الملف السياسي

الرغبة في النجاح تدفع نحو التوافق !!

26 مارس 2018
26 مارس 2018

د. عبد الحميد الموافي -

مما لا شك فيه انه إذا كانت السياسة في النهاية تمرينا عقليا، بمعنى أنها ترتكز على تفكير منطقي، أو يقوم على حساب مقدمات ومعطيات ونتائج يمكن حسابها، ومن ثم تظل الرغبات والطموحات والعواطف، والكيمياء الشخصية، بين القادة وكبار المسؤولين، مجرد محفزات أو عناصر جانبية، يمكن استخدامها، أو توظيفها، في موقف أو آخر، ولكن دون ان تكون أساسا، أو ركيزة واحدة لتفسير مواقف، أو سياسات طرف أو آخر.

فإنه من المؤكد ان فرص وإمكانات التحولات المفاجئة، والانقلابات، أو التغيرات غير المتوقعة في المواقف لطرف أو آخر، تظل محدودة، إلى حد كبير، ويظل عامل المفاجأة، أو الصدمة أحيانا، مرتبطا بمدى القدرة على رؤية كل عناصر الصورة، كما يراها كل طرف. وفي عالم اليوم، لا يقدم طرف ما كل عناصر رؤيته علنا، أو مجانا، أو يجعلها متاحة على قارعة الطريق، خاصة في حالة الشعور بعدم الاطمئنان، أو الترصد من جانب طرف او أطراف قادرة على إيذائه بشكل أو بآخر. ولذلك تظل هناك عوامل وجوانب، غير ظاهرة، أو في خلفية العقل وعمق التفكير، تمتد بخيوطها الرفيعة إلى ما يجري على السطح، وتؤثر فيه بدرجة او بأخرى، ولعل ذلك تحديدا هو ما يضفي الكثير من الأهمية على محاولات النفاذ إلى عمق تفكير الطرف او الأطراف التي تقف على الجانب الآخر، ويجعلها تستحق عناء ومخاطر، واحيانا التكلفة الكبيرة للحصول عليها، وهو ما تحاوله كل الأطراف تقريبا بدرجات ودوافع ومن منطلقات مختلفة، وفق حسابات كل طرف لمصالحه وللتهديدات، أو المخاطر التي يتعرض لها، والمكاسب التي يسعى إلى تحقيقها في ظروف محددة، أو بالنسبة لمشكلة ما في وقت معين.

وفي هذا الإطار فإن زخم التحركات المتسارعة بين الإدارة الأمريكية وكوريا الشمالية، وعلى صعيد شطري كوريا، وما يتصل بالتطورات في جنوب شرق آسيا بوجه عام، لا يمكن النظر إليها من منظور واحد، أو من خلال موقف، أو تطور منفرد أو وحيد، مثل الإعلان عن إمكانية عقد قمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبين الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج اون، وذلك لسبب بسيط هو ان مثل هذا الإعلان لم يأت فجأة. نعم كان الإعلان عنه أمرا مدهشا ومحيرا للكثيرين، ولكن الصحيح، أن هذا الإعلان، أو الوصول إلى هذه النقطة كان نتيجة تراكم تحركات، واتصالات، ولقاءات جرت وتجري بعيدا عن العيون والآذان، وظهرت بعض مقدماتها قبل عدة اشهر عندما المح تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية، المقال، وكذلك الرئيس ترامب نفسه، إلى إمكانية الحوار مع الرئيس الكوري الشمالي، إذا كان ذلك سيحل الأزمة، ويحقق السلام في شبه الجزيرة الكورية. وهذا يذكرنا، في الواقع، بما أعلنه الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في مجلس الشعب المصري، وفي حضور ياسر عرفات في عام 1975، من أنه مستعد إلى الذهاب إلى نهاية العالم، «حتى إلى الكنيست الإسرائيلي»، من أجل السلام العادل، وكان ذلك مقدمة لزيارة القدس في عام 1977 وما ترتب عليها من خطوات أدت إلى اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978 ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، والتي شكلت منعطفا بالغ الأهمية والتأثير في المنطقة، حتى الآن وعلى امتداد سنوات طويلة قادمة. وعلى أية حال فإنه بالنسبة للقمة المرتقبة، والتي يجري الإعداد لها، بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إنه مع الوضع في الاعتبار كل ما يقال، سواء بالنسبة للرئيس ترامب، أوبالنسبة للرئيس الكوري الشمالي، فيما يتصل بسرعة تغيير المواقف، وأسلوب كل منهما في إدارة مهامه، وهي مسائل تظل مرتبطة بسمات وخبرات، وبالطبع حسابات كل منهما وكيفية رؤيته للقضايا المختلفة ولمصالح بلاده كما يراها هو ومن موقعه، وعلى أساس مسؤولياته الوطنية أيضا، وهي أموز تظل في النهاية خاصة بكل منهما، فانه يمكن القول بأن القاسم المشترك بينهما يتمثل في بحث كل منهما- خاصة في هذه الفترة- عن نجاح ملموس، أو مسموع يقدمه لشعبه ويسجله في تاريخه الشخصي ويحسب له. صحيح أن كل قائد أو زعيم يبحث عن النجاح في مهامه وخدمة شعبه، ولكن الصحيح أن الحاجة لتحقيق ذلك هو أمر اكثر أهمية وإلحاحا الآن، سواء بالنسبة للرئيس ترامب، أو للرئيس كيم جونج اون.

فبالنسبة للرئيس الأمريكي الذي يواجه مشكلات مختلفة على الصعيد الداخلي، بدءا من الاستقالات والإقالات العديدة لشخصيات مفصلية في إدارته، مثل وزير الخارجية تيلرسون، ومستشاره للأمن القومي السابق مكماستر، وبقاء مواقع دبلوماسية مهمة في الخارجية الأمريكية شاغرة، ومرورا بالتحقيقات في تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية عام 2016، ووصولا إلى الرغبة الشديدة في محو ما قام به سلفه باراك أوباما، بما في ذلك الانتقاد الدائم للاتفاق النووي مع إيران والتلويح بإمكانية الانسحاب منه أو تعديله، فان ترامب يتطلع إلى ان يكون له إنجازه الخاص به، ومن هنا تحديدا فانه من المرجح انه يحتاج إلى اتفاق مع كوريا الشمالية يدخله التاريخ، ويقدم معادلا في الوقت ذاته للاتفاق النووي مع إيران، من وجهة نظره على الأقل، وإذا حدث ذلك، عبر الاتفاق مع كيم جونج اون على تحقيق السلام في شبه الجزيرة الكورية ونزع السلاح النووي الكوري الشمالي، فان ذلك سيكون بالفعل إنجازا كبيرا يحسب له، وعندها فان موقفه من الاتفاق الإيراني سيكون أكثر جرأة وتشددا ورغبة في التخلي عنه، أو تعديله بشكل غير قليل، لأنه سيكون هناك نموذج أو معادل يقدمه ترامب للرد على ما سيواجهه من انتقادات بشأن موقفه من الاتفاق النووي مع إيران. يضاف إلى ذلك ان النجاح مع كوريا الشمالية سيضمن له على الأرجح الحصول على جائزة نوبل للسلام، وربما التجديد له في رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، يضاف إلى ذلك أنه يبدو ان النجاح في كوريا، أيسر وأسهل من النجاح في الشرق الأوسط، بعد الخطوات التي اتخذها وأدت إلى ردود فعل لم تهدأ تماما حتى الآن. وعلى الجانب الآخر فان الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج اون (كيم الثالث) الذي تولى السلطة عام 2011، وتعرض إلى قدر غير قليل من الانتقادات والتهكم أحيانا من جانب ترامب قبل بضعة اشهر، استطاع خلال السنوات السبع الأخيرة ان يحقق نقلة كبيرة على مستوى الإمكانيات الكورية الشمالية في المجال النووي، عبر سلسلة التفجيرات النووية التي أدخلت كوريا الشمالية إلى نادي الدول النووية، بحكم الأمر الواقع، وبحكم برنامج الصواريخ البالستية التي تتطور قدراتها إلى حد إمكانية الوصول إلى الأراضي الأمريكية، وبذلك حقق كيم جونج اون درجة تطور ملموسة وذات مصداقية، ولا يمكن للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وكل الأطراف المعنية الأخرى في شرق وجنوب شرق آسيا، إلا ان تأخذها مأخذ الجد، وبالنظر إلى انه – كيم الثالث – أصبح متأكدا من قدراته على الردع، ومن ثم حماية نظامه السياسي، فإنه أصبح أكثر استعدادا للتوصل إلى اتفاق مع كوريا الجنوبية ومع الولايات المتحدة لتحقيق السلام في شبه الجزيرة الكورية، وعلى نحو يضمن استمرارية نظامه، وعدم تهديده من ناحية، ويفتح المجال لتطور اقتصادي وتنمية تحتاجها كوريا الشمالية بشدة، وطال انتظارها، ويمكن لكوريا الجنوبية والولايات المتحدة تقديم الكثير في هذا المجال من ناحية ثانية. وهنا فإنه ليس هناك ما يدعو للاستمرار في الخلافات الراهنة، خاصة وان اللقاء مع ترامب وقبله مع الرئيس الكوري الجنوبي «مون جاي ان» سيكون تطورا تاريخيا يحسب لصالح كيم جونج اون بالتأكيد، وقد يجعله شريكا لترامب ولرئيس كوريا الجنوبية في جائزة نوبل للسلام، إذا تحقق الاتفاق المنشود. وعلى ذلك فإن هناك حوافز حقيقية ورغبة وبحث عن النجاح، على كلا الجانبين، تدفع نحو مواصلة السير على هذا الطريق.

*ثانيا: إنه مع الوضع في الاعتبار إن تطوير كوريا الشمالية لأسلحة نووية، ولبرنامجها للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لا يثير قلق أمريكا وحدها، ولكنه يثير قلق الصين وروسيا، إلى جانب كوريا الجنوبية واليابان بالطبع، ولذا فإن هناك رغبة تجمع كل هذه الأطراف في العمل للحيلولة دون استمرار كوريا الشمالية في جموحها. وإذا كان كيم الثالث رئيس كوريا الشمالية قد استطاع فرض احترامه على كل الأطراف، داخل كوريا الشمالية، بالتخلص من قيادات قوية، وفي الخارج بالإصرار على تطوير برنامجه النووي وتجاربه الصاروخية برغم المعارضة الشديدة له، وهو ما أنهى في الواقع موجة الاستخفاف به، التي رافقت توليه الحكم قبل سبع سنوات، فان دور الصين كحليف موثوق به لكوريا الشمالية، وكداعم لها ومساند- إلى درجة معينة- في مواجهة الضغوط الأمريكية، لم يعد هو الدور الوحيد الذي يمكن التعويل عليه من جانب كوريا الشمالية، نظرا لأن الرئيس الكوري الجنوبي «مون جاي ان» قدم خلال الأشهر الماضية، ومنذ توليه الحكم في سول ما يؤكد رغبته الجادة والحقيقية في تحقيق السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، والتخلص من السلاح النووي، واستيعاب كوريا الشمالية وتخليصها من مخاوفها المزمنة، فإلى جانب ترحيب كوريا الجنوبية بمشاركة كوريا الشمالية في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي استضافتها كوريا الجنوبية مؤخرا، واستقبالها شقيقة الرئيس الكوري الشمالي بحفاوة كبيرة، وتكوين فريق واحد من شطري كوريا ليلعب باسم كوريا، فإن وفدا أمنيا رفيع المستوى برئاسة «تشونج اوي يونج» رئيس مكتب الأمن الوطني في سول وضم في عضويته رئيس جهاز الاستخبارات «سوهون»، ووزير الوحدة «شون هاى سونج»، ومسؤولين كبارا آخرين، زار بيونج يانج والتقى للمرة الأولى مع رئيس كوريا الشمالية، في الخامس من مارس الجاري، وبرغم ان هذه الزيارة هي الأولى منذ ديسمبر عام 2007، إلا أنها شكلت اختراقا واضحا، بما دار فيها بالطبع.

حيث توجه الوفد الكوري الجنوبي إلى واشنطن في السابع من مارس حاملا دعوة للحوار من جانب كيم الثالث للرئيس ترامب، مقرونة باستعداد كوري شمالي للتخلي عن برنامجها النووي، «إذا حققت ما ترغب فيه». ومما له دلالة مهمة ان وكالة أنباء ان كوريا الشمالية الرسمية تحدثت بعد ذلك عما اسمته «أجواء جدية للمصالحة» مع كوريا الجنوبية، وعن «إشارات تغيير» مع الولايات المتحدة.

وأكدت الوكالة في الوقت ذاته على ان موقف بيونج يانج ليس نتيجة للعقوبات «القاسية» المفروضة عليها، ولكنه «مبادرة للمصالحة والسلام ومن موقف قوة».

والمؤكد انه لا يمكن فصل ذلك كله، وقبول ترامب المتلهف للحوار مع «كيم الثالث» عن محادثات غير رسمية، استضافتها العاصمة الفنلندية هلسنكي قبل أيام بين وفود كورية شمالية وكورية جنوبية وأمريكية، ووصف المدير العام للخارجية الفنلندية الاجتماع بأنه «واحد من جلسات أكاديمية كانت تستكشف على مدى سنوات سبل بناء الثقة وتقليص التوترات في شبه الجزيرة الكورية وأنها كانت بناءة».

*ثالثا: إنه في الوقت الذي تتجمع فيه إشارات إيجابية منها تأجيل أية تجارب نووية أو صاروخية كورية شمالية في هذه الفترة، وتخفيض حجم مناورات «فول ايجل» الكورية الجنوبية- الأمريكية المشتركة الشهر القادم، وإبلاغ كوريا الشمالية ببرنامجها، وإلغاء زيارة حاملة طائرات أمريكية لكوريا الجنوبية، وتبادل زيارات وفود شعبية بين الكوريتين، والإعداد القوي للقمة بين كيم الثالث وبين «مون جاي ان» رئيس كوريا الجنوبية الأسبوع القادم على الحدود بين البلدين، فان هذه القمة ستكون على الأرجح مفتاحا أساسيا للخطوات التالية لها. ومع ان كوريا الشمالية كانت قد قبلت الحد من برنامجها النووي مقابل مزايا اقتصادية في إطار المحادثات السداسية التي توقفت عام 2009، فان استعداد كيم الثالث للتخلي عن برنامجه النووي يعد مؤشرا إيجابيا، برغم انه يظل مرتبطا بما تريد بيونج يانج تحقيقه، وهو ما سيتضح مدى إمكانية السير نحوه في القمة القادمة بين الكوريتين، والتي ستشكل مدخلا هاما لقمة ترامب – كيم، وما يمكن ان تتمخض عنه من نتائج . ومع ادراك حاجة ترامب وكيم الثالث لتحقيق نجاح ما، الا ان تحقيق ذلك ليس مضمونا، خاصة في ظل الموقف المتشدد لجون بولتون مستشار ترامب الجديد للأمن القومي، وفي ظل ظروف وزارة الخارجية الأمريكية، ومع ذلك فانه من المؤكد ان كيم الثالث لن يكون القذافي ولن يطبق النموذج الليبي، كما يريد بولتون، ويظل النموذج الألماني هو الأقرب لاستعادة الوحدة بين شطري كوريا، مع إدراك التحديات العديدة التي تواجه ذلك، والحاجة إلى وقت وجهد كبير للتغلب عليها.