أعمدة

نوافـذ :الحديث عن مدن المعرفة

16 مارس 2018
16 مارس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يقال: إذا كانت تكلفة المعرفة عالية؛ فإن تكلفة الجهل أعلى، وهذه مسلّمة مهمة يجب أن تأخذ طريقها نحو الفهم الكامل لها، ولا تقبل التجزئة، وإلا كمن يود من طائر أن يطير بجناح واحد، حيث الجناح الآخر مصاب بأمر ما، لذلك تعاني كثير من التجارب التنموية، ومعاناتها قائمة؛ وتكاد تكون أزلية؛ لأنها يراد لبرامجها التنموية أن تطير بجناح واحد، أو تمشي على رجل واحدة، وهذا يخالف المنطق، ولا يقبل التسليم المطلق، فسنن الكون لا يمكن العبث بها، فإما أن تقبل كاملة، أو ترفض كاملة، ولا توجد أنصاف حلول، إلا عند من يرى أن (1+1) ليس شرطا أن (=2) وإلا وُجد للمسألة تفسير آخر.

تستوجب مدن المعرفة التي يروج لها منذ زمن؛ ليس بعيدا؛ مجتمعا معرفيا، فهذا النوع من المجتمعات يعتبر أحد أهم استحقاقات هذه المدن القائمة على المعرفة، ولذلك تعيش بعض التجارب التنموية في حرج شديد اليوم في كثير من دول العالم، وهذا الحرج مفاده أنها غير قادرة على تحقيق مطلب مدن المعرفة، ولسبب بسيط ربما؛ كما يبدو؛ وهو عدم وجود بنية أساسية قائمة على المعرفة، لأن هذه البنية ليس يسيرا تحققها بين عشية أو ضحاها، حيث تحتاج إلى كثير من الجهد، وإلى كثير من البناء، وإلى كثير من صدق العمل، وإلى كثير من التشريع المنظم؛ الذي يؤمن بأهميته الصغير قبل الكبير؛ من المساواة، وإلى قليل جدا من بؤر الفساد، وبخلاف ذلك ستبقى هذه التجارب التنموية تقاسي، وتعيش حالة من اللاوعي بما يدور حولها من مكاسب تجنيه مدن المعرفة؛ فهذه المدن بقدر ما تستنزفه من كل ما ذكر؛ فهي في المقابل لها عوائد نوعية تعود نفعا لهذا الإنسان الرهيب المؤسس لها.

نعم؛ تكلفة المعرفة ليست يسيرة، ولا هي في متناول كل الدول، بالقدر نفسه المتحقق عند كثير من الدول، ولكن؛ في المقابل؛ يمكن أن تبدأ كل الدول في تأسيس البنية المعرفية بصورة متدرجة؛ حتى وإن أخذ هذا التدرج فترة زمنية أكبر، لأن في ذلك تعميم لفوائد شاملة أكثر على امتداد المساحة الجغرافية المكونة لها، ويكون ذلك متزامنا على تأسيس مدينة المعرفة بذات المستوى المتحقق لمجتمع المعرفة على مستوى الدولة الواحدة، وهذا أمر مقدور عليه من خلال خطط وبرامج قصيرة الأجل، ولكنها تنفذ أولا بأول، دون تجاوز محددات ومتطلبات كل برنامج على حدة، ويمكن القياس على ذلك من خلال مؤسسات الدولة الواحدة، فكل مؤسسة؛ كما يفترض؛ أنها قادرة على تأسيس بنية معرفية لتأدية أعمالها اليومية، ولو على مراحل، والانتقال التدريجي من الأساليب التقليدية في العمل، إلى الأساليب الأكثر تطورا، ومن خلال تعميم البرامج المحدثة على مستوى مؤسسات الدولة كاملة، يمكن؛ في المقابل؛ إيجاد نوع من التكامل بين المؤسسات، بما ينعكس تلقائيا على أنشطة الحكومة كلها، وبذلك تترقى مختلف الممارسات القائمة بين مختلف المؤسسات وتحقق شيئا من صور مدن المعرفة، وهذا أمر غير معذرو في أي تجربة تنموية تعيشها أية دولة.

الحديث عن مدن المعرفة يزداد يوما بعد يوم، لأن هناك تجارب ناجحة في بلدان كثيرة، وهذا النجاح؛ على ما يبدو؛ لم يكن أساسه المادة المتضخمة في الأرصدة، ولكن أساسه انطلق من توظيف القدرات الوطنية في مجالات العلوم المختلفة، وهذه القدرات لن تعوزها أية دولة من دول العالم، فقط يعوزها التخطيط السليم؛ المبني هو الآخر على المعرفة؛ والنوايا الصادقة للبناء، التي تغلي في أنفس أبناء الوطن، ومتى تحقق ذلك، أصبح تحقيق مدن المعرفة «قاب قوسين أو أدنى».