أفكار وآراء

الحضارة الغربية ..إشكالية البقاء ومهددات الفناء !!

16 مارس 2018
16 مارس 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

من بين كثير من القضايا التي تشغل بال المفكرين وكبار رجالات الانتلجنسيا حول العالم تأتي قضية الحضارة الغربية وهل سيقدر لها البقاء طويلا متسيّدة للحضارات الإنسانية أم انه آن أوان زوالها وحلول حضارات أخرى مكانها؟

السؤال المتقدم تطرحه تداعيات عديدة لعل في مقدمتها تحول قلب العالم من أوروبا إلى آسيا، عطفا على ظهور حركات الكراهية والتعصب والتشدد اليميني في الكثير من دول أوروبا، وحيثما تنتشر الكراهيات وتتعاظم القوميات ويرتفع المد الديني غير الإيجابي وغير الخلاق، فان الرسم البياني للحضارة بوصفها منظومة من الأخلاقيات والآداب، والفنون والعلوم، تتراجع لحساب لغة القوة الخشنة وترتد إلى الوراء كثيرا جدا اللغة الناعمة التي تفهمها شعوب الأرض قاطبة.

لم يكن وصول الغرب إلى مرحلة تسنم الحضارة الإنسانية أمر فجائيا، بل جاء عبر قرون طويلة من الصراع الإنساني الذي ولد لاحقا رؤى خلاقة من الناحية الإنسانية، فكانت أزمنة التنوير بداية، ومنها بدأت أوروبا تقوى اقتصاديا، وتاليا عسكريا، ما مكن لها عبر خمسة قرون من أن تكون قبلة الرأسمالية سيما وأنها استغلت خيرات الدول التي احتلتها حول العالم، ومع الثورة الصناعية التي عاشتها، بلغت درجة متقدمة من المجد الإنساني، ولعل العقود السبعة التالية للحربين العالميتين الأولى والثانية، قد لقنا الأوروبيين درسا بالغا جعلهم يمجون الحروب ويكرهون العنف وينزعون إلى الحياة .. لكن إلى متى؟

لكن على الرغم من ذلك التقدم التكنولوجي الكبير والإنجازات العلمية المدهشة التي توصل إليها الغرب أي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلا أن هناك أصوات عديدة كانت تقول: إن المشهد على هذا النحو زائف، وإن التنبؤات التي تصدر عن شخصيات رصينة ومن كبار العقليات الغربية تعد ضربا من ضروب الشطحات الفكرية، إلا انه من المؤكد أن هؤلاء لم يبنوا رؤاهم على الفراغ بل كان لديهم من الأدلة والبراهين الحسية والنفسية ما يمكن لهم من هذا الطرح المستبعد بالنسبة لعموم الناس في القارة العجوز أو أمريكا مالئة الدنيا وشاغلة الناس.

يذهب الفريق الذي يراه البعض متشائما إلى أن الحضارة الغربية قد حانت نهايتها على الأقل في شكلها المادي والحسي والعلمي والتقني وغير الديني والتوسع المهيمن على العالم، وهو الشكل الذي اتخذته خلال القرون الخمسة الماضية، وطبقا لمؤيدي هذه الرؤية فإن النهاية لن تكون مستقبلا، بل على وشك أن تدهمنا في الوقت الحاضر.

ولعل القارئ يتساءل عن الأسماء والرموز التي قدر لها أن تسوق رؤى بشأن نهاية الغرب حضاريا وماذا قالت وعن اهم ما قالت وكيف ستصل تلك الحضارة الكبرى إلى درجة من التدهور؟

في هذا السياق تكثر المقاربات ما بين انهيار حضارة روما في القرن الخامس الميلادي أمام جحافل القوط، وما بين مصير أوروبا اليوم، وبنوع خاص بعد الهجرات المختلفة إليها، سواء كانت هجرات من إفريقيا أو من العالم العربي.

على انه ينبغي لنا أن نقف أمام هذا الطرح وننتبه إلى انه بحال أو آخر يحمل درجة من درجات التمايز العرقي والطبقي، ويخدم أفكار اليمين المتطرف، لا سيما وانه يبرز عداء واضحا للعالمين العربي والإسلامي، ومن هنا تظهر وتروج الحركات اليمينية المتطرفة ، الأمر الذي يمكن أن يقودنا إلى التساؤل: هل ستكون نهاية الغرب من خلال ظهور حركات استبدادية؟

المتابع للمشهد الأمريكي بشكل عام يعلم كيف أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أثنى على الطرح الصيني الأخير المتعلق بإلغاء فكرة تقييد رئيس الصين بعدد معين من السنوات لولاياته، والمثير أن الأمر لم يحدث بشكل قرار فوقي من الرئيس الصيني لكنه كان اختيار البرلمان الصيني الذي يبلغ عدده نحو ثلاثة آلاف عضو، أي أن الأمر مضى بشكل ديمقراطي لا غش فيه، فهل يمكن أن نرى اليوم الذي يمضي الأمريكيون فيه إلى تقليد الصينيين لتنهار الديمقراطية من جذورها؟

الجواب في واقع الأمر أكثر إثارة لأن ما يجري في الحياة السياسية الأمريكية على نحو خاص لا علاقة له بالديمقراطية أو بحضارة الغرب الديمقراطية، وإنما جل الأمر هو حكم من الاوليجاركية المسيطرة على البلاد والعباد.

الأمر نفسه وإن بشكل آخر بدا ينسحب على أوروبا التي ترتفع فيها أصوات المتعصبين والكارهين، وبدا هؤلاء يشكلون أبعاد الحياة السياسية المغايرة في القارة الأوروبية، تلك القارة التي ولدت على أراضيها أزمنة وعصور النهضة والتنوير باتت اليوم فريسة لقوى اليمين المتطرف، مثل حزب البديل في ألمانيا، ومؤخرا فازت الأحزاب اليمينية في إيطاليا بغالبية الأصوات، وها هي بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي مفضلة أو هكذا يهيأ لها أنها تنجو بذاتها من سفينة الاتحاد الأوروبي المشكوك في وصولها إلى بر الأمان، فيما الفرنسيون يدركون أن اليمين سيكون له شأن كبير في أي انتخابات قادمة.

في أوائل القرن العشرين ذهب الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير إلى أن التكنولوجيا التي يعيش الغرب على واقعها ويرى أنها مبلغ الأمل في حياة إنسانية افضل سوف تدمر ثقافته، ولم يكن وحده من ذهب ذلك المذهب إذ انضم إليه الروائي الروسي الكبير«ليوتولستوي»، واكد الأمر نفسه الأديب الروسي الأشهر «فيدور دوستويفسكي» الذي قطع بأن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي.

أما جاكوب بوركهارت، أحد ابرز المؤرخين في القرن التاسع عشر، فقد شبه أوروبا في عصره بروما القديمة حال انحلالها، وما بين روما وبين بروكسل وواشنطن يلحظ المرء الثراء المادي، غير أنه ثراء مصحوب بحالة واضحة من التدهور الأخلاقي والديني في ذات الوقت.

هنا يعن لنا أن نطرح علامة استفهام ولا ندعي أو نزعم أننا نملك عليها إجابات جامعة مانعة، أو شافية وافية: هل أتت المادية على الروحانية؟ هل أراد الغرب التحلل من كل قيمة إيمانية وروحانية واعتبر الإنسان هو المثال الأعلى كما ذهب نيتشه الفيلسوف الألماني الملحد الذي مضى في خطاه « اودلف هتلر» الزعيم النازي والذي قادته رؤاه الشوفينية القاتلة إلى إطلاق شرارة حرب قضت على اكثر من ستين مليون نسمة حول العالم ؟

قبل بضعة أعوام رفض الأوروبيون أن يتضمن دستور الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى أن أوروبا لها جذور مسيحية، واليوم ترفض الحضور الإسلامي بنفس الدرجة والقوة، فهل يعني ذلك أن حالة العلمانية الجافة ساعدت أو تساعد على سرعة انهيار الحضارة الغربية؟

أحد أهم المفكرين الفرنسيين المعاصرين «ريجيس دوبرييه» في أحد كتبه الحديثة حدثنا عما أسماه «الأنوار التي تعمي»، بمعنى أن الإغراق في العلمانية قد أزاح بعيدا جدا كل قيم إنسانية وروحية، الأمر الذي ولد على جانب آخر من الإنسانية ردود أفعال أصولية متطرفة عانى ويعاني منها الأوروبيون، ولهذا يرفض الرجل العلمانية الجافة المسطحة بنفس قدر رفضه للأصوليات المغرقة في الكراهية، والساعية إلى عزل وإقصاء الآخر.

والشاهد أن الحديث عن الاحتمالات المفتوحة لانهيار الحضارة الغربية لم يخرج من المشرق، سواء المشرق المتوسطي أو المشرق الأقصى الذي يعمل في هدوء وتريث لبسط مقدراته على العالم، إنما يمكننا القطع بأن هناك ثلاثة أصوات فكرية غربية من عمق أعماق عمالقة الفكر، هي التي تنبأت منذ زمن بعيد بأن المسار الغربي على هذا النحو لابد له وأن ينهار مهما بدا في أعين العالم وكأنه ماض إلى الأبد، بل أنه من فرط الغرور الامبراطوري ذهب أحد أهم المفكرين الأمريكيين «فرانسيس فوكاياما» الياباني الأصل الأمريكي الجنسية إلى أن التاريخ قد بلغ نهايته وان الإنسان الأعلى، أي الإنسان الغربي، الأمريكي أو الأوروبي، هو قمة تمثل التاريخ ، وانه مشتهى الأجيال، وان التاريخ قد توقف عند هذا النموذج، ولم يكلف نفسه عناء تفكيك مسار التاريخ بتواضع المؤرخين، وإن كان قد عاد لاحقا عن رؤى الغطرسة الأمريكية المعروفة للقاصي والداني.

في كتابه الشهير «انحسار الغرب» تكلم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير «اوزوالد شبنجلر» عن صعود الغرب وحتمية سقوطه بعد هذا الصعود، وفي سفره هذا الكبير كان شبنجلر يرسم خطوطا عريضة للآفات التي تعاني منها الحضارة الغربية، وهي من عجب لا تختلف كثيرا جدا عن تلك التي أدت إلى انهيار حضارات أخرى من قبل، وكأن آفة حارة الإنسانية كلها- وليس حارتنا فقط كما قال نجيب محفوظ- هي النسيان.

بعد شبنجلر جاء المؤرخ الانجليزي الكبير «ارنولد توينبي» وقد قدم للبشرية كتابه الفائق الأهمية «دراسة التاريخ» والذي يقع في نحو ثلاثة ملايين كلمة، صنفها في اثني عشر جزءا، ويعتبر أكبر عمل تاريخي كتب على الإطلاق، بل انه الكتاب الأكبر في القرن العشرين حيث يقارن الثقافة الغربية بكل حضارة معروفة، ويرى فيها أن الغرب يخطو في طريق مبتذل هابط.

ولم يكن لمفكري أمريكا أن يغيبوا عن المشهد ولهذا جاء الطرف الثالث الشاهد على مصير الحضارة الغربية متمثلا في عالم الاجتماع الأمريكي الكبير بجامعة هارفارد «بتريم سوركين» بكتابه «المحركات الاجتماعية والثقافية»، والتي لم تختلف رؤيتها عن رؤية سابقيه وخلاصته في إن سقوطا وشيكا للثقافة الغربية في شكلها المادي والحسي لابد وان تأتي به المقادير، قبل ميلادها الجديد في النهاية كثقافة للقيم الروحية.

على مدى القرون الخمسة الماضية كما يقر «ب.ج. براندر» في رؤيته للفوضى العالمية، وكانه يتفق مع ريتشارد هاس المنظر الأهم للسياسات الأمريكية في القرن العشرين عن مآل الفوضى العالمية القادم لا محالة، ازدهرت الحضارة الغربية ووسعت بقوة جاذبية تقدمها، تقدما مدهشا في الكشوف الجغرافية والأيديولوجية السياسية والبحث العلمي والتكنولوجيا وإنتاج الثروة، ومصفوفة رائعة من الوسائب الأخرى لإثراء حياة الجنس البشري.

غير أن هناك حالة مغايرة اليوم في الغرب وتحولات كاسحة في الثقافة الغربية فالعادات والمثل والمعتقدات وأنماط المعيشة تتحلل بدلا أن تتكامل، والمؤسسات والهياكل التي كانت ذات يوم قوية صلبة تهتز وتضعف وتنهار، والصوت الصادح السائد في العصر يدوي بدرجة اقل للتقدم، ودرجة اكبر للانحسار... هل تتحقق الآن نبوءات شبنجلر وتوينبي وسوركين؟