أفكار وآراء

الواقع يفرض ظروفا مختلفة !!

29 أبريل 2018
29 أبريل 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

تستوقفني كثيرا مجموعة التنظيرات التي يتحدث بها كثير من الناس، يٌنظرون من خلالها إلى مجموعة من ترسيخ القيم، والمثاليات، ويذهبون من خلالها إلى بث رسائل للمتلقي، وذلك باعتبار أن هذه الرؤى التي يتحدث بها هؤلاء المنظرون، أو التي ينادون بضرورة تطبيقها؛ هي الكفيلة بحل إشكاليات الحياة اليومية للناس جميعا،

وهم بذلك يتوقون إلى عالم من المثالية، ويطمحون أن يكون كل الناس عند هذا المستوى من الطموح والتقبل، متناسين في ذات الوقت مجموعة من التجاذبات النفسية عند كل فرد، وأثرها في تقوقع البعض، وتململهم عن الوصول إلى هذا المستوى من التفكير، أو الطموح، وهذا لا يعد عيبا في حقيقة أمر الإنسانية، فالإنسان عبارة عن مركب من الدوافع النفسية والذاتية، وبالتالي لها الدور الكبير في جعل كثير من الناس عند مستوى معين لا يمكن تجاوزه، وليس عندهم الاستعداد لقبول ما يقول به هؤلاء، وإن كان هؤلاء هم من أصحاب العلم، والخبرة، والتجربة في الحياة.

من الملاحظ أنه يكثر في هذه التنظيرات الفعل «يجب» حيث يتردد كثيرا ذكره في جميع فقرات الطرح، ولو أن أحدا منا ركز قليلا عند الاستماع لمثل ذلك لوجد تكرار الفعل «يجب» في كل جملة (يجب كذا .. ويجب كذا) مع أن هذا الوجوب يحتاج إلى طرف آخر - يكون قد - ترسخت عنده القناعات؛ بالموضوع محل النقاش، إلى درجة لا تقبل المفاضلة بخلاف ذلك، وهذا؛ في الواقع، شبه مستحيل، في ظل الحقيقة البشرية المبنية حياتها على ركني الخطأ والصواب، فالإيمان بتقبل أية فكرة تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، ومعرفة العائد قبل كل شيء، ولأن ما يتحدث به الناس عادة لا يكون عائده حاضرا في ذات الوقت؛ حيث يحتاج كثير من السنين، وبعضه بعد الموت، فإن المخيال البشري لا يستوعب مجموعة الأوامر والنواهي، ولذلك تظل المسافة بعيدة بين ما يطرح من حقائق وآراء، وبين سرعة الاستجابة من الطرف الآخر.

يقول لك أحدهم: يجب على الناس أن يتقيدوا بتعاليم الدين، لأن في ذلك منجاتهم من مهالك الحياة الكثيرة، ففي ذلك صلاح لأنفسهم ولمجتمعهم، وفي ذلك حظوتهم من رضا الله سبحانه وتعالى، ويقول لك آخر: يجب على الناس أن يتقيدوا بالأنظمة والقوانين، لأن في ذلك محافظة على حقوق الآخرين، وفي ذلك محافظة على حقوق الناس؛ فدائرتك تنتهي عندما تبدأ دائرة الآخرين، ويقول لك ثالث: يجب على الطلاب أن يذاكروا دروسهم ويحلوا واجباتهم؛ أولا بأول، لأن ذلك سبيلهم للنجاح والتفوق، ويقول لك رابع: يجب على الموظفين الالتزام بقوانين الوظيفة وأنظمتها، لأن في ذلك تحقيق للمصلحة العامة في خدمة الوطن والمواطنين، ويقول لك خامس: يجب على الناس أن يتعاونوا فيما بينهم، لأن في ذلك توادهم وتراحمهم، وبناء مجتمعاتهم التي يعيشون عليها، ويقول لك سادس كذا ...، وسابع كذا ... وتستمر أفعال الوجوب، والتي يجب على الناس أن يقومون بها، ظنا من القائل؛ في أغلب الأحيان؛ أن الناس لا يعون مثل هذه الواجبات التي عليهم، والحقيقة أن جل الناس يعون تماما هذه الواجبات، وأثر تطبيقها على الواقع، ولكن جل هؤلاء، في المقابل، تتنازعهم الكثير من المصالح الذاتية، ويظلون مأسورين تحت وطأتها، ولذلك تبقى الحياة على ديمومتها طرف ينادي بالمثل العليا، وطرف لا يكترث لكل هذه النداءات، ولو صح اليسير منها، لربما غدت الحياة جنة وارفة الظلال.

واقع الناس عبارة عن قناعات يؤمن بها الأفراد، وليس من اليسير أن يتقبلوا أمرا خارج قناعاتهم التي يؤمنون بها؛ وإن تفاوت مستوياتها بينهم؛ إلا في حالة واحدة، وهي تلك المسنودة إلى نص سواء أكان هذا النص: نصا دينيا، أو نصا تشريعيا، او نصا عرفيا، وحتى هذه النصوص؛ هناك من عنده الجرأة في تجاوزها، قد يكون استكبارا، وقد يكون جهلا، ومع ذلك، لا بد أن يتحقق شرط القناعة، لقبول هذا الأمر أو ذاك، وهذه القناعة؛ ليس يسيرا بناؤها أيضا، حيث تحتاج إلى كثير من الشروط الواجبة في بنائها، ويأتي في مقدمتها: الخبرة الطويلة في الحياة، وكذلك تحقق العمر، فقناعات كبار السن، ليست كقناعات من هم أصغر سنا، بالإضافة إلى الثقافة المكتسبة، وهي القادرة على تصويب مسارات الحياة المختلفة، وحتى الثقافة هناك من يرى أنها متهمة أيضا في هذا الجانب، نظرا لما تمليه على معتنقيها من القدرة على المجادلة، وعدم التسليم السريع، نظرا لبعد الرؤية التي يتميز بها مناصرو ثقافة ما.

عندما نقول: «أن الواقع يفرض ظروفا مختلفة» فإن المعنى يذهب إلى حيث مجموعة التفاعلات التي تكون بين هذا المتلقي للرسالة الموجهة إليه، وبين مجموعة العوامل النفسية - على وجه الخصوص - التي تتقاطع في نفسه، فلا تتيح له فرصة اغتنام الرسالة الموجهة إليه، ولذلك؛ يحدث أحيانا؛ أن يحتاج الواحد منا إلى حالة نفسية خالية من التوترات لكي يفكر في أمر ما؛ بغية استيعابه؛ فعندما تتزاحم الأفكار تغيب التفاصيل، وهذه إشكالية موضوعية في فهم الرسالة، وهناك توجيه فيه من الحكمة الكثير، على سبيل المثال، يقال: إذا أردت أن تصلي، وأنت جوعان، عليك أن تأكل أولا، لأن شرط الصلاة استحضار جميع المكونات النفسية، حتى تستشعر عظمة الخالق في نفسك، فعظمة الخالق هي رسالة لك لكي تجرد النفس من متعلقات الحياة؛ وغريزة الجوع لا تتيح له فرصة السمو لاستحضار مكانة الله تعالى وأنت واقف بين يديه، وتصل الى حد معقول من الحضور الذهني والنفسي، وبذلك إن لم تتجاوز حالة الجوع فإنك لن تقوى على الحصول على هذا السمو في تلك اللحظة، ويقال كذلك: إذا غضبت من أمر ما، وأنت واقف، فاجلس، وإن كنت جالسا فاضطجع، حتى تستجمع قواك، فاستجماع القوى هنا توصلك الى الحكمة وعدم التهور، وثورة الغضب عندك لن يكبح جماحها وأنت على هيئتك التي عليها، فلا بد من عمل إزاحة موضعية للجسد حتى تتغلب النفس على ثورتها، فتعالج الموقف بشيء من الحكمة، وكما تم ذكر الأمثلة السابقة، فمذاكرة الطالب، والتقيد بالقوانين والأنظمة، والإخلاص في الوظيفة، والتعاون بين الناس، وعدم المغالاة في المطالبة بالحقوق، وغيرها الكثير، هي؛ في حد ذاتها؛ رسائل يوجهها طرف؛ يملك قدرا من المعرفة، الى طرف؛ ربما لا يكترث بتطبيق كل الرسائل الموجهة اليه، لأن واقعه لا يتيح له فرصة التروي والتمعن لظروف مختلفة، قد تكون معرفية، وقد تكون بيئية، وقد تكون اجتماعية، وقد تكون فطرية، ولذلك يتفاوت الناس في استيعابهم لمختلف الرسائل الموجهة إليهم، ونظير هذا التفاوت تبقى إشكاليات الحياة قائمة، والتفاوت بين الناس في مختلف شؤونهم الخاصة أو فيما بينهم قائم أيضا، والأمثلة كثيرة في هذا الاتجاه.

ولذلك فالواقع ليس في أيدينا؛ في كثير من الأحوال؛ حيث يفرض أجندة خاصة، وعلينا أن نتعامل معها بنوع من الحكمة، حتى نستطيع أن ننجز كما مقدرا من المسؤوليات والواجبات التي تحاصرنا من كل صوب، ولذلك نلاحظ، في بعض المرات، أن تكون هناك استجابات مباشرة للرسالة؛ من بعض الأفراد؛ ولكن سرعان ما تتراجع هذه الاستجابة، ولم تلق لها موضعا تستقر فيه فتنمو وتثمر، لأنها كانت استجابة غير واعية زحمت في لحظة تلقيها بكثافة من مشاعر التأثر، فسلمت للمؤثر مباشرة، ولم تستوعبها النفس إلى درجة الإيمان بأهميتها- ويحدث هذا غالبا - عند فئات السن الصغيرة، حيث تنقصهم خبرة الحياة، ولذلك فهذه الفئة هي التي توجه إليها الرسالات؛ وبكثافة؛ خاصة للموضوعات غير الحميدة، والهادفة إلى إحداث اختراق سلوكي ما، فلحظة التأثر تلك؛ تقيم؛ على أنها كافية لجس النبض، على أقل تقدير، وإن لم تعمر، وهذه الفئة قابلة لمختلف الرسائل خيرها وشرها، ومع ذلك ينظر إليها على أنها الفئة المطواعة لتلقي الرسائل وتقبلها، ومسألة بقاء الرسالة واستمرارها، على المرسل حينها أن يواصل بث رسالته، ولا بد من حصول نتائج على مرور الزمن.

أخنتم هنا؛ على أن الواقع مسألة معقدة، ويخضع لكثير من الظروف، ويحتاج إلى كثير من الاستحقاقات، وبالتالي فالتعامل معه ليس يسيرا، ومتى استوعب المنظرون، وأصحاب الرسائل حقيقة هذا الواقع استطاعوا أن يجددوا في خطابهم المعرفي، وأن لا يبقوا على وتيرة واحدة، وأسطوانة متكررة في شكل الوسيلة وحقيقتها، وإلا ودعوا ميادين العلاقة التي تربطهم بالآخر في وقت مبكر.