا من عملية تنظيم وحفظ التراث الثقافي لم تكن لتتحقق بدون وسائل الإعلام الاجتماعي، وتصب هذه الدعوة في مصلحة الجميع كونها تعزز التراث المعروف مسبقا وتضيف له. ويبرز هنا المشروع الكبير الذي أطلقته صحيفة الجارديان البريطانية في السادس عشر من يناير 2014 لإحياء ذكرى اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد دعت الجارديان قراءها في العالم إلى إرسال اليوميات والخطابات والصور أو أية مواد ذات علاقة بالحرب تركها أقرباؤهم أو أصدقاء ممن شاركوا في الحرب. وقد جمعت الجارديان كل ذلك في موقع إلكتروني فرعي لها أسمته شهود عيان الجارديان، ضم نحو 872 مشاركة من القراء بصور وخطابات ويوميات خاصة بالحرب، أصبحت بالتالي من التراث الثقافي لهذا الحدث العالمي الكبير.

وقد قام الأرشيف الوطني الفرنسي بعمل مماثل بالتعاون مع مكتبة يوروبيانا الرقمية التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي انطلقت في نوفمبر 2008 في أوروبا بهدف جمع كافة الوثائق الأوروبية المتاحة من أفلام وكتب ووثائق وأرشفتها لتكون متاحة للجميع على موقع إلكتروني. وفي هذا المشروع طُلب من الجمهور تقديم أية وثائق لديهم خاصة بالحرب العالمية الأولى خلال أسبوعين، ليقوم المختصون بعد ذلك بمراجعتها ووضعها على موقع المكتبة الإلكتروني. وقد أثرى هذا المشروع المكتبة التي تضم أكثر من 51 مليونا من الأعمال الفنية والمصنوعات اليدوية والكتب ومقاطع الفيديو والأصوات من جميع أنحاء أوروبا. وتؤكد الأعمال السابقة أن وسائل الإعلام الاجتماعي يمكن توظيفها لتمكين المؤسسات الثقافية والجمهور للوصول إلي فهم مشترك جيد للتراث الثقافي وزيادة الوعي بأهميته. إذا انتقلنا إلى دور وسائل الإعلام الاجتماعي في صون التراث الثقافي، يمكن القول إن هذه الوسائل تتيح لأفراد الجمهور التعرف على أماكن أثرية والوصول إلى مجموعات من التراث الثقافي لم يكن بإمكانهم الوصول إليها، إما بسبب البعد الجغرافي أو بسبب مشكلات الصيانة التي تمنع عرضها على الجمهور. وقد مكنت هذه الوسائل الجمهور من مشاهدة هذا التراث والتعرف عليه والاستمتاع به وهم في منازلهم. فمن خلال الأدوات الرقمية فإن معظم التراث الثقافي الهش أو المعرض للتلف والذي لا يمكن عرضه على الجمهور للحفاظ عليه، يمكن إعادة بنائه رقميا من خلال المعارض الافتراضية، التي تبرز هذا التراث وتؤكد أهميته وأهمية الحفاظ عليه.

ورغم أن حماية وصون التراث الثقافي تقع في الغالب على عاتق الحكومات والمؤسسات الثقافية الرسمية، فإن ذلك قد لا يحقق نجاحا في معظم الحالات بسبب ضعف الميزانيات أو لاعتبارات سياسية وغياب القواعد التنظيمية والبيروقراطية، وهو ما يؤدي إلى الفشل في حماية التراث. هنا يمكن أن تلعب وسائل الإعلام الاجتماعي دورا مهما وفعالا في حماية وصون التراث الثقافي للمجتمع، من خلال نشر الدعوات والمطالب الخاصة بحماية أثر ثقافي ما، وتنظيم الحملات لدفع الحكومة والمجتمع إلى القيام بذلك. وتقوم وسائل الإعلام الاجتماعي بذلك بدور جماعات الضغط الجماهيرية التي يتسع إسهامها ليشمل جمع التبرعات وتقديم الدعم اللازم لحماية التراث الثقافي. وتبرز في هذا السياق الحملة الدولية التي اطلقها صندوق الآثار العالمي في عام 2014 لإيجاد وعي عالمي بأهمية حماية التراث السوري الذي تعرض لمخاطر كبيرة نتيجة الحرب الدائرة في سوريا منذ عام 2011، وأدت إلى تدمير نحو 290 موقعا أثريا. وقد استخدم الصندوق منصات وسائل الإعلام الاجتماعي لفتح المجال لنشر عرائض ومطالبات وقعها ملايين الأشخاص في العالم تدعو المجتمع الدولي ومؤسساته المختلفة إلى حماية هذا التراث. وقد أثمرت هذه الحملة في دفع منظمة اليونسكو إلى إطلاق مشروع طوارئ لحماية التراث السوري في مطلع مارس 2014، بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وبعد اجتماع للخبراء عقد في باريس في مايو 2014 أعلنت اليونسكو إنشاء لجنة لمراقبة أوضاع التراث الثقافي السوري اتخذت من بيروت مقرا لها. وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية تقديم تمويل لمدة عام لبحث حالة التراث الثقافي والمؤسسات الثقافية في سوريا وذلك بالتعاون مع كلية البحوث الشرقية. في ضوء ما سبق فإننا ندعو المؤسسات المعنية بالتراث الثقافي العُماني إلى التوسع في الاستخدام الفعال لوسائل الإعلام الاجتماعي في الوصول إلى الجمهور وتقديم رسائل معرفية وتوجيهية وإرشادية وسلوكية حول التراث الثقافي وضرورة صونه والحفاظ عليه، وتوظيف كل الإمكانات التي تتيحها هذه الوسائل، مع ضرورة وضع خطوط عريضة لأنشطة التوعية بالتراث الثقافي، واستخدام قادة الرأي والمؤثرين في وسائل الإعلام الاجتماعي في حملات التوعية بالتراث الثقافي العُماني المادي وغير المادي.