أفكار وآراء

رؤوس أموال .. تعزف على وتر البناء

08 أبريل 2018
08 أبريل 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تتزاحم مجموعة رؤوس الأموال على اختلاف مسمياتها، وأهدافها، لتسجل مكاسب على قدر كبير من الأهمية في واقع أية تنمية يحرص أفرادها على النمو والترقي، والأخذ بأسباب النجاح، حيث تلعب رؤوس الأموال دورا محوريا في معالجة قضايا التنمية المختلفة، وهي قضايا كثيرة ومتشعبة، وتأخذ أبعادا كثيرة من الأهمية كلما قطعت التنمية شوطا متقدما من الإنجاز،

كلما استطاعت التقنية الحديثة أن تسجل مكاسب نوعية في سبيل الرقي ببرامج التنمية المختلفة، ولم يعد تسارع برامج التنمية في مختلف بلدان العالم يعتمد على تحمّل رأس مال محدد، وإلا ستكون التنمية مبتورة؛ وغير قادرة على الإيفاء بمتطلبات الحياة العامة، وهي متطلبات تزداد إلحاحا مع كل فترة زمنية متقدمة أيضا، ولذلك تحرص الحكومات على الاهتمام الشمولي بكل رؤوس الأموال المتاحة، وبكل رؤوس الأموال المستجدة على ساحة التنمية، فلا يكفي الاعتماد اليوم على رؤوس أموال تقليدية للإيفاء بمتطلبات التنمية، وبالتالي أصبح في حكم ما تقتضيه الضرورة أن يتم البحث بصورة مستمرة عن رؤوس أموال حديثة، والحرص على مساهمتها المساهمة الفاعلة في مسيرة التنمية، لأنها أرصدة مهمة، وهذا الاهتمام يذهب بعيدا الى حيث تعزيز كل رأس مال على حدة، بما يتوافق معه من معززات معرفية، ومهارات سلوكية، وأنظمة حديثة، وتشريعات تتواكب مع متطلبات التنمية، واستغلال التقنية، وخاصة اليوم في ظل تسارع ثورة الاتصالات التي تتوغل في كل جزئيات الحياة اليومية لدى الإنسان، «فقد تطورت المعرفة والثقافة من كونها عوامل إنتاجية جامدة - معا مع رأس المال والقوى العاملة - وميزة نسبية في الماضي، الى كونها مكونا حيويا يدعم الميزة التنافسية للأمة والمنطقة أو المدينة» كما يقول فرانشيسكو خافييير كاريللو في كتابه مدن المعرفة: المداخل والخبرات والرؤى «مترجم».

حتى عهد قريب تم التعويل على الرأس المال البشري لأهميته الكبيرة في تعضيد مسارات التنمية، وكان؛ ولا يزال؛ له فضل البقاء لكونه المقوم الرئيسي للبناء في التنمية، وأي تنمية حاضرة، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتجاوز الـ «رأس المال البشري» لكونه العمود الفقري لكل رؤوس الأموال التي تساهم بفاعلية في مسيرات التنمية على اختلاف تجارب الشعوب، ولقد عكست التجارب التقليدية في التنمية ما قبل التقنية الحديثة اليوم، أن رأس المال البشري يعد المحفز الأول لتبني البرامج التنموية، وقد نجحت تجارب كثيرة في مسيراتها التنموية بفعل الـ «رأس المال البشري» ولذلك حرصت الشعوب المستعمرة على استغلال هذه الجانب، فحملت، وهي في طريق عودتها الى بلدانها، الكثير من أصحاب المهن، والحرفيين، وأعدادا من البشر للاستفادة منهم في تنمية بلدانهم، حتى حلت التقنية الحديثة اليوم فخلخلت هذا الجانب، فأصبحت الكثرة لا تعبر كثيرا عن ثراء بشري للدولة، إلا بالقدر الذي يكتسبه هذا الجمهور من معرفة، وما يفصح به من فكر إبداعي خلاق تسجله التقنية الحديثة كإنجاز بشري يستحق التقدير والثناء، ولكن مع ذلك يظل العامل البشري اهم مقوم من مقومات التنمية في أي بلد كان، ولعلنا نلحظ في الوقت الحاضر الدول التي يتعاظم فيها الـ «رأس المال البشري» في قدرتها على غزو العالم بوسائل تقنياتها الحديث، عندما استغلت هذه الأعداد من البشر في توظيف عقولها وإمكانياتها المعرفية في وفرة التصنيع، حيث تأتي الصين من بين الدول التي تتحقق فيها هذه الصورة أكثر من غيرها.

تبذل الحكومات اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ مبالغ من المال تكلف موازناتها العامة الكثير، وذلك إيمانا منها بأن «رأس المال الفكري» هو الضمان الأبقى والأوفى لتعزيز مسيرتها التنموية، وهي؛ أي الحكومات؛ وإن تكلفت في فترات نموها مثل هذه الموازنات في هذا الجانب، فهي على يقين أن المكتسب العائد من ذلك سيكون مضاعفا، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، والمكتسب هنا؛ يقينا؛ ليس ماديا فقط، بل يضاف الى ذلك «رأس المال الفكري» والذي من خلاله تستطيع الدول أن تناجز به مختلف التحديات التي قد تواجهها، او تعرقل مسيرتها التنموية، فإيجاد بدائل لحلول القضايا الشائكة، او الفارضة نفسها في أي وقت، لن يكون يسيرا للبحث عن حلول لها جذرية وفاعلة وسريعة، إلا من خلال هذا الفكر الحاضر بقوة التأثير، وهذا لن يتحقق إلا بوجود «رأس المال الفكري» القادر على التعامل مع مختلف المستجدات، فوق أن وفرة «رأس المال الفكري» معناه الدفع به الى مختلف التجارب التنموية في مختلف دول العالم، وفي ذلك عوائد لا حصر لها للبلد الأم، ولعلنا نلاحظ هذا التدفق المعرفي من بلدان كثيرة الى بلدان أكثر ما هو إلا نتاج لفائض كبير في «رأس المال الفكري» وعوائد؛ يقينا؛ تعود أكثر الى البلد الـ «مصدر» على هيئة صور كثيرة، منها استثمارية، ومنها فوائد ضريبية، ومنها تصدير المنتج الى البلدان الجاذبة التي يعوزها مثل هذا المنتج، ولعله من شدة تأثير وقوة «رأس المال الفكري» استطاعت القوة المصدرة له أن تمارس اطماعها الاستعمارية بصورة غير مباشرة، وأصبحت؛ في المقابل؛ الدول المستوعبة لـ «رأس المال الفكري» ان تخضع لشروط، وما تمليه عليها الدول المستقوية بهذا العامل.

يعد رأس المال الاجتماعي محور العملية التنموية في كل التجارب الإنسانية، لأن المجتمع، وبما يملكه من خبرات، ومن أعداد بشرية نوعية بتنوع المعرفة والمهارات التي يمتلكونها، ويتبادلون منافعها هي التي تعطي هذا المجتمع أو ذاك بعد التأثير على الواقع الذي يعيش فيه، والذي يدفع به نحو المستقبل برؤى معبرة وعاكسة للإمكانيات التي يتحلى بها أبناء المجتمع، وإذا كانت المؤسسة بشقيها الرسمي والخاص، تعتبر النموذج لتفريغ الطاقات عند أفراد المجتمع، فإن مؤسسات المجتمع المدني لها الدور الكبير أيضا للمساهمة في نمو التنمية في المجتمع، شريطة أن تتحرر هذه المؤسسات من المظان الخاصة، والتي عادة ما تتوغل - لضعف النفوس - الى بعض أفراد هذه المؤسسات المعقود عليها لعب الكثير من الأدوار في خدمة المجتمع، فـ «رأس المال الاجتماعي» وما يملكه من خبرات، وما يتفاعل بين جنبيه من حرص صادق على البناء والتطوير، فإنه بذلك يستطيع أن يلعب أدوارا محورية في التنمية، ولعل في وجود العرف الاجتماعي بأهمية الوطن، وأبنائه، ما يحفز هذا الجانب لأن يكون له موطئ قدم في تنمية مجتمعه، وما ينعكس ذلك على الرصيد العام للإنتاج، ولذلك يأتي المجتمع بما يملكه من قدرات وطاقات تتجاوز فهم الـ «مقابل» ليدفع بخطط التنمية وأهدافها الى الأمام، والى اختصار الوقت، وتوفير الجهد، حيث تظهر الصورة العامة في توادها وتقاربها بين أفراد المجتمع، فيصب ذلك كله في خانة الدولة ككل، وهذا الجانب هو داعم رئيسي لـ «رأس المال الثقافي» حيث «يتنامى الاستهلاك الثقافي للفنون وأصناف الطعام وخطوط الموضة والموسيقى والسياحية» - وفق المصدر السابق - وهذا الاستهلاك يحتاج الى توفير منتج، وتوفير المنتج معناه قوى تشغيلية متعددة المواهب والمهارات في مختلف الفنون الثقافية ، وهذا ما يعزز من الصور الحديثة للتنمية، وهي الصور التي تعكس حيوية خطط التنمية، ومقوماتها الحاضرة، وبما يتناغم مع متطلباته.

يظهر اليوم الكثير من الاهتمام في إنشاء المدن الصناعية، وهو ما يذهب الى «رأس المال الصناعي» وهو في ذات السياق لا يقل أهمية على مختلف رؤوس الأموال التي تعمل الدول الحديثة على تفعيلها، وتعزيز روافدها المختلفة، حيث تلعب فيه الآلة الحديثة دورا محوريا فاعلا، فلم تعد الصناعات التقليدية هي التي تلبي متطلبات التنمية الحديثة، ولذلك تأتي الصناعات التحويلية كأهم رافد رئيسي لتعزيز «رأس المال الصناعي» وهذا بدوره تستحوذا استحقاقاته على كل رؤوس الأموال التي تم التطرق إليها، وهو رأس مال حيوي، ويعد العمود الفقري لأي تنمية في الحاضر والمستقبل، ومع أن تكلفة فاتورته عالية الثمن، إلا أنه في المقابل عائده المادي كبير، وتعول عليه الحكومات في تعزيز أرصدة اقتصادياتها لمواجهة مختلف الظروف الاقتصادية.

رؤوس أموال كثيرة ومتعددة ومتنوعة، مختلفة المسارات والاستحقاقات، ومتعددة المصادر والروافد، ولكنها تبقى عصب الحياة في حاضر أي تنمية تنشد البقاء والاستمرار والمنافسة أيضا، وعلى الرغم مما تشكله رؤوس الأموال هذه من تحديات على صناع التنمية، إلا أنها تبقى خيارا لا محيد عنه، ولا بديل، ومتى استشعرت الدولة بأهميتها كان ذلك طريقا آمنا لتحقيق الرخاء لشعوبها، وتذكرة عبور للوصول الى الغايات الكبرى لخطط التنمية وبرامجها.