أفكار وآراء

ما بين المؤامرة والصدفة.. ثمة إسقاطات نفسية

01 أبريل 2018
01 أبريل 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

لا ينتفي فهم الـ «مؤامرة» في كثير من الأحداث البشرية، فهناك تكتلات وتحزبات، تنتصر الى مصالحها الخاصة؛ وهذا شيء مفروغ منه؛ ولكن لا يجب أن يلصق أي شيء تحت قائمة الـ «مؤامرة» لأن في ذلك امتهانا وتقزيما لقدرة الإنسان على صياغة طموحاته ومشاريعه، وأفكاره ورؤاه،

يردد الناس كثيرا مقولة: «لا توجد حقيقة مطلقة» ولكن لأن الإنسان لا تتكشف له الكثير من الحقائق، وما يجهله من عالم الغيب أكثر مما يعلمه، تراه يذهب بعيدا بآرائه، وبتعليلاته، وبتفسيراته للأحداث والمواقف، خاصة تلك الأحداث التي ترتبط به ارتباطا مباشرا؛ سواء تلك الأحداث التي يشترك بها مع غيره من بني البشر؛ أو تلك التي يتصادم بها مع مجسات الطبيعة من حوله، وهو في هذه الحالات كلها، لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، دون أن يعرف التفاصيل الدقيقة عن أي شيء يتصادم معه، ويغالي في هذه المسألة كثيرا ويدخل نفسه في ضوائق نفسية، وهم وحزن وكدر، المهم أن لا يقف دون مستوى المعرفة بحقيقة ما في هذا الاتجاه أو ذاك، ولعل هذا الإلحاح هو الذي يقوده في كثير من الأحيان الى اكتشاف ما لم يكن في الحسبان، ويقف على حقائق ما كان لها أن تكون في الواجهة لولا هذا التقصي المستمر، حيث أحداث الصدفة، التي تجره الى حقائق أخرى تفتح له مغاليق الأشياء.

وانطلاقا من حالة الشك الـ «فطرية» هذه التي يعاني منها الإنسان، وتنزله؛ في كثير من الأحيان؛ منازل الغلو في فهم الأشياء وتقصيها، تأتي بما يسمى بـ «نظرية المؤامرة» وهي فهم اجتماعي متأصل في المسيرة الإنسانية، ولذلك تلوكها الألسنة ليل نهار، وفي مختلف المواقف، وهي إحدى المسلمات التي يؤمن بها الناس إيمانا مطلقا، ويقرونها منهجا إيمانيا للحكم على الأحداث صغيرها وكبيرها، حيث يشترك في احتضان هذه الصورة الذهنية كل البشر؛ بلا استثناء؛ ولا تزال تعمر تاريخيا منذ لحظة ميلادها الأول؛ غير المؤرخ علميا؛ حيث توارثتها الأجيال، وحتى مع نمو المعرفة الشاملة التي تتقصى كل الأوراق الإنسانية، ومع ذلك تظل الصورة الذهنية لـ«المؤامرة» حاضرة في مواقف كثيرة يوظفها الإنسان في جميع أنشطته اليومية، ويرى فيها مخرجا لتأصيل قناعاته بما يحدث حوله.

يشير موقع «ويكبيديا» إلى أن «نظرية المؤامرة تعتمد على نظرة؛ أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسد في ثلاثة مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه» وهذا القول منسوب الى مايكل باركون؛ وهو عالم في السياسة؛ وفقا للمصدر؛ ومع التسليم لهذه المبادئ الثلاثة التي جاءت في قول مايكل باركون، إلا انه يظل الإيمان بها إيمانا نسبيا، فهناك أشياء كثيرة تحدث بالصدفة، ولا يكون للإنسان فيها دور أبدا، سواء صنفت هذه المواقف في جانبها الإيجابي، أو جانبها السلبي، أضرت بهذا الإنسان، أو أعانته على الانتصار على من حوله من الكائنات ليعيش أكثر. وكثيرة هي الأشياء تحمل معاني مختلفة عما تبدو عليه، كما أنه؛ وفي كثير من الأحيان؛ يأتي تفكيك الحزَم بنتائج أكثر موضوعية وفائدة للناس، عما تكون عليه الحزمة الواحدة «وكل شيء مرتبط ببعضه» إلا أن الصورة الذهنية لمفهوم الـ «مؤامرة» هي التي لا تزال راسخة في ذهن الإنسان، فحولته من حالة اليقين الى حالة الشك، ومن حالة الإقدام والنصر، الى حالة التقهقر والانهزام، ومن قوة الإرادة الى ضعف الخذلان، ولذلك أثرت الصورة الذهنية لمفهوم الـ «مؤامرة» كثيرا على أنشطة الناس، وأوردتهم موارد الهلاك، وجعلت فيهم التحزب والتعصب، وشكلت في المجتمعات كتل متحجرة في الفكر والعقائد.

من الحكم التي تناقلها الواتسابيون اليوم النص التالي: «لا تحكم على الأمور بظواهرها، وإن بدت لك كما تظن فتريث، ولا تطلق أحكامك دون تثبت، فكم من مظلوم بسبب العجلة وسوء الظن» انتهى النص – فهذه الصورة هي الحالة المقلقة، والمتوالدة من مفهوم الـ «مؤامرة» التي لا تزال تتحكم في جميع أنشطة الإنسان اليومية؛ حيث الشطط، وسوء الظن، وعدم الاطمئنان الى الآخر، والتي تجسد حالته الفردية، على أنها حالة مطاردة من كل المنازل الآمنة، وأنه الوحيد المستقصد في هذا الكون، بخلاف كل الكائنات، ومن هنا تأتي مجموعة التحصينات التي يحيط بها نفسه، تحسبا من مواطن الشر التي سوف تهجم عليه، وإنني لأعرف أناسا كثرا، أحاطوا منازلهم بتحصينات شديدة التمكين من الأجهزة الحديثة، ومن آلات التصوير التي تسجل وتصور حتى دبيب النمل على الجدران، كل ذلك تحسبا لعدو سوف يهاجم المنزل، ولمجموعة سوف تغتال أمنه، وراحته، وسكونه، ولا يزال الإنسان يستمرئ هذا الفعل المخضب بوهم «عداوة الآخر» له، حتى وإن كان هو لا يملك من هذه الحياة شيئا أكثر من معززات الحياة الرئيسية.

تسجل الذاكرة الإنسانية اليوم الكثير من الأحداث، وتصنفها تحت مسمى الـ «مؤامرة» وينبري أناس كثر بين فترة وأخرى للتنظير حول هذه الأحداث، مؤكدين انها مؤامرات يحيكها البشر ضد بعضهم البعض، فكل الحروب التي شهدتها البشرية، والتي لا تزال قائمة على امتداد الجغرافيا هي «مؤامرة» وانتفاضات الشعوب ضد حكامها القساة الذين يعيثون في الأرض فسادا هي «مؤامرة» وحتى اقصاء مسؤول كبير في حكومة هو «مؤامرة» وتغيير وزاري في حكومة ما هو «مؤامرة» وشهادة حرة في محكمة ضد معتد هي «مؤامرة» وصدور حكم قضائي ضد قضية ما «مؤامرة» وقس على ذلك أمثلة كثيرة تحدث في الحياة، دائما يعاد تصنيفها تحت مفهوم الـ «مؤامرة» وكأن هذا الإنسان مشلول الإرادة في اتخاذ قراره، أو انه لم يزل يحتاج الى وصاية مستمرة لكي ينقي عمله، وينظر إليه بشيء من الاطمئنان، أما بخلاف ذلك فهو لا يزال يعيش تحت أحد المبادئ الثلاثة: «: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه» والتي تحدث عنها مايكل براون في تقييمه لنظرية الـ «مؤامرة».

لذلك؛ ووفقا لهذه النظرة المتأصلة الى قناعة؛ كما يبدو؛ أن أية تكتلات، او توافقات، او تقاربات، تحدث بين أية مجموعة إنسانية ليس لها سبيل للخروج من سوء النظرة التي ترسخها نظرية الـ «مؤامرة» وهذه أكبر إشكالية موضوعية تعيشها البشرية، عبر تاريخها الإنساني، الذي يسجل اليوم آلافا من الأعوام، وعلى كثرة ما عاشته البشرية من تجارب، وما مرت به من أحداث، وما تحصلت عليه من معارف، وما خاضته من حروب ونزاعات، وما تيقنت منه في بعض الأفعال والمواقف من أن قراراتها كانت خاطئة، وتقييماتها كانت سلبية، ومع ذلك ظلت نظرية الـ «مؤامرة» قائمة، وظل الشك مستعليا على اليقين، والتردد مربك للإقدام، وهذه الصورة عامة وشاملة عند الأفراد والجماعات، وعند اليمين واليسار، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الثقافة؛ حيث لا يمكن تنقية أي مناخ إنساني عن الوقوع في مطب الـ «مؤامرة» وأن لا شيء هناك يقع بوحي الصدفة، وفي المقابل هناك تناقض كبير بين الإيمان بنظرية الـ «مؤامرة» وبين النتائج المتحصلة من مختلف الأفعال والأنشطة التي يقوم بها الإنسان الفرد، او الإنسان في مجموعاته الكثيرة، وإلا فما هي مبررات الإخفاق في كثير الأحداث، وما هي تفسيرات الهزائم التي تقع فيها الجيوش، وما هي التعليلات التي يمكن أن تساق لتفسير تغير القناعات التي تحول كثيرا من مجريات الحياة على درجة مقياس تصل الى (180) درجة، لو كانت كل الأمور مخططا لها، وكل الأحداث مقصودة، وكل الأعمال البشرية تسير وفق رؤية واضحة؟.

يقينا؛ لا ينتفي فهم الـ «مؤامرة» في كثير من الأحداث البشرية، فهناك تكتلات وتحزبات، تنتصر الى مصالحها الخاصة؛ وهذا شيء مفروغ منه؛ ولكن لا يجب أن يلصق أي شيء تحت قائمة الـ «مؤامرة» لأن في ذلك امتهانا وتقزيما لقدرة الإنسان على صياغة طموحاته ومشاريعه، وأفكاره ورؤاه، ولأن في ذلك خذلانا لتحقيق الآمال والطموحات، والحلم بحياة أكثر رغدا في المعيشة، وأكثر أمانا في البقاء والاستمرار، دون الوقوع في حالة من الترقب، والتحفز، وبالتالي فالصورة الذهنية المترسخة لمفهوم الـ «مؤامرة» تكبل الإنسان عن الاستمتاع بحريته، وبانطلاقاته نحو هذا الكون الأوسع، فتعمق حوله جدران السجون الذاتية، وتجعله دائما تحت رحمة الآخر، وبالتالي ينضوي تحت ردائه، ولا يقوى على تحديد مصيره بالكيفية التي يريدها، وهذه قمة السيطرة التي يمارسها الإنسان على أخيه الإنسان، بصورة غير مباشرة، او يتخيلها هو فتخذله عن التقدم، وتمارس عليه سجنا معنويا لا فكاك منه.