الملف السياسي

روسيا وأزمة النظام العالمي: تخطٍّ أم تصعيد؟

12 مارس 2018
12 مارس 2018

د.صلاح أبونار -

يشبه ميخائيل كورستيكوف التحركات الروسية بتحركات «غريراء العسل». حيوان صغير سريع الحركة قوي الأنياب والمخالب، ويمتلك شجاعة مهاجمة حيوانات أضخم وأقوى منه ملحقا بها الأذى، لكن لا يستطيع هزيمتها. يضعنا هذا التشبيه أمام مفارقة السياسة الخارجية السوفييتية القاتلة. فهي تتسم بالمثابرة والقتالية والقدرة على إلحاق الضرر بالخصوم، لكنها تنشط باستغلال مناطق الضعف والفراغ والفوضى في جبهة الخصم،

قبل بدء مسيرة الرئاسة الأمريكية الجديدة كانت روسيا تقف في بؤرة أضواء مسرح النظام الدولي. وفي موقعها هذا كان المراقبون يشيرون إليها كقوة خارجة عن سياق النظام الدولي كعمليات سياسية وكأطر تنظيمية. ومع إطلاق الرئاسة الأمريكية الجديدة لسياساتها الخارجية، وضعت الولايات المتحدة في نفس بؤرة الضوء، ولكن مع اختلاف في دلالة الخروج عن النظام الدولي. كان الخروج في الحالة الروسية، خروجا من نمط توسعي يسعى لاستعادة مساحات نفوذ مفقودة وبناء مساحات نفوذ جديدة، وخلخلة تنظيمات وأطر دولية لصالح أخرى جديدة. أما الخروج الأمريكي فهو خروج من نمط انسحابي، يسعى للتنصل من مسؤوليات القيادة الدولية والخروج عن اطر تنظيم التعاملات الدولية الراهنة ومناهضة الإجماع الدولي حول قضايا استراتيجية.

سنهتم هنا أساسا بالحالة الروسية لأنها تعالج غالبا عبر مزيج من التحيز، وضعف الإلمام بتعرجات مسارها على امتداد فترة ما بعد الحرب الباردة، والخطأ في تقييم دوافع السياسات الروسية ونتائجها.

انطلقت السياسة الخارجية الروسية في مسيرة جديدة منتصف 2012، أي مع بدء رئاسة فلاديمير بوتين الثانية أعقاب رئاسة ميدفيديف 2008 -2012. ينبغي التعامل مع هذا التاريخ كتاريخ رمزي، إذ كان بوتين خلال سنوات ميدفيدييف الرئيس الحقيقي الى جوار رئاسته لمجلس الوزراء. وسنجد أهمية عام 2012 الحقيقية في مظاهرات 2012 الواسعة، التي تحمس لها الغرب باعتبارها بدايات: «ربيع روسيا».

نظر بوتين الى المظاهرات كامتداد للسعي الغربي لنشر الاضطرابات في روسيا وتغيير نظام الحكم واستكمال إخضاع روسيا، والأهم أنها أكدت صحة السياسة الخارجية الجديدة، التي كان بوتين والنخبة المسيطرة قد توصلوا إليها.

تكونت تلك السياسة البديلة بتأثير عاملين: أولهما حصيلة السياسات الخارجية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة. خرجت روسيا منها محدودة الموارد، ومحاطة استراتيجيا من جانب خصومها. ولكنها أيضا خرجت مجردة من دافعها الايديولوجي القديم، وساعية للانضمام الى النادي الغربي. وساهم ذلك في تعيين حدود خيارات سياساتها الخارجية على امتداد الفترة، التي تكونت من عدة عناصر: أولها الاهتمام بدول الجوار السوفييتية السابقة، ضمانا للأمن الاستراتيجي، ولتنظيم استعادتها لسلاحها النووي، ولتصفية الديون السوفيتية، ولإدارة الأصول السوفيتية، وإعاقة تمدد النفوذ الغربي نحوها. وثانيها التوافق مع الغرب على حدود لتوسع عضوية الناتو شرقا، بحيث لا يقترب من حزام الدول المجاورة، والمعتبرة جزءا من مجالها الأمني التقليدي مثل جورجيا وأوكرانيا وبولندا. وثالثها التوجه الإيجابي صوب الغرب، عبر التكامل مع الاتحاد الأوروبي والناتو، والتنسيق في عمليات مواجهة الإرهاب العالمي كما حدث في الدعم الروسي للغزو الأمريكي لأفغانستان، والسعي لتأسيس نظام دفاعي صاروخي مشترك مع الناتو، والتنسيق في إدارة الأزمات الإقليمية مثل الامتناع عن التصويت في قرار مجلس الأمن الذي خلق منطقة الحظر الجوي الليبية ومكن الناتو من إسقاط القذافي. إلا أن هذه المساعي انتهت الى الفشل. فلقد واصل الناتو توسعه شرقا، وأخفقت محاولة النظام الدفاعي، وأهدر الناتو شروط موسكو الليبية و أوصل التدخل لدرجة إسقاط القذافي، وتواصل التصعيد حتى وصلنا الى أزمة جورجيا 2008، ومنها لأزمة أوكرانيا 2014.

من موقعه الجديد منح بوتين ميدفيدييف تفويضا لمواصلة السياسات السابقة ذاتها، إلا ان روسيا لم تنجح في الاقتراب من أهدافها. خلف هذا الفشل سنجد العامل الأساسي في إصرار الناتو على التوسع شرقا واقتحام مجال جغرافي يعرف جيدا موقعه المركزي داخل الرؤية الاستراتيجية لمؤسسات السلطة الروسية، وإقصاء روسيا عن التنظيمات الجماعية الأطلسية.

والسعي المضمر لتغيير النظام الروسي، عبر عمليات تفكيك اجتماعي وتغيير للنخب،ودعم الحركات القاعدية، وتغيير للهياكل الاقتصادية في مجالات حيوية مثل النفط.

وفي المقابل كانت موسكو تسعي لتأسيس نظام جديد متعدد الأقطاب، لكنها في سعيها كانت محملة بالمواريث السياسية والنووية لقوة الكبرى هزمت، وبالتالي ليست مهيأة للعب دور الدولة التابعة، ولا ان تسلم آليا بالقيادة الأمريكية في كل الأحوال.

خلف سياسة بوتين الخارجية سنجد نسق من ثلاثة مفاهيم. روسيا كتكوين حضاري سلافي متميز، وتمجيد السيادة والكرامة الوطنية ومعها سلطة الدولة، والزعيم الملهم والمكلف برسالة تاريخية. وهو نسق يمتلك قدرة تعبوية عالية، وخلق وتعميق مسافة مع العالم الخارجي، وتأجيج الصراع مع الآخر.

والحاصل ان العوامل المشكلة للسياسة الجديدة التي انطلقت عام 2012، كانت تتشكل وتتقدم على مدى سنوات ما بعد نهاية الحرب الباردة. و خلال رئاسة ميدفيدييف شهدت مرحلة تشكلها النهائي، عبر محاولته- ميدفيدييف- رأب الصدع مع الغرب، وقراءة بوتين ونخبته لأسباب هذا الفشل.

كانت المقدمات الحركية لتلك السياسة بالضرورة تتشكل خلال نفس الفترة كما تشير أحداث جورجيا 2008، وفي عام 2012 تحولت المقدمات الى سياسة أخذت تدريجيا تتسم بالشمول عبر تعدد المستويات والأدوات، ويتسع نطاقها الجغرافي، وتكتسب المزيد من قوة الدفع والموارد.

تجلت تلك السياسة عبر أربعة مجالات. أولها مجال الدول السوفيتية السابقة المجاورة، بهدف تكوين منطقة عازلة، ومنعها من الانضمام للناتو، أو إعاقته اذا كان قد بدأ. والوسائل هنا اقتصادية مثل إلغاء الديون والمعاملة التجارية التفضيلية والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وسياسية عبر دعم التحالفات السياسية وترتيبات الأمن الجماعي.

وثانيها، مجال دول ومؤسسات الاتحاد الأوروبي والناتو. والهدف هنا استغلال التناقضات والأزمات داخلها، وتوظيف تراجع الثقة الأوروبية تجاه السياسات الأمريكية والاتحاد الأوروبي، من خلال الإعلام والتحالف مع الحركات الشعبوية، والتأثير في العمليات الانتخابية.

وثالثها مجال مناطق النفوذ السوفييتي المندثر كالشرق الأوسط. في الشرق الوسط جاء ذلك عبر التدخل السياسي والعسكري في الأزمات، وشغل الفراغ السياسي، وصفقات الأسلحة، والترتيبات ألأمنية المشتركة، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وإطلاق عمليات سياسية جماعية لحل الأزمات.

ورابعها دول ومناطق مختلفة على امتداد العالم. وهنا توجد عدة أهداف: السعي للتغلغل وتثبيت النفوذ، وإضعاف الروابط مع واشنطن، وإعاقة المشاريع الاندماجية مع الغرب، ودعم القوى الحزبية والشعبية المناهضة للنفوذ الغربي.

يشبه ميخائيل كورستيكوف التحركات الروسية بتحركات «غريراء العسل». حيوان صغير سريع الحركة قوي الأنياب والمخالب، ويمتلك شجاعة مهاجمه حيوانات أضخم وأقوى منه ملحقا بها الأذى، لكن لا يستطيع هزيمتها. يضعنا هذا التشبيه أمام مفارقة السياسة الخارجية السوفيتية القاتلة. فهي تتسم بالمثابرة والقتالية والقدرة على إلحاق الضرر بالخصوم، لكنها تنشط باستغلال مناطق الضعف والفراغ والفوضى في جبهة الخصم، وتبادر مستغلة أزماته وسوء إدارته لصراعاته، والأخطر أنها لا تمتلك من موارد القوة ما يمكنها من حسم معاركها نهائيا.

ولأن مواردها ضيقة، تضطر لاستخدام أساليب من نمط التدخل في الانتخابات والسطو على بيانات القواعد الانتخابية الأوروبية وتدعيم سلطات تخوض حروبا ضد شعوبها.

غير ان ريتشارد سوكولوفسكي وبول استرونسكي يضعان أيدينا على الوجه الآخر للصورة. وفقا لهما لسنا أمام حرب باردة جديدة، ولا ينتهج بوتين سلوكيات الدولة المارقة، ولا يرغب في إدارة النظام الدولي، وما يسعى إليه الدفع بالنظام الدولي صوب نظام متعدد الأقطاب، تشغل روسيا مكانها الطبيعي فيه. بكلمات أخرى تخطي المأزق الذي انتهت إليه سياسة الاتجاه غربا، والاندماج المتكافئ في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وفي سياساتها الراهنة ترسل روسيا رسالة، إنها إن كانت عاجزة عن تغيير النظام العالمي، ففي مقدورها الإضرار بالقوى المتمسكة بالقطبية الأحادية وإعاقة عمل النظام.