أفكار وآراء

البحث عن رقم

07 مارس 2018
07 مارس 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

محيط الأرقام لا آخر له ولا قرار ، وما يتدفق منها يوميا يكفي لتغطية سطح محيط هو الآخر، فما الذي نأخذه أو ننظر في أمره أو نستعمله أو نتوقف عنده ؟ .  من المفيد في البداية أن أشير إلى أن كراهية الكثير من العاملين في مجال الصحافة والإعلام للأرقام شديدة ، وعلى الصعيد الشخصي عادة ما أقول إن الناس من حولي ينظرون إلى عملي كمحرر اقتصادي - أنا ومن مثلي - باحترام مبالغ فيه ، ولا لشيء سوى أن لدينا القدرة على التعامل مع الأرقام . أحوال ، كما نقول ، وفي كل الحالات فإن معضلة السؤال أعلاه تظل قائمة ، وكل فرد في النهاية مجبر على التعاطي مع أرقام في حياته أقلها رقم هاتفه ومنزله وحساب راتبه وتكلفة وقود السيارة أو تذاكر السفر الخ . بطبيعة الحال يختلف معنى الرقم الواحد أو مدلوله طبقا لموقف كل منا وموقعه واهتماماته العملية أو غير العملية . حين تقول مثلا إن عدد سكان البلد س هو مائة مليون نسمة فإن ذلك يفتح مبدئيا شهية نوع معين من المستثمرين والتجار للتعامل مع هذا السوق الكبير أو عدد المستهلكين الكبير بمعنى أدق أو حتى المستهلكين المحتملين إذا كانت ظروف البلد الحاليّة صعبة لكنه يسير على طريق صعود اقتصادي يبشر بتحسن في مستويات الدخول ونمط توزيعها .

لكنّ نوعا آخر من المستثمرين قد لا يعني الرقم له أي شيء ، لأن ما يعنيه هو رقم آخر داخل الرقم الكبير، وهو عدد الأثرياء الذين تبلغ ثروة كل منهم مليون دولار أو أكثر ، ذلك لأنه مستثمر أو مستورد أو وكيل يبيع نوعا معينا من السيارات بالغة الفخامة ويعلم أن زبونها بلغة السوق لابد أن يكون في مستوى اجتماعي معين، وثمة مستثمر آخر يعنيه أكثر عدد الشباب بين إجمالي السكان بأهم من العدد العام، ورابع وخامس وهكذا، وفي المقابل ينظر السياسي إلى عدد السكان كتحد لأن زيادة العدد تقلل من فرص تحقيق الرفاهية أو قدرة السياسي على نيل رضا الجمهور العام ، بينما قد ينظر المواطن العادي الى زيادة السكان كعامل مضاعف لشعوره بالزحمة والتكدس في الشوارع والمرافق والحدائق والمواصلات العامة، وقد يرى فيها مؤلف أغان أو مطرب مادة لصنع أغنية رائجة أو يقوم مهني في مجال العلاقات العامة بالتفكير في ابتكار حملة يعرضها على الحكومة لتنظيم النسل الخ . هذا مثال يوضح أن الرقم الواحد لا يعني شيئا واحدا لجموع الناس وإنما ينظر إليه كل منهم من منظوره الخاص متأثرا في ذلك بثقافته ومصالحه ونظرته للحياة ، ومن أجل ذلك يقال إنه يمكن الكذب بالأرقام رغم أن الأرقام المعدة بمنهجية سليمة عادة لا تكذب، حيث يمكن إنتاج أرقام سليمة ولكن عرضها على الناس مجزأة أو غير منسوبة الى ثابت للقياس والمقارنة، أو منتقاة من مجموعة رقمية متكاملة لا يجوز عرضها إلا معا ، ليظهر المقصود منها، وبهذا تبدو وكأنها كاذبة، وهناك مثال شائع في استخدام السياسيين للأرقام هو إعلان - مثلا - إن الحكومة أنفقت كذا مليار جنيه أو دولار في أشهر محددة على الصحة في المكان الفلاني أو في عموم البلاد، أو أقامت بنية تحتية بقيمة كذا مليار جنيه أو ريال أو دولار، أو عبدت كذا كيلو متر من الطرق، فمثل تلك الأرقام لا تعني بحال أو قد لا تعني مطلقا انه حدث تقدم في تلك الخدمات ذلك لأن من الوارد أن يكون ما تم إنفاقه قد ذهب معظمه إلى الأجور أو الوساطات أو لا يمثل إلا نسبة بسيطة من المطلوب أو يكون التدهور في المرفق المعني قد سبق معدلات الإصلاح والتجديد أو أن الزيادة في السكان جعلت شعور المواطنين بالتغيير نتيجة هذا الإنفاق شبه معدوم وهكذا . من الظواهر العامة اللافتة أيضا في حياتنا وحديثنا منصب على الأرقام رفض الأرقام الآتية من الخارج إذا كانت لا تعجبنا أو التهليل الزائد لها إذا جاءت مبرزة لجهود وإنجازات نتصور أننا حققناها أو حققناها بالفعل ، مع أن التناول الموضوعي لأرقام الخارج وأعني التي تصدر عن بنوك استثمار عالمية ومراكز بحوث معروفة ومؤسسات دولية أو جهات تجارة عالمية ، قد يفيد في رؤية جوانب لا نستطيع أن نراها بدقة في نشاطنا الاقتصادي، وأبرز مثال على ذلك هو أرقام التجارة الخارجية حيث كثيرا ما نكتشف والى الآن أن صادرات مصر مثلا الى إنجلترا أعلى في بيانات الجمارك البريطانية عنها في المصرية وقد يحدث ذلك لتلاعب مقصود من المصدر أو اختلاف في التعريفات أو لأسباب أخرى ، وهناك أيضا مثال تفاوت أرقام معدل نمو الناتج المحلى بين ما تقدره السلطات المحلية وما يقدره صندوق النقد الدولي ، واستمرار ذلك لسنوات طويلة الأمر الذي دعا بلدان كثيرة الى تكثيف التعاون الفني مع خبراء الصندوق للوصول الى توافق في التقديرات .

ننتقل إلى زاوية أخرى في المسألة الأرقامية هي زاوية التعاطي الصحفي مع الأرقام وفيها أيضا طرائف وأحاج ، فمن الطرائف التي عاينتها بنفسي إصرار الصحفيين الذين يغطون معارض خارجية على الفوز برقم يمثل حجم التعاقدات التي أبرمها وفد البلد خلال المعرض ، فعادة ما يحاول منظمو المعرض أو ممثلو العارضين الوطنيين الذين يرافقهم الصحفي الهروب من الإجابة على هذا السؤال ذلك لأن نجاح المشاركة لا يعني بالضرورة انه تم خلال المعرض إبرام تعاقدات برقم كبير فالتعاقد الكبير يحتاج الى خطوات أبعد من مجرد معاينة المنتج خلال المعرض وإزاء إصرار الصحفيين يضطر ممثل العارضين إلى قول رقم تقديري أو غير مبنى على أي أساس ووقتها يرتاح المتابعون ويصدرونه في عناوين التغطية ، وقد حدث غير مرة أن صنع الصحفيون الرقم التقديري بأنفسهم وجعلوه أمرا واقعا لا محيص أمام العارضين للهروب منه ( يدور الحوار كالتالي : الصحفي : نريد رقما يعكس حجم التعاقدات ؟ والمعارضون يتحرجون ، وبعد تكرار السؤال يقول الصحفي: يعني نقول ١٠٠ مليون دولار مثلا. ؟ ويتردد العارضون في القبول أو الموافقة فيعلن الصحفي أن هذا هو الرقم وهكذا ) ، ومن المهم أن نعرف أن إصرار الصحفي لم يأتِ من فراغ فهو يعرف أن قيادة التحرير تنتظر رقما وترفعه في المانشيت أو العناوين الرئيسية، وتلومه لو لم يفعل، في جانب معاكس يحدث كثيرا أيضا أن يتم إتخام الموضوعات بأرقام لا رابط بينها ، أو تخلو الموضوعات الصحفية من أرقام مطلوبة لتوضح أبعاد ودلالات ما هو مكتوب، غير أن الكتاب المحترفين يحسنون (التنشين)، ولا أقصد الاقتصاديين الذين يكتبون ولكن الصحفيين واسعي الاطلاع وممن يملكون مهارة الحس القوي بالرقم وباحتياجات القرّاء ويختارون الرقم الدال أو عددا محدودا من الأرقام  ليبرزونها في الموضوعات الرئيسية.

لا يبقى إلا القول بأن اصطياد الرقم الدال وفي التوقيت الصحيح وبالفهم الصحيح له ووضعه أيضا في السياق المناسب، عمل شديد الأهمية للسياسي المؤيد أو المعارض وللصحفي والإعلامي والمستثمر والتاجر والصانع والمواطن بعامة ، وتزداد الحاجة إلى امتلاك مهارة قنص الأرقام المهمة في زمننا هذا أكثر من أي وقت مضى لأن ما يتدفق من أرقام يوميا ويعلن أو يبث أو ينشر مهول ، والخروج بأهم ما فيه وفي زمن وجيز وسبق الآخرين مهم للغاية وشاق للغاية أيضا، ونحن نرى كيف تختار الصحف الكبرى أهم ما في الميزانية الجديدة من أرقام لتنشرها بالبنط العريض كما نقول ، من بين أرقام بلا حصر ، وحين يصدر التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت، وحين يصدر بحث الدخل والإنفاق فإنه يكون مطلوبا من الصحفي أن يختار مجموعة من أهم الأرقام من بين آلاف أو عشرات آلاف الأرقام المعروضة ، وفي خلال سويعات قليلة لينشرها وأيضاً يسبق في نشرها. ولا زال محيط الأرقام يهدر وسيظل.