69655
69655
إشراقات

التفـــاؤل فــي التشــــريـع الحكيــم .. مصـــدر السعـــادة وراحـة البـال

01 مارس 2018
01 مارس 2018

كن إيجابيا أيها المسلم -

متولي الصعيدي -

إمام وخطيب جامع محمد الأمين -

«الإيجابية مهارة مثل باقي المهارات التي تكتسب بالتعلم والتطور المستمر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) فالأمر كله يندرج تحت عاملين أساسيين هما: طريقة التفكير وطريقة التصرف وكلاهما قابل للتغيير والتطوير، أي أن الإيجابية ما هي إلا مزيج من استنارة في التفكير، الشخص مع حسن تصرف، فإذا ظل الإنسان يعتنق الأفكار نفسها التي اعتاد عليها، فسوف ينعكس هذا بالطبع عليه وعلى البيئة التي تحيط به، وإذا رغب الشخص في إصلاح نفسه فعليه أن يكون حريصًا في طريقة تفكيره وتصرفاته ليصل بهما إلى الإيجابية المستدامة».

حين يقرأ المسلم آيات القرآن الكريم، يستشعر بفطرته النقية خطاب التنوير القائم على استقلال الإرادة وحرية الرأي والفكر، ذلك لأن الإيمان الذي يسانده علم صحيح هو الركيزة الأساسية للجمع بين إنارة العقل والقلب معا في توازن وتكامل، فبالإيمان والعلم يكون المسلم إيجابيا، ويقي نفسه من العادات والأفكار السلبية، فما شاء الله كان، ومن لم يشأ لم يكن قال الله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).

فالإيجابية أصل عظيم من أصول الإسلام وميزة عظيمة ميز الله تعالى بها المسلم، فالإسلام يدعو إلى إيجابية الفرد نحو نفسه ونحو مجتمعه، فمن جعل عاداته اليومية متفقة مع تعاليم الإسلام، مبتعدا عن الغضب والقلق دون سبب أو داع، بأن يمارس الطمأنينة والسكينة محسنا الظن بربه، سينتهي أمره حتما إلى إتقان العمل بتعاليم الله في القرآن الكريم، وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونرى هذا الأصل العظيم في سورة العصر التي قال عنها الأمام الشافعي: لو لم ينزل من القرآن غيرها لكفت الناس (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها) فالإنسان الإيجابي هو الذي يتحرك ويتفاعل ويتجاوب مع المجتمع الذي يعيش فيه مهتما بقضاياه، والسلبي هو الإنسان المتقوقع المنزوي المنغلق المنعزل عن الناس.

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، إن الإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضا في العطاء، قويا في البناء، ثابتا في البأساء والضراء، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر الناس، فيصنع من الشمعة نورا، ومن الحزن سرورا، يتفاءل في حياته، ويشكر عند وجود النعم، ويصبر عند حلول النقم، ويقنع بعطاء ربه له، ويؤمن بالقضاء والقدر.

لقد جعل الله تعالى الحياة الدنيا مسرحا لأحداث الناس وأفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم على مرّ العصور منذ تكلفيهم، حتى يتوفّاهم ربهم سبحانه لينتقلوا إلى حياة أخرى تبدأ بالبرزخ وتنتهي إما إلى جنة وإما إلى نار، ليجد الناس يوم القيامة ما فعلوه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ويكون إما شاهدا لهم أو عليهم، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، ولذلك ضرب الله المثل في القرآن الكريم لبيان الفرق بين المسلم المهموم دون هم والمغموم دون غم، فقط لأنه اعتاد الهم والغم دون سبب أو داع، وبين المسلم المتفائل الإيجابي الذي فتح قلبه للحياة وعقله للنظر في الكتاب المنظور والمقروء معا، فقال عز وجل: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فالمقصود بالأبكم السلبي العاجز الذي يمثل عبئا على المجتمع والمقصود بمن يأمر بالعدل الإيجابي الذي يمارس التفاؤل والطمأنينة وحسن الظن بربه، ويقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، ولأن (الدين النصيحة)، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا فقال في حديثه: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجوا ونَجوا جميعًا)، فالسلبية تهدد حياة الفرد والمجتمع.

فمن صور الإيجابية في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما نزل إليه ملك الجبال يستأذنه في إهلاك من أذاه لم يرض بالهلاك وكان سهلا عليه صلى الله عليه وسلم أن يتخلص منهم، وإنما قال: (لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا) واستجاب الله دعوته حتى خرج من صلب أبي جهل عكرمة، ومن صلب الوليد بن المغيرة خالد بن الوليد، وغيرهم كثير مما لا يتسع المقام لذكر أسمائهم.

ولم يكن الإنسان وحده الذي ضرب المثل في الإيجابية، وعدم الانزواء دون سبب، ففي سورة النمل نرى نماذج من الإيجابية في حياة الطيور والحشرات متمثلة في الهدهد الداعية إلى دين الله والذي كان سببا في إسلام أمة من الناس ومعهم ملكتهم، ذاك الهدهد الذي لم يكن كغيره من الهداهد حين أبصر قوما يعبدون الشمس من دون الله، فتحرك وتقصى خبرهم وألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام، باذلا أقصى ما في وسعه وطاقته في إيجابية عظيمة دون تكليف مسبق، لأنه لم يكن سلبيا، حيث استعمل أرقى مهارات الإبداع في الخطاب لنبي الله سليمان عليه السلام، مكتفيا بالإشارة دون العبارة، وبالتلميح دون التصريح، حين قال: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) مع غاية الدقة في كلامه والإحاطة بالأمر حين قال: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) وبعد أن جرى بينه وبين نبي الله سليمان حوار ونقاش، أمره نبي الله سليمان عليه السلام أن يذهب إليهم بكتابه داعيا إياهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وبهذا بدأ الهدهد بإيجابيته قصة دخول هؤلاء القوم مع ملكتهم في عبادة الله سبحانه وتعالى وترك عبادة الشمس، وحكى القرآن الكريم على لسان ملكة سبأ (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وفي سورة النمل أيضا ما ذكره الله من قصة النملة التي تعاملت مع الحدث بإيجابية تنم عن استشعارها الخطر على بني جنسها، بأن خافت عليهم من الهلاك فقالت وحكى القرآن الكريم على لسانها، (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)عند ذلك تبسم نبي الله سليمان إعجابا بها وبفكرها وإيجابيتها، وعدم انزوائها بمفردها، وفرارها بنفسها من الهلاك، فقال الله تعالى عن ذلك (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا).

فالإيجابية مهارة مثل باقي المهارات التي تكتسب بالتعلم والتطور المستمر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) فالأمر كله يندرج تحت عاملين أساسيين هما طريقة التفكير وطريقة التصرف وكلاهما قابل للتغيير والتطوير، أي أن الإيجابية ما هي إلا مزيج من استنارة في التفكير، الشخص مع حسن تصرف، فإذا ظل الإنسان يعتنق الأفكار نفسها التي اعتاد عليها، فسوف ينعكس هذا بالطبع عليه وعلى البيئة التي تحيط به، وإذا رغب الشخص في إصلاح نفسه فعليه أن يكون حريصًا في طريقة تفكيره وتصرفاته ليصل بهما إلى الإيجابية المستدامة.

ليست العبرة بطول الأعمار وإنما بحسن الأعمال، فهناك أناس ما عمروا كثيرا في حياتهم، لكنهم تركوا بصمات تدل عليهم وتنطق باسمهم وكأنهم بين الأحياء يعيشون بعملهم وإيجابياتهم، ومن كان من هؤلاء غير مسلم فإن جزاء إحسانه واختراعاته قد أخذه في الدنيا بقدر عمله وإحسانه من محاولة إسعاد البشرية، أما المحسنون من أهل الإيمان فإن الله قد أعدّ لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى: (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، ولا يطوى سجل حسناتهم بانتقالهم إلى الحياة الأخرى بل هو سجل باق ما بقي لهم أثر وذكر يذكرون به.

وكما يبقى سجل الحسنات كذلك يبقى سجل السيئات مفتوحا بأصحابه، فمن شجع الفساد وكان سببا في نشر الأفكار الهدامة والانحلال الخلقي فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ).

كن إيجابيا أخي الكريم، بالوعي قبل السعي، وبالإنارة قبل الإثارة، وبالثقة بالنفس، ولا تقل لا أستطيع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (استعن بالله ولا تعجز) لأن إيجابيتك إكسير حياتك، فصحح لنفسك مفاهيم الحياة، حتى لا تكون على هامش الدنيا، حدد حلمك ورتب أفكارك، وحارب السلبية بنفسك في نفسك، وقوِ يقينك بالله، وأحسن ظنك به، وتجنب الهوي، وأبدع في مجالك وتخصصك وعملك، واسلك سبيل العلم، وفتش في نفسك وراجع أمرك، فإن وجدت خيرا فاحمد الله على ذلك واشكره، وإن وجدت غير ذلك ففي عمرك متسع لتصحيح سيرك، فأضف لحياتك شيئا حسنا به تنعم وتغنم في الدنيا والآخرة، وتذكر بالخير للأبد، فضع بصمتك، وانظر إلى الأمل من وراء العمل. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

 

التفاؤل وحسن الظن بالله -

د. يوسف بن إبراهيم السرحني -

«التفاؤل سمة إيجابية تدفع إلى العمل الجاد والأخذ بالأسباب، وتشحذ الهمة، وتقوي العزيمة، وتضيء الدرب، فما أحوجنا إلى التحلي بالتفاؤل، لا سيما ونحن نعيش في عصر أمتنا تعاني فيه من المحن والأزمات ما لا يخفى على أحد، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يزرع التفاؤل في نفوس أصحابه ويربيهم على هذه السجية الجليلة، والخصلة الكريمة. وهو يفتح للإنسان باب الرحمة والسعادة، ويغرس في قلبه الطمأنينة والسكينة، ويغلق أمامه نوافذ اليأس، ويوصد أمامه أبواب القنوط، فالمتفائل يكون هادئ النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعيش في هدوء وراحة بال».

التفاؤل بالخير وحسن الظن بالله تعالى من السجايا العظيمة، والخصال النبيلة، والصفات الحميدة، والشمائل الكريمة، يعد التفاؤل قيمة من قيم الدين الحنيف، وميزة من مزايا الأنبياء والمرسلين، وسجية من سجايا المؤمنين. إنها مزية عالية، وسمة رفيعة، وسلوك قويم، به يصنع الرجال مجدهم، وبه يبنون عزهم، وبه يحددون أهدافهم، وبه يرسمون غاياتهم، وبه يرفعون بنيانهم، وبه يسعدون أنفسهم وغيرهم.

التفاؤل هو مفتاح الرجاء والأمل، فهو نور في زمن الظلمة، وسراج في وقت العتمة، وهو ضياء إذا احلولك الظلام، وهو قبس إذا اشتد سواد الليل. التفاؤل هو مخرج وقت المحنة والشدة، ومتنفس ساعة الضيق والكربة، وهو نافذة أمل وقت الأزمات.

التفاؤل هو باب رجاء إذا ما أوصدت الأبواب، وهو فسحة طريق إذا ما سدت الطرقات، وهو بريق فجر إذا ما تقطعت السبل.

التفاؤل يدفع إلى التحمل والتجلد، ويدفع إلى التحلي بالصبر الجميل، وهو يسهم في حل المشكلات، وفك المعضلات، وعلاج الأزمات، وتنفيس الضائقات، فالمؤمن أحيانا يبتلى، فتشتد به الأزمات والكربات، وتحيط به المحن والشدائد، وتحل به المصائب والكوارث، إلا أنه بإيمانه بالله تعالى يقابل ذلك بالصبر الجميل، ويتعامل معه بروح من التفاؤل واليقين، واثقا بالله تعالى، فالإنسان إذا أغلقت أمامه الأبواب، وتقطعت به الأسباب، فإن الله تعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فإذا قال العبد: يا الله! يا رباه! يا سيداه! يا مغيثاه! أجابه الحق تبارك وتعالى: لبيك لبيك لبيك: يا عبدي، فباب الله تعالى مفتوح لكل من رجع إليه وأناب، يقول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

إن التفاؤل يفتح للإنسان باب الرحمة والسعادة، ويغرس في قلبه الطمأنينة والسكينة، ويغلق أمامه نوافذ اليأس، ويوصد أمامه أبواب القنوط، فالمتفائل يكون هادئ النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعيش في هدوء وراحة بال، واضعا في قلبه ونصب عينيه قول الله عز وجل: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

ولا ريب أن الله تعالى مع ظن عبده به، فعلى المسلم أن يحسن الظن بالله تعالى، فقد جاء في الحديث أن واثلة بن الأسقع دخل على يزيد بن الأسود يريد عيادته، فقال له: كيف ظنك بالله؟ قال: ظني بالله والله حسن، قال: فأبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا، وإن ظن شرا»، فظنوا بالله تعالى الظن الحسن، وثقوا به سبحانه في المنن والمحن.

ولنا المثل الأعلى في الأنبياء والمرسلين، فقد ضربوا أروع الأمثلة، وسطروا أنصع الصفحات في التفاؤل والرجاء وحسن الظن بالله تعالى، فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يحب التفاؤل، وهي سجية متأصلة فيه، وملازمة له، لا تفارقه في كل المواقف والأحوال التي حدثت له، والتي مر بها، حتى في أحلكها وأصعبها، فمواقف النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالتفاؤل من ذلك، ما يحدثنا عنه خباب رضي الله عنه، قائلا: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله، فقعد وهو محمر وجهه، فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب. ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله» زاد بيان: «والذئب على غنمه» رواه البخاري. رقم الحديث:3852.

وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ومعه صاحبه أبو بكر، وقد وصل المشركون إلى باب الغار، قال أبو بكر رضي الله عنه: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما» رواه البخاري. رقم الحديث:3922.

وعندما كانا في طريقهما إلى المدينة المنورة مهاجرين إليها، أدركهما سراقة بن مالك، وقد خرج طمعا في جائزة قريش لمن يأتي برأس النبي صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا، قال أبو بكر: «فارتحلنا بعدما مالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله، فقال: «لا تحزن إن الله معنا»، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه إلى بطنها - أرى - في جلد من الأرض، - شك زهير - فقال: إني أراكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفى لنا» رواه البخاري. رقم الحديث:3615.

وفي معركة الأحزاب، وقد بلغ الأمر أشده، إذ يصف الله تعالى هذا الحال بقوله: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) سورة الأحزاب الآيتان «10-11»

في هذه الأثناء العصيبة يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالفتوحات، قال ابن إسحاق:‏ وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال:‏ ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليّ صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال‏:‏ ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال‏:‏ ثم ضرب به الثالث، فلمعت تحته برقة أخرى.‏ قال‏:‏ قلت:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله‏!‏ ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب‏؟‏ قال‏:‏ أو قد رأيت ذلك يا سلمان‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق‏.

وهذا سيدنا يعقوب عليه السلام وقد فقد ابنه يوسف عليه السلام، ثم من بعده فقد ابنه بنيامين، ومع ذلك كله ظل متفائلا بسلامتهما. راجيا لعودتهما، فكان الأمر كذلك، فعندما أخبره أبناؤه أن ابنه يوسف أكله الذئب، رد عليهم رد المتفائل: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) سورة يوسف الآية «18»

وعندما أخبره أبناؤه أن ابنه بنيامين قد سرق، وأن عزيز مصر قد أخذه رد عليهم رد المتفائل، بل أمرهم بأن يذهبوا فيتحسسوا من يوسف وأخيه، قال الله تعالى: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) سورة يوسف الآيات» 83-87.

ولما فصلت العير التي تحمل قميص يوسف، أي خرجت القافلة منطلقة من مصر إلى الشام، هاجت ريح فحملت ريح يوسف من قميصه إلى أبيه يعقوب، وبينهما مسيرة ثماني ليال. وقيل عشر ليال، وقيل مسيرة شهر، قال يعقوب عليه السلام لمن بقي من أولاده معه: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون. أي لولا أن تسفهوني وتسخروا مني، وتزعموا أن هذا الكلام صدر مني من غير شعور، قال الله تعالى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) سورة يوسف الآيات»93-96»

ومما تقدم يتبين أن التفاؤل سمة إيجابية تدفع إلى العمل الجاد والأخذ بالأسباب، وتشحذ الهمة، وتقوي العزيمة، وتضيء الدرب، فما أحوجنا إلى التحلي بالتفاؤل، لا سيما ونحن نعيش في عصر، أمتنا تعاني فيه من المحن والأزمات ما لا يخفى على أحد، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يزرع التفاؤل في نفوس أصحابه ويربيهم على هذه السجية الجليلة، والخصلة الكريمة.