abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش ومتون : «بيروت» نجمتنا

28 أبريل 2018
28 أبريل 2018

عبدالرزّاق الربيعي -

بعض العواصم، والمدن لها رنين في أرواحنا، ومنها بيروت التي تمثّل مركزا من المراكز الثقافية العربية، وقد لعبت دورا كبيرا في النشر، والطباعة، والمسرح، والفنون التشكيلية، والدراسات الأكاديمية، وحتى عندما داهمتها الحرب الأهلية منتصف السبعينات، ظلّت محتفظة بألقها، وبريقها، رغم دخان الحرب التي «أحرقت الأخضر بسعر اليابس»، كما يقال، لكنّها ظلّت تحافظ على اخضرارها، ولم تتلكأ بأداء رسالتها الثقافية، حال جميع المدن العريقة، فكانت بين حين وآخر، تباغت تجّار الحروب، وتلقي زهور السلام، والمحبّة على الكرة الأرضية، من خلال أغنية جديدة لفيروز أو لحن لزياد الرحباني، أو كتاب حب، وتقوم مجددا، «كزهرة لوز في نيسان» كما يقول قباني، ذلك لأنّ «الثورة تولد من رحم الأحزان»، وكانت زيارتها تمثّل حلما لكل مثقّف عربي، لذا سررتُ كثيرا عندما تواصلت معي قناة الميادين ووجّهت لي دعوة لأحلّ ضيفا على الإعلامي الشاعر زاهي وهبي، وبرنامجه المعروف (بيت القصيد)، ولم تكن تلك زيارتي الأولى للعاصمة اللبنانية الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسط، بل سبق لي أن قمت بزيارتها في أكتوبر 2011م بدعوة من المركز الإعلامي العربي، وخلال سبع سنوات مرّت لبنان بظروف، وأزمات سياسية، وهزّات إقليمية عديدة، لكنّها ظلّت كما رأيتها في المرّة الأولى تقاوم تلك الظروف، وتنهض، ذلك لأنها كما وصفها درويش:

تفاحةٌ للبحر، نرجسة الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت

شكل الروح في المرآة

وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام

بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام.

فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام.

وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت

في المطار وجدت اسمي مكتوبا على لافتتين: الأولى لمندوب من السفارة العمانية، والثانية لمندوب من قناة الميادين، رغم أنني أبلغت معدّة البرنامج ومنتجته الإعلامية غادة صالح بأن هناك من ينتظرني لكنّها أصرّت على إرسال مندوب، وكانت فاتحة تدلّ على كرم ضيافة، واخترت الذهاب مع الأول معتذرا من الثاني الذي قبل اعتذاري بكلّ أريحيّة.

ومن شرفة الطابق التاسع عشر من فندق (لانكستر بلازا) المطلّ على البحر، والواقع على طريق عام الروشة كنت أتناول وجبة إفطاري مادّا بصري من الأعلى إلى الشارع، لأقتنص مشهد طائر يفرش جناحيه، ويحلّق برشاقة في فضاء أزرق يجعل الروح تتصل بالمطلق، وتعانق الوجود، وفي الأسفل كانت الحياة تتنفّس بهدوء، ثمّة عدد من هواة المشي يحثّون الخطى في الشارع الذي رأيته بالمساء محفوفا بالعاشقين الذين يتأبطون أحلامهم: صبايا، وشباب في عمر الزهور، يملأون المكان حبّا، وفرحا، وحيويّة، مدججين بحرّيّة تصلح أن تكون عنوانا لهذه العاصمة، التي تضمّ مختلف الأديان، والطوائف، والأعراق، لكنها تذوب ببعضها، لتشكل نسيجا جميلا، وفي وسط أحد الشوارع شاهدت رجلا كسيحا يشقّ طريقه زحفا على يديه في منتصفه والحافلات تسير عن يمينه ويساره، فسألت الصديق الدكتور هادي عيد عن موقف رجال الشرطة من هكذا حالة! فأجاب: «نحن في بلد حريّة الإنسان فوق كلّ شيء، ولا يوجد قانون يمنعه من ذلك»، ورغم الزحمة خلال ساعات الذروة رأيت حركة السير تمضي بسلاسة، ودقّة، بتوجيه شرطيّات ينظّمن الحركة، فالمرأة اللبنانيّة تراها موجودة في كلّ مرافق الحياة شريكة للرجل في صنعها.

ورغم ارتفاع درجات الحرارة في المناطق الساحلية ببيروت، لكنّها تتناقص بشدّة بمجرد صعود جبل لبنان، ويكون من الطبيعي إطفاء المكيفات في الحافلات، وفتح النوافذ لاستنشاق الهواء العليل، في اليوم التالي لوصولي أبلغوني أن تسجيل حلقة البرنامج سيكون في أحد البيوت التراثيّة، وجاء السائق ليصطحبني إلى هناك، حين دخلت البيت أحسست بعبق الماضي العريق يتسرّب من كل زاوية من زوايا البيت، كان الإعلامي زاهي وهبي زاهيا بأناقة القصيدة، وأسئلته التي تسيل من فمه كحبّات اللؤلؤ، وقبل ذلك حدثتني غادة صالح عن اختيار مكان سياحي لتصوير التقرير مع مخرجة التقارير الفنانة داليا أبو حيدر، فاخترت مدينة جبيل الواقعة على بعد 37 كيلومترا إلى الشمال من بيروت، وهي من المدن الساحلية القديمة التي ما زالت مأهولة بالسكان منذ ثمانية آلاف سنة، لذا فهي غنيّة بالآثار، وأبرزها قلعتها التاريخية التي بناها الصليبيون عام 1204، وفي محلاتها شاهدت صخورا عليها هياكل أسماك متحجرة، سألت عن أعمارها، فعلمت أن بعضها عمره آلاف السنين!!

غادرت بيروت، بعد إتمام التصوير، وفي جيبي دعوة لمشاركة ثقافيّة قادمة، فبيروت تظلّ كما قال درويش «خيمتنا .. بيروت نجمتنا».