أفكار وآراء

واشنطـن وبكيـن وحـرب التجـارة

28 مارس 2018
28 مارس 2018

عبد العزيز محمود -

لو تخيلنا أن واشنطن استهدفت إحداث صدمة لبكين بالرسوم الجمركية الجديدة التي فرضتها على صادراتها من الصلب والألومنيوم، فالمؤكد أنها نجحت في ذلك، بدليل غضب الصين على الجانب الآخر من المحيط الهادئ، وقيامها بفرض رسوم على واردات أمريكية، والتلويح باتخاذ إجراءات أشد.

التدابير التي اتخذها الطرفان أو يهددان باتخاذها تندرج تحت إطار الحرب التجارية، وهي صراع اقتصادي بين بلدين، يقوم كل منهما بفرض قيود على صادرات الطرف الآخر، مما يُلحق أضرارا بالغة بالتجارة فيما بينهما.

وهي إجراءات تتعارض بطبيعة الحال مع مبادئ منظمة التجارة العالمية واتفاقيات حرية التجارة التي تستهدف خفض التعريفة الجمركية، وإزالة الحواجز التي تعوق تدفق السلع عبر الحدود.

لكن للولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد عالمي، أهدافا واضحة من الدخول في صراع تجاري مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وأكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة.

فالرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن على صادرات الصلب والألومنيوم الصيني (بنسبة ٢٥٪ و١٠٪ على التوالي) تستهدف خفض العجز التجاري الأمريكي، وإجبار الصين على فتح أسواقها بشكل أوسع أمام الشركات الأمريكية، ووقف ما تعتبره الإدارة الأمريكية انتهاكات صينية لحقوق الملكية الفكرية.

كما تستهدف وقف عمليات الاستحواذ الصينية على الشركات الأمريكية، ومنع الصين من حيازة التكنولوجيا من الشركات الأجنبية مقابل السماح لها بالعمل في الصين.

التعريفة الجمركية بدأ سريانها في ٢٣ مارس الجاري، لكن تطبيقها بالكامل يلزمه ٣٠ يوما للتشاور بشأنها بين البلدين، وسط تقديرات بأن قيمتها سوف تصل إلى ٦٠ مليار دولار سنويا، والمتوقع أن تليها تدابير أمريكية أخرى لتقييد الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة.

على الجانب الآخر بدا من رد فعل بكين، وكأنها كانت تتوقع التدابير الأمريكية، التي جاءت بالتزامن مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني شي جين بينج لولاية ثانية، بعد تعديل دستوري يسمح له بالبقاء في منصبه مدى الحياة.

وهو توقيت لا يخلو من دلالة، فواشنطن تحاول فيما يبدو تحدي وإحراج الرئيس بينج، خاصة بعد إعلانه أن بلاده سوف تستعيد مكانتها كقوة عالمية، وأنها جاهزة ومستعدة للرد على أية تحديات.

وهكذا قررت بكين من جانبها فرض رسوم جمركية جديدة على واردات أمريكية، في حدود ٣ مليارات دولار سنويا، ولوحت بأنها تدرس خيارات أخرى، من بينها تقليص مشترياتها من سندات الخزانة الأمريكية، وفرض رسوم إضافية على وارداتها من السيارات والطائرات المدنية الأمريكية، في حالة عدم تراجع واشنطن عن إجراءاتها.

وبدا من رد الفعل الصيني أنه لا مجال على الأقل في هذه المرحلة لتقديم تنازلات، مما دفع الجانبين للدخول في اتصالات بهدف تطويق الأزمة، قبل أن تتطور إلى حرب تجارية، قد تكون الأولى من نوعها خلال القرن ٢١.

صلابة الموقف الصيني تستند إلى عدة حقائق أهمها أن ورقة الصادرات التي تلوح بها واشنطن، لا تمثل أداة قوية للضغط، فالصادرات لم تعد تلعب دورا كبيرا في تطور النمو الصيني، بعد أن تقلصت نسبتها في الميزان التجاري الصيني من ٧.٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام ٢٠٠٧ لتصبح ٣.٥٪ في عام ٢٠١٧.

كما أن الإجراءات التي اتخذتها أو تهدد باتخاذها واشنطن، تصب في مصلحة بكين، التي تسعى لإغلاق أسواقها بشكل متدرج، بعد أن استفادت في المرحلة السابقة من العولمة الاقتصادية وحرية التجارة، وخطط للتركيز في المرحلة المقبلة على تطوير الصناعات المتقدمة التي يسيطر عليها الغرب.

ومن خلال البرنامج الصناعي (صنع في الصين ٢٠٢٥)، تعتزم القيادة الصينية إعطاء دفعة كبرى للصناعات الصينية المتقدمة كالطائرات المدنية والسيارات الكهربائية والأجهزة الطبية.

كل المؤشرات تؤكد أن بكين سوف توظف الموقف الأمريكي، لصالح تقييد دخول الشركات الغربية بشكل عام إلى أسواقها، رغم تعهدات سابقة بمنح رجال الأعمال والشركات الأجنبية دورا أكبر في الاقتصاد الصيني الذي تهيمن عليه الدولة.

ومن الوارد أن تندفع بكين وتفرض مزيدا من القيود على الصادرات الأمريكية، وقد تقيد حصول الشركات الأمريكية على تمويل من البنوك الصينية.

وأيا كانت نتيجة الاتصالات الجارية حاليا بين بكين وواشنطن، لمعالجة الأزمة، فكل المعطيات تقول إن أرباح الصين من أي صراع تجاري محتمل مع الولايات المتحدة تبدو أكبر من خسائرها.

وحتى لو توصل الطرفان لحل وسط، من خلال تنازلات متبادلة لتجنب الأضرار الاقتصادية المتوقعة، فإن التوصل إلى هذا الحل يلزمه وقتا، مما يعني استمرار توابع الأزمة.

وهذا ما يثير قلق قادة الأعمال الأمريكيين، الذين يتعاملون مع التعريفة الجمركية التي فرضتها بلادهم على صادرات الصلب والألومنيوم الصينية، باعتبارها تهديدا لصفقات قائمة تحقق مصالح متبادلة، ولمصالح الشركات الأمريكية العملاقة العاملة في الصين وتحديدا في قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والطائرات المدنية والسيارات.

كما أن هذه التدابير تشكل من وجهة نظرهم ضرائب مباشرة على المنتجين والمستهلكين الأمريكيين، قبل أن تكون رسوما على الصين، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتراجع الاستثمارات وتباطؤ نمو الاقتصاد الأمريكي.

عالميا هناك مخاوف جدية من أن يتسبب الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين في عدم استقرار أسواق المال العالمية، وقيام دول أخرى بفرض حواجز جديدة على الاستيراد، وهو ما يفتح الباب أمام مناوشات حمائية، تهدد حرية التجارة والعولمة الاقتصادية.

وأوروبيا أثارت الإجراءات الأمريكية غضب الاتحاد الأوروبي، الذي لوّح بفرض تعريفة جمركية تقدر بـ٢٥٪ على صادرات أمريكية، مما دفع واشنطن للتهديد بفرض تعريفة مماثلة على السيارات الأوروبية.

وعقب اتصالات بين الجانبين، قررت واشنطن إعفاء الاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا وأستراليا والبرازيل بشكل مؤقت من الرسوم الجمركية الجديدة على الصلب والألومنيوم مقابل تقديم تلك الدول لتنازلات حتى تحافظ على سريان هذا الإعفاء.

ومن خلال هذا الإجراء بدت الولايات المتحدة وكأنها توجّه رسالة مبطنة إلى الصين، مفادها أن الحصول على إعفاء مؤقت من التدابير التجارية الجديدة، يلزمه الاستجابة لمطالب واشنطن، بتقديم تنازلات حقيقية، أو الدخول في حرب تجارية مفتوحة.

وهي رسالة فهمتها بكين جيدا، لكن من غير الوارد أن تقدم تنازلات في هذه المرحلة، التي ستمارس فيها الرد على الموقف الأمريكي بطريقة تصاعدية، تسمح للمفاوضات الجارية بين الطرفين بالتوصل إلى حل وسط.

وأيا كانت نتيجة هذه المفاوضات، فالمؤكد أن الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة والصين، سوف تؤثر بالسلب على الشراكة الاقتصادية الواسعة فيما بينهما، وكذلك على العلاقات السياسية الإيجابية التي تربطهما.

صحيح أن الدولتين تتنافسان على الهيمنة في آسيا والمحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، ويتخذان مواقف متباينة من قضايا عالمية عديدة من بينها انتشار السلاح النووي حول العالم والوضع في شبه الجزيرة الكورية وتايوان، لكنهما تسعيان ومنذ عام ١٩٧٣ إلى إقامة علاقات متوازنة تقوم على المصالح المتبادلة.

وما لم يتمكن البلدان من التوصل إلى تفاهمات لنزع فتيل الأزمة، فإنهما سوف ينغمسان في حرب تجارية مفتوحة، ربما تكون الولايات المتحدة فيها الخاسر الأكبر، فالصين في حالة صعود.