أفكار وآراء

الجيواستراتيجية الأوروبية والحلف الأطلسي

28 مارس 2018
28 مارس 2018

جيريمي شابيرو- المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية -

ترجمة: قاسم مكي -

عاد التنافس الجيواستراتيجي بقوة في الأعوام الأخيرة. ورحب الرئيس بوتين بالحقبة الجديدة بحديثه عن جيل جديد تماما من الأسلحة النووية الموجهة ضد الولايات المتحدة. لكن رغم حنين بوتين لسباق تسلح الحرب الباردة ثنائي القطبين إلا أن المباراة الأمريكية الروسية ليست أكثر من مثال واحد فقط لعهد جديد من تنافس القوى العظمى. وحقا تبدو الولايات المتحدة تحت قيادة رئيسها المتقلب وإدارة جمهورية متشددة على خلاف مع مجموعة متزايدة من القوى. في أثناء الحرب الباردة وثَّق الأوروبيون في رجاحة عقل، علاقتهم بواشنطن في صراعها مع موسكو. لكن في البيئة الجيوسياسية الجديدة والأكثر تعقيدا قد يلزم أوروبا إلقاء نظرة على القائمة المتمددة لأعداء أمريكا والنظر في تبني سياسة أكثر استقلالا. حتى الآن تضم القائمة القوى التالية: أولا الصين. لدى ترامب أجندة تجارية عدائية تستهدف أساسا خفض العجز التجاري الضخم معها. لقد أخرت جهود ضمان موافقة الصين على خطط احتواء كوريا الشمالية تنفيذها نوعا ما. لكن الولايات المتحدة بدأت فرض سلسلة من الحواجز التجارية بما في ذلك استحداث رسوم استيراد الصلب والألومنيوم. وغَرَّد ترامب مرحِّبا بالحرب التجارية التي يعتقد أن بإمكان أمريكا كسبها. ويبدو أن إدارته تسعى لمواجهة مع منظمة التجارة العالمية ستدفعها إما إلى تغيير جذري في تعاملها مع الصين أو تقضي عليها. ردت الصين بالسعي لعرض نفسها كمدافع جديد عن قواعد التجارة وشريك أفضل لأوروبا في مسائل كالتجارة والتغير المناخي. يختلف نموذج الحكم الداخلي في الصين جذريا مع النظام الليبرالي العالمي. لكن ذلك لم يوقف الجدل حول حاجة الاتحاد الأوروبي لإيجاد توازن بين الصين والولايات المتحدة. هذا الجدل تجريدي في الوقت الحاضر. فحسب تحليل أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية حول العلاقة الأوروبية الصينية تتمركز سياسة الاتحاد الأوروبي الحالية تجاه الصين في التجارة والاستثمار وتخلو إلى حد كبير من الاستراتيجية الجيوسياسية. وكثيرا ما يتعامل أعضاؤه منفردين مع الصين بطرائق لا تحبها الولايات المتحدة. لكن الاتحاد ككل لا يمكنه حقا تصور الوقوف مع الصين في نزاع جيوسياسي. ثانيا، إيران. تنظر أوروبا ممثلة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى جهودها تجاه إيران وخصوصا دورها الحيوي في تأمين الاتفاق النووي كمثال واضح على قدرتها على التأثير على واشنطن وتأمين مصالحها الجيوسياسية. لكن المصالح الأمريكية في إيران تغيرت الآن. فإدارة ترامب تسعى إلى المواجهة بدلا عن التعايش مع النظام الإيراني. ويبدو أنها محاصرة بين التخلي عن الاتفاق النووي أو تحويله إلى هراوة تضرب بها الإيرانيين. وترى إيلي جيرانماية بالمجلس الأوروبي أن المسار الحالي يعزز خطر نشوب سباق تسلح نووي والمزيد من التصعيد العسكري في الحديقة الخلفية لأوروبا. وتستنتج أن ثمة صداما عبر أطلسي قادم حول إيران وأن من الممكن لأوروبا أن تكون لها سياسة مستقلة تجاهها. لكن يبدو أن الأوروبيين غير متحمسين خوفا من فرض عقوبات أمريكية ثانوية ويسعون في همة بدلا عن ذلك للوفاء بالتعديلات التي تسعى لها واشنطن. وإذا فشلوا قد يلومون واشنطن ولكنهم سيتخلون في هدوء عن الاتفاق على أية حال. فهم لا يتصورون محاولة الحفاظ على سريانه في وجه المعارضة الأمريكية. ثالثا، روسيا. في البداية اعتبر الأوروبيون علاقة روسيا بالولايات المتحدة خطرة في ظل إدارة ترامب بسبب احتمال تواطؤ واشنطن وموسكو. والآن يخشى المسؤولون الأوروبيون من احتمال اصطدام البلدين. يكشف هذا الخوف المزدوج إلى أي حد يعتمد الاتحاد الأوروبي على حالة من التوازن الدقيق في العلاقات الأمريكية - الروسية. وهو توازن من المستبعد أن يظل قائما من تلقاء ذاته. فمؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن تتصور أنها في حرب باردة جديدة مع روسيا بوتين بعد التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. وهي حرب تمددت سلفا، إلى أوكرانيا مثلا. فالسياسة الأمريكية في أوكرانيا تسعى لتحويل النزاع إلى صداع للروس بأكثر مما تسعى إلى تسويته. تبدو هذه السياسة متناقضة مع المصالح الأوروبية. لكن يبدو أن الأوروبيين راضون بالتخلي عن هذا الجانب لإدارة ترامب التي أبدت اهتماما ضئيلا بالآراء الأوروبية. رابعا، تركيا. هي بالطبع عضو في الناتو لكن علاقاتها مع الولايات المتحدة تدهورت إلى حد أن صحيفة نيويورك تايمز تتحدث عن فرضية نشوب حرب بين البلدين. فنزاعهما حول قضايا مثل القوات الكردية في سوريا ورفض واشنطن تسليم فتح الله جولن ومحاكمة ضراب في نيويورك والمشتريات التركية للسلاح من روسيا وضعت الحليفين في مسار صدامي مع تصوير الولايات المتحدة في الصحافة التركية الآن بوصفها المهدد الأمني الرئيسي لتركيا. ومع تدهور العلاقات بين البلدين يعود الرئيس أردوغان أدراجه إلى أوروبا ويبحث عن علاقة مستقلة معها لأسباب بعضها اقتصادي. ستظل تركيا حيوية لأوروبا لأسباب عديدة ليس أقلها الهجرة. وانهيار العلاقات معها سيكون كارثة للجانبين. إن الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالا في علاقته مع تركيا قياسا بالقوى الأخرى المذكورة. فهي بلد مرشح للانضمام للاتحاد. وهو أكبر شركائها التجاريين. لكن حتى في هذه الحالة يبدو من الصعب تخيل فكرة اتخاذ الاتحاد أو أعضائه موقفا مستقلا عن الولايات المتحدة حول المسائل الجيوسياسية مثل مساندة الأكراد السوريين وتحركات تركيا في سوريا والعراق أو بيع الأنظمة الروسية المضادة للطائرات إلى الجيش التركي. تشكل هذه الدول الأربع من منظور الولايات المتحدة مجموعة مثيرة من الأعداء المحتملين. ويظهر هذا المنظور افتقارا للترتيب الاستراتيجي للأولويات (يبعث القنوط في نفس هنري كيسنجر). لكن الولايات المتحدة اتخذت على الأقل خيارا واعيا بالمضي في هذا المسار. ومن منظور أوروبي يوضح انعدام الخيارات الاستراتيجية عبر هذه العلاقات الحيوية مدى استمرار اعتماد السياسة الخارجية لأوروبا، خصوصا تجاه القوى العظمى، على الموقف الأمريكي. بالطبع لعلاقات أوروبا بكل وحدة من هذه البلدان ديناميتها الخاصة بها. وفي تقرير المجلس الأوروبي حول اتجاهات السياسة الخارجية التي ستشكل سِمَةً للعام الحالي من اللافت أن كل من ساهم في إعداده أكَّد على أن الولايات المتحدة هي العامل المهم والأكثر تغيرا في مقاربة أوروبا تجاه أية قوة عظمى أخرى. وحتى حول قضايا قريبة نسبيا من حدود الاتحاد الأوروبي مثل أوكرانيا وسوريا ليس هنالك مجال كاف للحديث عن مصالح أوروبية متميزة وتحديد استراتيجية جيوسياسية مستقلة لتأمينها. ولا يملك الاتحاد الأوروبي ككل استراتيجية متكاملة أو متناسقة لإدارة العلاقات مع القوى العظمى. كما لا تتخذ الدول الأعضاء في الاتحاد عادة مقاربة جيواستراتيجية. إن هذا الوضع ليس جديدا بأية حال. بل هو تقليد مديد خدم الأوروبيين جيدا. أما الآن فلدى الأوروبيين مصالح أكثر تباينا قياسا بمصالحهم في أثناء الحرب الباردة. ولدى الولايات المتحدة رئيس متقلب على نحو لافت ومبدأ يروج لنواياها بتجاهل مصالح البلدان الأخرى. والسؤال بالنسبة لأوروبا الآن هو هل يلزمها فك ارتباط استراتيجيتها تجاه القوى العظمى الإقليمية باستراتيجية الولايات المتحدة ؟ لا يعني فك الارتباط هذا معارضة الولايات المتحدة. فبصرف النظر عن غرابة تصرفات إدارة ترامب تعني الروابط الاقتصادية والثقافية والأيديولوجية بين أوروبا والولايات المتحدة أنها ستظل ويجب أن تظل أوثق حليف جيوسياسي. إن فك الارتباط يعني لأوروبا إيجاد قدرة على تحديد مصالحها باستقلال عن الولايات المتحدة والسعي عند اللزوم لخدمة هذه المصالح. وفي الوقت الحاضر لا ترقى عملية اتخاذ القرار الاستراتيجي الأوروبي إلى هذه المهمة. وحتى يحدث ذلك سيكون أعداء أمريكا أعداء لأوروبا أيضا.