1251096
1251096
المنوعات

رسـالة فـي بريد الغـيب

15 فبراير 2018
15 فبراير 2018

شـريفة المحـرزية -

على أجنحة الغيب المسافرة الآخذة بروحك الطاهرة إلى أقصى عتبات الغياب وأكثرها نأيا واستحالة عن أقدار اللقاء، في دهشة المصادفات أو دقة المواعيد، أجهل المجاهيل، وأعصاها على القبول والفهم والتفسير، من عالمي الأرضيّ المثقل بالشك والتراب والعناء، إلى عالمكِ السماويّ المتجلّي وضوحًا وخفّة ويقين أبعث إليكِ برسائلي، نازفة حروفها المرهقة، مثقلة بالوجع، يزجيها الأسى ويؤلف بين شتات حروفها ركامُ الأشواق ووابلُ من الدمع وفرط الحنين.

يقينا أنّ الرسائل الصادقة لن تضلّ طريقها، وإنْ طال بها الدربُ تستقصي وجهتها في شغاف الذرا وقلب الآفاق.

«أواه يا أمي الرؤوم، اعذريني إن أمسكت القلم في غيابك، واعتصرت من شَجَن الكلمات حرفها العليل، لتشهر أحزاني سَوادها على بياضٍ من الورق النقي، وتخطّ حروفها الكلمى بأنامل أرهفها مرّ الوداع، اغفري يا أماه آثامي الدَنِسَة، واقبليني فلذة من كبدك أذرف دموعَ قلبي، وبها أُطَهّر ربوع الروح من وجيب الأحزان.

في نسائم الفجر، المتهادية بكسل الصباحات وخطاها الناعسة، حنين مضرّج بالفقد واحتياج محموم، معبأ بالجنون واللهفة، إلى رائحة قهوة صباحيّة، تمتزج ألوانها بألق الشمس وخيوط الزعفران، نرشفها عذوبة على وقع صوتك المعتق بعفوية العصافير، حين تُفيقين على شقشقاته الفجريّة، منتشيا بالنّدى والورد والأحلام.

في نسمة تهبّ على وريقات الشجر، حاملة معها الشغف ببساطة الحياة، حنينُ اليتامى لوجهٍ أموميّ، شردَّه الموتُ وضاعت تفاصيله الودودة تحت رهبة الأقدار.

في هذا العالم، المضنَى بالبعد، المنطفئ من وجه الأحبّة، والمُعَنّى بحرقة الغياب في ضجيج يوحش القلب ويمجّ وقعه الآذان، أحتاج لحنوّ صوتك الراحل خلف برازخ الغيب، أن ألمّ ما تبعثر منه في أرجاء الروح، أستسقي غيمته الحنون تفيض عليّ أمومة، وتملأني من شذا عطرك العابق بالمحبة والريحان.

بخفّة الفراشات، تودّعين عالمَنا المثقل بالآلام، والموبوء بامتهان الهشاشات.

يا جذلى الفراشات على عرش الزهور، رفرفي حول خضرة شالها، خبئي أفراح طفولتي خلف طيّاته المشحونة بالدفء والسلام، استوطني زنابقه المخلدة، طرّزيه بخيلائك اطبعي على طيف وجنتيها من رقّة أجنحتك مخملا باتقّاد الفرح في لونه الطفوليّ البهيج.

يا سرب اليمام في توقه للفضاء، ودّع اسمَها المتوّج بالرحيل، واكتبه هديلا سماويّ الذكرى والغياب.

يا ملائكَ النور المزدانة بالنقاء، عمِّدي روحها المسافرة بأنوارك البهيّة، وامنحيها في سَفَرها الطويل، أجنحة من ألوان النور، ومن أعالي الجنان إستبرقا وسلاما وريحان.

أيتها الأقدار، امنحيني فيضا من الرّحمَات، من قبضة يمناك المطويّة على خزائن الرحمة وفيوض الإحسان، لعلّي أتنشق من روائح الجنان العالقة بأثوابها، وأقبل أثر الفراديس من طهر القدمين، في عبورهما الأبدي إلى شطآن السماء، أو أفيء إلى مدائن الحب، وأسكنها مؤبدا بجوار قلبها الزاكي، وروحها العابقة بالخلد والياسمين.

كلما قلبت طرفي في أرجاء الكون أو رنوت على الشفق البعيد في أرجاء المغيب حاصرتني قيود الحنين، وشدّتني إلى أطياف طفولة مرتسمة على صفحته، ممزوجة بأنين الغياب. طفولتي التي كلما تَقدّم بي العمرُ موغلا في نقصانه، حاصرتْني وهي غافيةٌ على حِضنك الأموميّ الوادع الحنون.

القصائد العِذاب في سَرد الذكريات، بأي لحنٍ آسر غنّيتِها وأنت تنتشين بترديد كلماتِها، كلما تذكرتِ طفولتَك المكسورةَ بأعباءِ الحياة، المودَّعة قبل اكتمالِ أوانها تسردين ملحمتَها المفخخةَ بالجدب، والمدماة بأشواك الهضاب والجبال، في سِنيّ عمرِك الزاهرة، في حنين مشوبٍ بوجعِ وفرحِ مَن عَبرَ ضيقَ الحياة وشحّها، إلى شطّها المعشب والمورق، فرأى نفسَه وقد تقاذفتْه الحياةُ، وأذاقتْه من ألوانِها الضاربةِ في التناقضات.

في الأمسيات القرويّة المضاءة بنور قمريّ أثير، يوم سرّحتُ شعرك الجميل المنساب مثل سرود الحكايات في ليالي الشتاء الطويل، انتشيت بسماع حكايا التاريخ في عهده البدائي، قبل أن تسطع شمس النهضة على أحلامك الغافية في مرقدها آوية إلى نهايتاها في مهدها الغضّ، كطفولتك المحرومة من ألوانها الفرحة.. في حقلها المغروس بالتبعات، بدت لي كأسطورة، في خيال ذاهب بالبساطة والقسوة إلى حدّها الأقصى.

ذات يوم طفوليّ، مفعم بدهشة اللحظات الملأى بعنفوانها الفريد، سرتُ خلفك أقتفي في إثرك الحنان، أتدفأ بظلك، وأسير على هداه، ظلك الذي تزهر على ذكراه في مخيلتي حدائق النخيل، وأستسلم لنسيمها الذي خلّفتْه ذكرى استراحتنا تحت ظلّ أمّنا الشجرة الرؤوم، الشجرة التي أظلتنا ذات قيظ من ظهيرة لاهبة، هي الشجرة التي أراها أينما ذهبت، تمدّ ظلالَها بسخاء نادر غير ممنون، كل شجرة أراها لا يظللني منها سوى فيوض الذكريات، التي حلّت ضيفة أبديّة على جهات قلبي الثكلى واستقرت على سماء الروح مثل برد الغمام.

في رحيلك الأكثر إيلاما من طفولةٍ مسروقةِ الحبّ والدّمى والأحلام، أُخِذْتُ بهدأة البساتين، ولم أستطع الفكاك من ظلّها الممتد، أتحسس شيئا من أغانيك، أو طرفا من بسمة، علّها ارتسمت سهوا على زهرة فلّ، وأنت تصنعين عقدك الياسمينيّ الموشَّى بمسحة من حُسنٍ يوسُفيّ فريد، أو ربما زهرة نَبتتْ ذات حزن من دمعةٍ ذرفْتِها حنينا على أمّك في طقس استذكاريّ أليم.

لست قادرة على الإجابة عن تساؤلات قرعت باب قلبي وأشعلت في قريته الأحزان أهي ذكرياتك مبعث اللوعة وسر اشتعال الحنين بجذوة الفراق ؟ أم هي مبعث سرور خفيّ عصيّ على الإدراك ؟ أسئلة لم أعُدْ قادرة على تفنيد إجابتها، الضائعة بين زوغان العواطف وإنصاف الأقدار.

الكتاب الذي صاحبْته وأتملى من حروفه، كي أهتدي به مثل بوصلة في تيه بيدائي أو كنجم أسطوريّ يضيء عتمة ليل قريتي الحزين، الكتاب الذي علّمني ما لا يمكن أن أتتلمذه على يديّ أنبغ الأساتذة أو أعمق المتفلسفين، هو الكتاب الذي اختطّ حروفه ورسمها من أناملك، حين كانت تخيط ثوب الحياة بأيدي المتمرسين؛ ليكون لائقا بنا حين نرتديه، نتزيّا بحسن شمائله ونحن ماضون في دروب الحياة، نهتدي بنير صفحاته، المتوهجة بأسرار البسطاء، في جوهرها الأعمق من عقل فلسفي والأكثر بهجة من صوفيّ، يتّحد بروحه مع فيض الإله ومعانقا نوره في إشراقه الأزلي الفريد.

الكتاب الذي قرأناه اختلاسا في نهاراتنا الباهتة، وحين استدارتنا حول ثرثرات العمر الجميل، غمَرتْنا حروفُه حين نراك تصعدين بصلواتك وترتقين بكلّ ركعة فيها سماء، ونحن نلملم من أطراف سجّادتك بقايا الدعوات، نغتسل بنورها فيضيء القلبُ، وتزهرُ من نداها أغصانُ الجهات.

يا للسكينة! كيف لها أن تقهر أصوات الصخب وتبدد ألوان الشتات! لتستقرّ هادئةً مثل غيمة، تسكب رحمتها فتخضرّ الربى وتُعشب الآكام.

لتحلّ هادئة وادعة، مثلما حلّت روحك واستقرت في هدوئها الأبدي الأخير. هل كنت تتهيئين يومها للتماهي مع موجودات الكون؟ مع ذلك الخيط الذي يشدنا نحوه؟ الذي نخشاه ونسير باتجاهه في غفلة مقصودة هربا من فناء حتميّ؟

ما أقسى الحياة إذن! إذ تنذر أحياءها لموت محقَّق، وما ألطفها وأشدّها سذاجة! إذ تمحو باستمرار من مراياها صورته المعتمة، وهو يحدّق بعيني الواثق، ويرشق آماله بنبال اليأس الكليم.

تحسست طفولتي الضائعة، كيف غافلتْ مني الوقت، وانسلّتْ من أضلعي هكذا دفعة واحدة، أنا التي ألقيت أحزاني وأوجاعي على شالك المطعم ببلورات حُبّ يتساقط حنانُه بردا وسلاما، كلّما داهمتْ عُشّي أسرابُ الأحزان.

أماه..

هل تصلك رسائلي على أثير الغيب؟