أفكار وآراء

عملاق التواصل الاجتماعي في قفص الاتهام.. الخطأ والخطيئة

31 مارس 2018
31 مارس 2018

د. عبدالعاطي محمد -

منذ الانتشار الكاسح لمنصات التواصل الاجتماعي وهي تتعرض لانتقادات عديدة تتعلق بأن مستخدميها كثيرا ما يسيؤون استعمالها وبالمقابل لم تتوقف المحاولات لضبط التعامل بها لمنع انتهاك الخصوصية. ولكن أن يقع عملاقها «فيسبوك» في نفس الخطأ ويضبط متلبسا فتلك طامة كبرى وصفتها وسائل الإعلام بالفضيحة!.

والقصة كما تابعها الرأي العام على مستوى العالم تتلخص في أن الشركة العملاقة سمحت بتسليم البيانات الشخصية الموجودة على حسابات عشرات الملايين من المستخدمين للموقع، لشركة استشارات بريطانية لجأت إليها حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمساعدتها على كسب المعركة الانتخابية. ولأن حملة ترامب لا تزال تعاني من المطاردات القانونية والسياسية، مع أن الرجل يعيش عامه الثاني في البيت الأبيض،فإن مسألة التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية ظلت حية ومفهومة لدى الكثيرين خصوصا أن هذه الانتخابات دائما ما تكون عرضة لمثل هذا النوع من الاتهامات سواء كان حقيقيا أو زائفا، ومن ثم لم يقف أحد كثيرا عند احتمال وقوع تعمد وعن إدراك لهذا التعمد من جانب منصات التواصل الاجتماعي. فالطبيعي جدا أن الكل يلجأ إليها للترويج لنفسه وللتقليل من شأن المنافسين، وذلك بوصفها أحدث وسائل التأثير في صياغة الرأي العام أو تشكيل الاتجاهات، وهي سريعة وقوية وفعالة حقا.

ولكن جدية التحقيقات والإصرار عليها من جانب المعنيين بالقضية من الأمريكيين قادت إلى فتح ملف شركة الاستشارات التي لجأت إليها حملة ترامب، وهي شركة «كامبريدج أناليتكا» البريطانية التي كان عليها أن تقدم المشورة للحملة لكي تكسب الانتخابات. وقد تمكن باحث روسي يعمل في الشركة هو الكسندر كوجان من ابتكار تطبيق معين حصد من خلاله على كم هائل من البيانات الشخصية لنحو 50 مليون مستخدم لموقع الفيسبوك، مستغلا ثغرة في نظام الموقع!. وبناء على هذا العمل تم تطوير برنامج من حملة ترامب يتيح توقع تصويت الناخبين والتأثير عليه في الانتخابات من خلال رسائل.

عند تلك اللحظة انفجر بركان في وجه عملاق التواصل الاجتماعي «فيسبوك» لم يكن يتوقعه يوما أو على الأقل كان يعتقد أنه سيكون أمرا هينا بسيطا يمر مرور الكرام. وكان من الملفت أن مؤسس الموقع التزم الصمت بعض الوقت، ولكنه اضطر إلى التحدث إلى الرأي العام معترفا بالفضيحة ومتأسفا. الرد الذي حرك المياه الساكنة جاء سريعا من البورصة حيث هوت سريعا أسهم الشركة العملاقة، وقيل أن الخسائر في الأيام الأولى للحدث وصلت إلى نحو 50 مليار دولار، وخسر مارك زاكربرج مؤسس الموقع وحده نحو 7 مليارات دولار، كما لحقت الخسائر بمنصات أخرى على علاقة بالموقع سواء تويتر أو جوجل ذاته. وفي تطورات لاحقة أعلنت مكاتب محاماة أمريكية أنها تقدمت بشكاوى جماعية باسم مواطنين ومالكي أسهم طلبا لتعويضات باهظة، بل ظهرت دعوات للتخلي عن الموقع حالا ومستقبلا تحت عنوان «حذف – فيسبوك».

هذه الصدمة المالية هى التي فجرت قضية الشركة العملاقة وجعلتها حديث العالم لعدة أيام وفتحت عليها أبواب الجحيم. ولأن المال هو سيد الموقف في عالم الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص انفتح الملف ولم يغلق إلى أن تنتهي التحقيقات ويجري تصحيح المسار الذي قاد إلى كارثة كهذه. وبرغم أهمية الصدمة المالية فإن الواقعة كاشفة لإشارات حمراء عديدة من شأنها أن تضع مصير منصات التواصل الاجتماعي، وفي المقدمة منها الفيسبوك على المحك. ومنذ فترة كانت بعض العواصم الغربية قد دخلت في مواجهة مع كبريات منصات التواصل الاجتماعي ضمن العمل على ألا تصبح مجالا رحبا للتنظيمات الإرهابية. والآن وبعد أن اتضح أن الخطر يأتي أيضا من داخل نظم هذه المنصات، يتسع مجال المواجهة على مستوى التشريعات بوجه الخصوص.

في ذكر ما جرى أشار البعض إلى أن خطأ فادحا كهذا له جوانبه القانونية بمعنى أن الشركة العملاقة ربما بسماحها تسليم البيانات الشخصية تكون قد انتهكت المرسوم الذي يحكم عمل الموقع وتحديدا القواعد الصارمة التي تضمن الحفاظ على سرية البيانات الشخصية، وإذا ما ثبت ذلك فإن الشركة معرضة لدفع غرامات مالية ضخمة استنادا لعدد من تعرضوا للأذى هم وأصدقاؤهم. وقال البعض الآخر إن المسألة أخلاقية تماما وتهوي بمصداقية الموقع الشهير. في المساءلة أمام إحدى لجان البرلمان البريطاني قال الباحث الذي وضع التطبيق إن الموقع كان على علم بالثغرة التي استغلها ولم يبلغ أحدا. ولكن مسؤولي الموقع قالوا إنه في عام 2015 سلم الباحث البيانات إلى شركة كمبريدج وأنه تم مسح هذه البيانات، وهو ما تبين أنه غير صحيح وإلا ما كانت قد ظهرت مشكلة تسريب البيانات. اللاأخلاقية في المسألة لها أكثر من وجه، فالمفترض أن البيانات الشخصية لها حصانة لأنها تتعلق بما يمكن أن يندرج تحت عنوان الأسرار المؤثرة في حياة صاحبها وإفشاؤها يعرضه لأخطار معنوية أو مادية. ومن لجأوا إلى الموقع سلموا مسبقا بأنه سيكون حاميا لبياناتهم الشخصية وإلا ما كانوا قد وافقوا على استخدامه. وأما الوجه الآخر فإنه يتعلق بالخداع أو التواطؤ في عملية بيع هذه المعلومات وحتى إذا ما كانت الشركة على علم فالواجب كان يقتضى التوقف سريعا ومسح ما تسرب من بيانات ولكنها صمت أذنيها وأغلقت عينيها على اعتقاد أن الأمر لن ينكشف. ويرتبط بذلك أن قصة الموضوع أشارت إلى أن الأمر ممتد منذ عام 2014 (تأسس فيسبوك عام 2004) مما يعنى أن الشركة لم تكترث بما كان يجري تحت حمى الانتشار وجني الأرباح من الموقع حتى وإن كان ذلك على حساب عدم احترام الخصوصية. هكذا اضطر مؤسس الموقع إلى الظهور للجمهور معترفا بالخطأ ومعربا عن أسفه، وتعهد ألا يتكرر هذا الخطأ وأن يتوصل إلى طرق لإحكام المراقبة على حسابات المستخدمين.

ما لا يقل أهمية فيما جرى هو الدلالات السياسية للواقعة من حيث أنها وثيقة الصلة بعملية استخدام المعلومات وتحديدا ما يدخل في نطاق السرية والخصوصية لتحقيق أهداف سياسية تتصل أساسا بصياغة الرأي العام وتشكيل الاتجاهات. وهو نفس الغرض الذي تمت من أجله الواقعة لمساعدة حملة ترامب على معرفة توجهات الناخبين. التعرف على آراء وتوجهات الرأي العام قضية مشروعة تماما لأنها تساعد في بناء السياسات العامة والوسائل المعتادة والدقيقة معروفة للكافة مثل اللجوء إلى استطلاعات الرأي العام التي تقوم بها جهات متخصصة وتعمل وفق قواعد قانونية وعلمية أيضا، ولم يكن واردا أن تتفتق أذهان صانعي الحملات الانتخابية مثلا إلى اللجوء إلى سرقة بيانات الناخبين الشخصية بهدف إخضاعها للتحليل وصولا إلى توقع توجهاتهم التصويتية والتأثير عليها أيضا، وكذلك المسوح الاجتماعية التي تقوم بها مراكز أبحاث أكاديمية. وأما اللجوء إلى وسائل مثل التنصت أو الحصول على المعلومات بطريق خفي، فتلك فضيحة أخلاقية وسياسية بامتياز.

والمعنى هنا هو أن النتائج التي يمكن تحقيقها عبر هذا الخداع ما هي إلا نتائج زائفة في حقيقة الأمر. وذلك يضرب في شرعية المواقف والقرارات التي تتم عبر هذا الطريق. وعندما يصل هذا الاعتقاد إلى الناس فإنهم يتجهون إلى العزوف عن المشاركة السياسية، كما يفقدون الثقة في المؤسسات القائمة ويميلون إلى الانصياع إلى الشخصيات القيادية الشعبوية. وعلى الجانب الآخر فإنه يعزز توجهات الأنظمة التي قررت أن تضع قيودا صارمة للغاية على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن جهة أخرى فإنه طالما أن الأمر بهذه اللامبالاة بضوابط الحفاظ على البيانات الشخصية يصبح من السهل تفهم كيف أن التنظيمات الإرهابية استطاعت أن تغزو هذا الفضاء الرقمي وتنجح في تجنيد عناصرها من خلاله. وهذه التنظيمات ثبت أنها وفرت لنفسها الكوادر الفنية القادرة على تحقيق هذا الهدف.

لقد انتفض الأمريكيون ضد ما حدث لأنهم يضعون اعتبارا كبيرا لمسألة انتهاك الخصوصية حيث الحرية الشخصية لديهم تصل إلى حد العقيدة السياسية، فضلا عن حساسيتهم البالغة من التدخل الخارجي في الانتخابات العامة. ولا شك أنهم عاقبوا الشركة العملاقة. ولكن ليس من المستبعد أن المشكلة ذاتها تكررت وتتكرر خارج الولايات المتحدة وغيرها معني بالتغلب عليها كل بطريقته، وما المعارك الخفية الدائرة بين القوى الكبرى التي تتسابق في استخدام الإمكانيات الهائلة التي أتاحها الفضاء الرقمي إلا صورة أخرى لما جرى مع عملاق التواصل الاجتماعي. وليس من منقذ في ظل هذا الانفلات سوى التحصن بالمؤسسات الشرعية القائمة والعمل الدؤوب لتفعيل دورها حتى لا تكون منصات التواصل بديلا عنها، وتوفير المناعة الوطنية الذاتية التي تصد أية غزوات مرضية من هذا النوع.