أفكار وآراء

منطق القيمة .. لا يقبل بـ «مجانية» الأشياء !!

25 مارس 2018
25 مارس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تنشأ الجماعة الإنسانية؛ وهي محاطة بمجموعة من الأطر والسياقات؛ انطلاقا من الخبرات المتراكمة بين أفرادها، وهذه الأطر والسياقات هي التي تتهادى بها الطرق الآمنة للخروج من أي مأزق قد يعترض طريق مسيرتها في هذه الحياة، وبذلك تواصل الجماعة مشروعها الإنساني نحو اكتمال بناءاته المادية والمعنوية على حد سواء،

وجل المجموعات الإنسانية التي تعيش على سطح هذه البسيطة لا تخرج عن أطر وسياقات تنظم عملها اليومي، وتيسير حالاتها المتفاعلة مع نفسها، أو مع الجماعات المماثلة لها، وإن حدث شيء من التقدم عند جماعة دون أخرى فإن ذلك عائد إلى عوامل كثيرة، أغلبها معرفية بالدرجة الأساس، أما مسألة «تجربة الحياة» التي يقاس عليها تفاوت الصور، ونتائج الأفعال؛ فهي متشابهة إلى حد بعيد، يبقى؛ فقط؛ توظيف المعارف بصورة صحيحة هو الذي يعطي نفس التألق بين المجموعة، ويعطي القدرة على مواجهة مختلف الظروف الطارئة التي تمر بها، ولذلك فهناك مفاهيم عامة تشترك فيها كل المجموعات الإنسانية بلا استثناء، وتقرها حقيقة وجودية لن تكتمل صورتها إلا من خلال توظيف هذه المفاهيم، وقد تشترك معها بعض المخلوقات المنظمة تحت عالم الحيوان، أو عالم الحشرات، حيث تمارس توظيف نفس هذه المفاهيم لتسيير حياتها اليومية، وإن كانت هذه الأخرى تمارس ذلك من وحي الفطرة، وإرواء الغريزة، ولم يكن انطلاقاتها نحو هذا التوظيف نابعا من منظومة العقل، الذي تعتمد عليه المجموعة الإنسانية أكثر من غيرها.

من هذه المفاهيم التي تشكل محور حياة مختلف المجموعات الإنسانية، أو غير الإنسانية هي مفهوم «القيمة أو المقابل» وهي أحد مفاهيم السوق، القائمة على الربح والخسارة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال غض الطرف عن هذا المفهوم في جميع الممارسات اليومية في حياة الناس، نعم؛ قد لا تكون القيمة مادية بحته، فقد تكون معنوية غير ملموسة، وقد تجمع الحالتين: مادية ومعنوية، وهي في كلا الحالتين، تسجل حضورا إنسانيا، لا يمكن التغاضي عنه، بل تأتي المطالبة به على رأس أولويات الاحتياجات اليومية لدى الفرد، فعلى سبيل المثال: هنا توجيه في اختيار الزوجة، حيث يقتضي هذا التوجيه إلى أن تتوفر في الزوجة شروط حسب النص: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك» فكل واحد من هذه الأربعة يحمل قيمتين؛ مادية ومعنوية، وكذلك عندما نوجه أبناءنا إلى أصحاب ممن هم ذوو خلق رفيع، وذوو سيرة حسنة، ومن المجتهدين بين أقرانهم في المدرسة، وممن هم المتميزون في أخلاقهم وسط المجتمع، فإننا بذلك نضع قيمة لكل هذه الشروط، وهذه القيمة تحمل أحد هذين المعنيين، المادي والمعنوي، فإذا كانت قيمة الأخلاق بمختلف مناخاتها هي قيمة معنوية، فإن النتائج المتحصلة عن ممارسة هذا الخلق هو ذاك هي قيمة مادية، وتقاس على مدى الإشادة الذي تلقاه من أبناء المجتمع، أو العكس، ويمكن القياس بعد ذلك على مختلف الأنشطة البشرية التي يقوم بها الناس، والتي يتقاسمون فعلها طوال الأربع والعشرين ساعة في اليوم.

يمثل المكان أحد الأولويات المحققة للإنسان طموحاته، وأحد المقاييس المادية أيضا والتي يقاس عليها قيمة هذا الإنسان، فساكن المدينة غيره ساكن القرية، وكلاهما يمثلان نوعي القيمة (المادية والمعنوية) بل قد يرتبط الإنسان بالمكان ويوصف به، وقد يحمله عنوانا مدى الحياة، ولا يستبعد أن يأتي آخرون بعد ذلك ويقيمون تمثالا معبرا عن قيمة هذا الإنسان أو ذلك في ذات المكان، لا غير، أو يشار إليه من خلاله، لذلك يسجل الواقع مشاهد لحالات كثيرة من هذه الصور، فالأمكنة ترتبط بالقيمة المادية للأفراد، والأفراد أيضا يرتبطون بالقيمة المادية للأمكنة، فليس بمقدور أي فرد أن يعيش في أي مكان، ولو على مستوى المدينة الواحدة، فهناك شبه أعراف تفرضها القيمة الاسمية للأمكنة وللأفراد أيضا، فهذه الأمكنة يسكنها الأغنياء، وأصحاب المناصب، وأصحاب الوجاهات، وهذه أحياء للفقراء، وهذه لمتوسطي الدخول، وهذه قرى نائية يسكنها المزارعون وأصحاب المهن البسيطة، قد لا تكتب هذه العناوين على لوائح يقرأها الجميع، ولكنها، صورتها وعناوين بهرجتها، تعكس كل هذه الـ «قيمة» في بعديها، ويكفي لفلان من الناس أن يشير الى المكان الذي يقطنه؛ ليتحول المعنى مباشرة الى التقييم من قبل المتلقي؛ حيث لا يحتاج المتحدث ليتكلم طويلا عن نفسه، فـ «الكتاب يقرأ من عنوانه» كما يقال.

ولذلك فليست هناك ثمة ضرورة لأن نتساءل: لماذا نقيم علاقة مع فلان دون غيره، ففلان هذا يمثل لنا قيمة معينة، تتمحور هذه العلاقة عليها، وليست هنا؛ أية مغالاة في هذا القول؛ ولا نرسم صورة خيالية للعلاقات القائمة بين الناس، ولا يختلف هذا التقييم بين مجتمع حضري، او مجتمع قروي، حيث تقوم العلاقات بين الناس وفق هذا المنظور، ولا تخرج العلاقة بين الطرفين، سواء المكتسب المتحصل من هذه العلاقة عائد مادي مقبوض، أو عائد معنوي يعزز من أهمية بقاء هذه العلاقات، فالعلاقات القائمة بين ذوي القربى- على سبيل المثال - فالمكسب المتحصل، يكون المحافظة على رضا الله عز وجل، ويكون حفاظا على وشائج القربى، ويكون للمحافظة على اللحمة الاجتماعية، ويكون لتعزيز الذات أن لها سندا إنسانيا تعود إليه كلما شعرت بشيء من الخوف يهدد كيانها وبقائها، فـ «الإنسان - كما يقال - قوي بأهله أو بأخيه» ويقاس ذلك على مختلف العلاقات، والتي تتشعب؛ خاصة مع تعقد الحياة؛ فهناك علاقات مع مؤسسات، وعلاقات مع دول، وعلاقات مع مهن، وعلاقات مع تخصصات، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، وكلها علاقات لها قيمة متحصلة يستفيد منها كلا الطرفين بلا منازع؛ تفاوتت هذه الاستفادة؛ أو بقيت على تكافئ ما، فالمهم أن هناك قيمة عززت بقاء هذه العلاقات، وأعطتها نفسا للبقاء والاستمرار.

تسعى الدول اليوم أكثر؛ من أي وقت مضى؛ الى تعظيم الـ «قيمة» غير المادية المباشرة لمختلف العلاقات، وذلك من خلال استثمار المعرفة، وتحفيز مجموعة العوامل التي تدعم هذا التوجه، وهو التوجه نحو مدن الـ (معرفة) بشكل خاص، لأن التعامل حتى مع الأدوات التي نستعملها في منازلنا، لن تحقق لنا قيمة الكفاءة من وجودها، إن لم تكن هناك معرفة كاملة بحقيقة هذه الأدوات، ولو معرفة تتيح لنا التحكم في تشغيلها، والحصول على قيمة كفاءتها العالية، وهذه تحتاج إلى كثير من العلم، والمعرفة، ولعلنا نراقب أبناءنا وهم يجولون في دهاليز هواتفهم النقالة، بينما نحن نبقى مشدوهين ومندهشين، وتعترينا علامات الاستفهام الكثيرة، من تعاظم الجهل الذي نعيشه مع هذه الأجهزة، هذا مثال واحد فقط؛ من أمثلة كثيرة؛ ولذلك حتى تصل الى مرحلة تكون فيها «عالما ومستيقظا»، لا بد أن تمر بمرحلة مفهوم القيمة، سواء أكان ذلك بالخضوع لبرامج تدريبية، أو مساقات علمية، أو الحصول على مهارات معينة، وهذه كلها خاضعة لمفهوم القيمة، لأنك، لا بد أن تدفع قيمة تدريبك، وتعلمك، ومعرفتك، ومن هنا نقول: «منطق القيمة .. لا يقبل بـ «مجانية» الأشياء» حيث يهيمن المقابل في أدق تفاصيل حياتنا اليومية.

هل تحديدك لقيمة ما؛ مسألة اختيارية، او نابعة من قناعة ما، كما سبق التطرق إليه أن مفهوم القيمة مفهوما مطلقا، ومختلف ممارساتنا في هذه الحياة لا تخرج عن قيمة متحصلة في نهاية الأمر، وليس هناك مجال لتحييد صورة دون أخرى؛ حيث يظل المكسب حاضرا، استوعبنا هذا الأمر، او لم نستوعبه، فهذه حقيقة، ولا مزايدة عليها.

نعم؛ ومن خلال تجربة الحياة؛ أن القناعات تتصدع، ولا تعمر كثيرا، لظروف الحياة المختلفة؛ من ناحية؛ ومن ناحية أخرى لزياد الخبرة، ونمو الوعي والسن، حيث تسقط المسلمات شيئا فشيئا، ولكن يبدو أن مفهوم الـ «قيمة» يظل مفهوم تتفق على وجوده، وبصورته الماثلة هذه، كل الممارسات التي يقوم بها البشر، قديما او حديثا، ومن هنا فتنمية القيمة يظل هدفا استراتيجيا للمستويين الرسمي والشعبي، لمختلف العلاقات، لأنها تحقق النمو، وتفعل من مستوى الحيوية، وإتاحة الخيارات الكثيرة.