الملف السياسي

انتخابات 2018 العربية.. دروس الخبرات المعاصرة

02 أبريل 2018
02 أبريل 2018

د. صلاح ابو نار -

إن عمليات الانتقال السياسي المفاجئة وسريعة الإيقاع، اقل ما تكون صالحة لإجراء مسارات انتخابية ناجحة. ذلك ان تلك العمليات تضعف بشكل سريع من قبضة السلطة ووظائف مؤسساتها، فتخلق فجأة فراغا سياسيا ومعه تدافع سياسي وفوضى تنظيمية.

يبدو المشهد العربي مزدحما بالانتخابات على امتداد النصف الأول من عام 2018. فلقد شهدت جيبوتي انتخاباتها النيابية في 23 فبراير، ثم أجرت مصر انتخاباتها الرئاسية في 26-28 مارس. وفي 6 مايو ستشهد تونس أول انتخابات بلدية لها بعد 2011، وفي نفس اليوم ستجري لبنان أول انتخاباتها التشريعية منذ انتخابات مجلس 2009، الذي جددت ولايته ثلاث دورات متتالية نتيجة لصراعات القوى السياسية والتداخلات الإقليمية. وفي 12 مايو سيشهد العراق انتخاباته النيابية. وعلى امتداد بقية العام، وبافتراض سير الأحداث وفقا لتوقعات خطة سبتمبر 2017 التي اطلقها غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا، ستنتهي عملية من تحديث قاعدة الناخبين، ويعقبها التصويت على الدستور الليبي الجديد. ويلي ذلك انعقاد مؤتمر وطني ليبي عام للمصالحة، كخطوة نهائية قبل إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في ربع العام الأخير.

لايمكننا وضع كل تلك الانتخابات في سياق تحليلي واحد، والصحيح ان تحليلها تحليلا مقارنا يمكننا من فهمها بدقة، يفرض وضعها في اكثر من سياق جامع، ويستلزم هذا التركيز الانتخابات المصرية والتونسية والعراقية والليبية. يجمع الانتخابات المصرية التي انتهت بفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي بفترة ولاية ثانية وانتخابات تونس البلدية المنتظرة في 6 مايو، سياق سياسي واحد. فكلاهما جرى وسيجري في مسار عملية سياسية طويلة انطلقت في سياق عواصف 2011 العربية. وكلاهما جرى وسيجري في سياق اجتماعي توافقي، خال من الصراعات الاجتماعية عالية أو متوسطة الحدة. وكلاهما جرى وسيجري في سياق سياسي خال من العنف السياسي الجماعي المنظم، ودرجة عالية من استقرار وتماسك السلطة وقدرتها على النفاذ في المجتمع والإحاطة به. وكلاهما يسيران في سياق تطور مستقبلي، حتى الآن لايواجه تحديات كبرى قادرة على تغيير وجهته، وبالتالي يمكننا التنبؤ بمساره على المدى المتوسط. وكلاهما شهد تراجعا لخطر الأصوليات المتطرفة، سواء عبر تأثيرات العمليات الصراعية على التوازنات السياسية، وانقسامات القوى الأصولية التي صاحبتها اعادة صياغة لتحالفاتها، كما هو في الحالة المصرية أساسا والتونسية جزئيا. أو عبر نوع من الضبط الذاتي السياسي للقوى الأصولية، يصاحبه درجة من علمنة التوجه السياسي والرؤية الفكرية، كما في حالة تونس.

تقع الانتخابات العراقية والليبية في سياق آخر. هنا سنجد درجة انقسامية اجتماعية عالية، ناجمة عن مزيج متفاوت من انقسامية بين التنظيم الاجتماعي، والانقسامية الأثنية، والانقسامية الجهوية. والاخطر تفككا قوة الضبط المركزي، التي كانت تقوم بادارة تلك الانقسامات، ودمجها في مشروع الدولة الوطنية. ومستوى صراع سياسي شديد الارتفاع، ناجم عن عوامل متداخلة.

تفكك قوة السلطة المركزية، ومعها هياكل التنظيم المركزي والاقليمي. والاخطر تفكك مؤسسات العنف الشرعي المركزي، وانتقال مساحة من وظائفها الى كيانات اجتماعية وسياسية، تقوم بتوظيفها سياسيا وفرض هيمنات جهوية. وانقسام حاد في المجال الاهلي، يتخذ اساسا شكل الانقسام العلماني الاصولي، وينتشر عبر تفاعله مع الانقسامات الاجتماعية، وينزع نحو مأسسة وجوده عبر ملء الفراغ الناجم عن تفكك مؤسسات الدولة المركزية. ويأتي اخيرا دور التدفقات السياسية الخارجية. تدفقات كثيفة ومتواصلة، تنوعت مصادرها بين القوى الجهادية، والقوى الاقليمية الساعية لتصعيد أدوارها التقليدية والباحثة عن ادوار جديدة، والقوى الدولية بأدوارها المتغيرة. وكان لتلك التدفقات تأثيرها المدمر. فلقد سارعت في اضعاف قوة الدولة المركزية وتفكيكها، بمعدلات قادت الى اضعاف قدرتها على القيام بأدوارها التقليدية.

وكنتيجة لذلك تشكلت وسيطرت قوى سياسية جديدة، تطورت بقوة ومعدلات اسرع من قدرتها على ملء فراغ القوة، وصياغة بدائل سياسية قادرة على تحقيق الاجماع العام. ومن جهة اخرى خلقت بيئة سياسية مفتوحة عصية على السيطرة الوطنية، وتقاطعات قوية بين الصراعات الوطنية والاستراتيجيات الخارجية، إلا أن القوى الدولية انتبهت اخيرا بعد ان نالتها نيران الارهاب، الى خطورة نمط تدخلها السابق. وهكذا عدلت وجهة ادوارها، عبر تكثيف التدخل العسكري في العراق دعما لسلطة الدولة المركزية، والدفع بمشروع التوافق الوطني الليبي عبر دعم دور الامم المتحدة، واستئصال قوى الدولة الاسلامية في العراق وسوريا بتداعياته الحتمية في ليبيا.

شهدت الدول الاربع المكونة للسياقين، انتخابات متتالية مابين رئاسية ونيابية وتأسيسية. تفاوتت مساهمتها سواء في التأسيس السياسي للمشاركة الاجتماعية، أو إعادة بناء مؤسسات الدولة المفككة والمنهارة، أو في بناء الحكم الرشيد، أوالدفع صوب الاستقرار السياسي والاجتماعي. أعلى المنحنى الممثل للنجاح سنجد مصر تليها تونس ، وأدناه سنجد العراق تليها ليبيا، رغم ان المجموعتين شهدتا مسارات انتخابية متقاربة الايقاع والكثافة. الأمر الذي يقودنا لطرح تساؤل حول الحدود السياسية للعملية الانتخابية. ولا ينطوي السؤال على أي تشكيك، في ضرورة الانتخابات في العمليات المشار اليها. ولكنه ينطوي علي أمرين : الاول انها ليست الضرورة الوحيدة، بل ضرورة ضمن ضرورات اخرى. والثاني انها في حدود ضرورتها، في حاجة الى جملة من الشروط، تتخطى العملية الانتخابية بمعناها الاجرائي. وسنهتم هنا بالامر الثاني: ماهي تلك الشروط كما تكشفها لنا دروس خبرات دول السياق الثاني؟

تفيدنا تلك الخبرات - اولا – ان العملية الانتخابية إذا جرت في سياق مجتمع يعيش انقسامات اجتماعية وإثنية حادة، يمكن أن تتحول الى آلية لخلق انقسامات سياسية عميقة. وتلك الامكانية لاتتولد لمجرد وجود الانقسامات الاجتماعية، فالوجود الاجتماعي انقسامي بطبيعته. بل عبر تحول الانقسامات الى صراعات، ونزوع القوي السياسية لتوظيفها حركيا ومأسستها تنظيميا، وغياب الدور التنموي والادماجي لسلطة الدولة الوطنية.

وتفيدنا ذات الخبرات – ثانيا – ان العملية الانتخابية تتأثر فورا وبقوة، بالانقسام السياسي الإسلامي – العلماني في حالة سيطرته علي مجال سياسي ما. وهو انقسام يمتلك حال انطلاقه سياسيا، القدرة على تدمير إمكانيات الاستقرار وبناء الإجماع الوطني ، تبعا لقدرته على دمج الاختلافات السياسية في اطار مقدسات ومحرمات التراث، وبالتالي قدرته الاستثنائية على الحشد السياسي. والمشكلة ان هذا الانقسام في حالات كثيرة ولأسباب عديدة لايمكن تجنبه، وبالتالي يصبح المطلوب هو تزويد العملية السياسية بالآليات القادرة على تحييد تأثيره لأقصى درجة، مثل بناء توافق عام ومسبق على القيم الحاكمة للمجال السياسي.

وتفيدنا تلك التجارب – ثالثا – ان العملية الانتخابية لكي تحقق المرجو منها، يجب ان تمارس عبر نسق معين من القيم السياسية ، دون وجوده ستتحول الى اداة لتوليد الانقسام وتصعيده. قيم تتعلق بالمبادئ الحاكمة للنظام السياسي، مثل المساواة وسيادة القانون وواجبات المواطنة. وأخرى تنظم العلاقة بالآخر السياسي، مثل التعايش المشترك والتسامح ، ونسبية القيم وتغيرها وشرعية الاختلاف. وثالثة تتعلق بادارة مسار العمليات السياسية. فلا يمكن لتلك العمليات أن تصبح اسيرة لقيمة الصراع ، بل يجب ان ترافقها قيم اخرى مثل التدرج والمساومة والتوازن والتوافق والتحالف.

وتفيدنا تلك التجارب – رابعا – ان عمليات الانتقال السياسي المفاجئة وسريعة الإيقاع، اقل ما تكون صالحة لاجراء مسارات انتخابية ناجحة. ذلك ان تلك العمليات تضعف بشكل سريع من قبضة السلطة ووظائف مؤسساتها، فتخلق فجأة فراغا سياسيا ومعه تدافع سياسي وفوضى تنظيمية.

وتدفع بذات المعدل السريع، بقوى جديدة الى قلب العملية السياسية. قوى غير مهيأة سياسيا لمواجهة الموقف، ومجردة من الحد الأدنى الضروري من التوافقات السياسية، ومسلحة بالغرائز السياسية اكثر كثيرا من امتلاكها للمسؤلية التاريخية. ثم تطلق عملياتها الانتخابية في هذا السياق، فتأتي تلك العمليات غالبا بثمار مختلفة ، والمأساة انها تقتحم الساحة متشحة بالشرعية الانتخابية.