أعمدة

نوافـذ: ترهقنا المصطلحات ..

13 مارس 2018
13 مارس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يهب المجتمع لأفراده مجموعة من المصطلحات والألقاب والمسميات؛ بناء على رؤى يختلقها في كثير من الأحيان؛ لإضفاء نوع من الأهمية، أو الوجاهة على الشخص المنعوت أو الموهوب، فيتوغل المصطلح في الذاكرة، ويحجز لنفسه مساحة يستقطب من خلالها مجموعة من الصور الذهنية، فتكبر هذه الصور الذهنية في نفس صاحبها، وبحكم المعايشة اليومية للمصطلح تتضخم ويعلو صوتها بين جنبات الذات، فتخرج للمجمع ماردا، ليس يسيرا التعامل معه، وليس يسيرا أن يعود إلى سيرته الأولى قبل حقنه بهذا المصطلح أو ذاك، حيث تتحول العلاقة بين المصطلح وصاحبه من علاقة معنوية يفترض أنها عابرة إلى علاقة عضوية تعكس كل تصرفات صاحبها، وسلوكياته، وجميع ما ينتجه من ممارسات تربطه بمن حوله، وقد يتعالى على من حوله، وقد يغالي في مختلف هذه العلاقات صغيرها أو كبيرها؛ لأنه يرى في نفسه أنه يمثل المصطلح، وليس فقط يحمله بحكم عرف المجتمع الذي أهداه إياه في ظرف ما، وقد لا يتحقق هذا الظرف في كل مرة.

المصطلحات: مثقف، مفكر، خبير، مطوع، أديب، مستشار، شيخ، ليبرالي، ديمقراطي، برجوازي، وغيرها الكثير مما تلصق بهذا وذاك، من غير الألقاب العلمية الآتية بحق وبغير حق، وكلها تتسلل إلى النفوس فتزيدها ضيقا؛ وليس سعة؛ وتحملها ثقلا، وليس بساطة، وتجبرها على امتهان سلوكيات وأعباء؛ وليس تخفيا؛ فتذهب بعيدا عن قدرها وحقيقتها؛ وليس «رحم الله امرءا عرف قدر نفسه» وهذه كلها إشكاليات اجتماعية لا غير، فهناك أفراد تتحقق فيهم مثل هذه المصطلحات في مجتمعات أخرى، ولا يقيمون معها علاقات عضوية تكون حملا ثقيلا على صاحبها، حيث يتعاملون معها وفق ما يجب أن تعبر عنه هذه المصطلحات من خلال أدوارهم في الحياة العامة والخاصة، لا أن تلبسهم أردية من تنوء عن حملها الجبال، فالمثقف على سبيل المثال من يرى في نفسه هذه الصفة أو يحقق هذا المصطلح، يجب في المقال أن تكون أقواله وأفعاله عنوانا لهذه الثقافة، وألا يكون هناك تناقض بين أقواله وأفعاله، فالمسألة تتجاوز الصورة المادية المعبر عنها بالأناقة وبامتلاك الوسائل المادية الفارهة، وإنما بحقيقة الدور الذي يقوم به هذا المثقف أو ذاك، بحيث تتحول الصورة الذهنية التي تختزنها ذاكرة الـ«مثقف» إلى صورة مادية لها أثر واضح في دنيا الناس، وما ينطبق على المثقف ينطبق القول والمعنى على: المفكر، والخبير، والمطوع، والأديب، والمستشار، والشيخ في بعديه العلم والوجاهة، والليبرالي، والديمقراطي، والبرجوازي، فهذه المصطلحات والنعوت التي يوزعها المجتمع على أفراده وفق مقاييس معينة يرى فيها أنها تتحقق في فلان من الناس، ولا تتحقق في آخر، فعلى «فلان من الناس» الذي أخرجه المجتمع من تحت عباءة النسيان إلى مستوى الإشارة إليه بالبنان أن يكون قلبا وقالبا لما أسنده إليه المجتمع من مهام جسيمة مسندة أدوارها وفق هذه اللقب، أو المصطلح.

وفخر الوطن ليس بتكاثر هذه الألقاب والمصطلحات بين أبنائه، وإنما تفاخره بما يستطيع هؤلاء الأبناء أن يقوموا به من أدوار، وينجزوه من مهام معبرة عن حقيقة هذه الألقاب والمصطلحات. يقول الشاعر التونسي مازن الشريف؛ وهي الكلمات التي تغنى بها الفنان التونسي لطفي بو شناق والتي لقيت رواجا كبيرا من قبل الجمهور، والتي انتشرت «انتشار النار في الهشيم»:

«خذوا المناصب والمكاسب

لكن خلولي الوطن.

يا وطن وأنت حبيبي

وأنت عزي وتاج رأسي

أنت يا فخر المواطن والمناضل والسياسي

أنت أجمل وأنت أغلى وأنت أعظم من الكراسي

يشهد الله والزمن .. أنا حلمي كلمة واحدة

أن يظل عندي وطن».

فمناخات الوطن ميادين على اتساع الأفق لن تملأها مصطلحات «خاوية» لا تعبر عن حقائق ماثلة على الواقع، فرجل في أطراف القرى يملأ السواقي والبيادر اشتغالا، ويعزف على وتر خرير المياه وهي تملأ الحقول خصبا، وتزهر الأراضي نباتا وشجرا، خير من ألف رجل يتوشح بمصطلحات لا طعم لها ولا رائحة، سوى بهرجة فارغة لا تحمل سوى رائحة العطر المسكوب على الدشاديش البيضاء؛ ليس إلا.