إشراقات

صاحبه يسير باطمئنان

15 فبراير 2018
15 فبراير 2018

حمود بن عامر الصوافي -

«على الإنسان أن يسعى لتحسين العلاقة مع الله تعالى ليكون صاحب يقين، ويسير باطمئنان في هذه الحياة فلا يتخبط فيها خبط عشواء ولا يتدافع فيها مدافعة الحيران بل لتكن خطاه واثقة وواضحة فالله تعالى أراد منا أن تكون حياتنا وفق قانون الله في كل شيء».

خلق الله الإنسان لغايات سامية، وحكم جليلة عرفها الإنسان أم جهلها فإنه سيدرك لا محالة من خلال منهج الله تعالى، وما يراه أمامه ماثلا من واقع الحياة وتجاربها أن الله تعالى أراد الخير والسعادة للإنسانية جمعاء، ووعدها بالخير العميم والثواب الجزيل إن امتثلت أوامره وسارت على منهجه وصدقت برسالة النبيين.

ولو تمعن الإنسان جيدا في كتاب الله تعالى لعلم علم اليقين أن الله تعالى لم يرد لنا من تحميل الأمانات وخلافة الكون، والاستخلاف في الأرض التعب والضناء والمشقة بل أراد لنا الحياة السعيدة المستقيمة، والبذل الذي لا يعقبه إلا استقرار ورحالة بال، قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ».

ولو ترك الإنسان هملا في الحياة الدنيا دون شرائع وقوانين ودون أطر وطرق لزاغت فطرته في الأرض وأهلك الحرث والنسل وسام الناس بعضهم بعضا خسفا وتكبرا وتجبرا لذلك كان من لطف الله تعالى بنا أن أوجد لنا شريعة غراء تنظم أمور حياتنا، وتنتشلنا من الضياع والإفساد في الأرض، قال تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

لقد وجد في القرآن والإسلام عموما كل ما يسعد الإنسان في حياته الدنيا والآخرة فبين الله تعالى من خلال كتابه أن من اتبع رضوانه سعد في الدنيا والآخرة، وأن من ابتعد عن منهج الله تعالى كانت له معيشة ضنكا، قال تعالى: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى».

وقد رأينا بأم أعيننا أناسا ينشؤون بلا دين، ويخوضون معترك الحياة بلا هدف سام لم تغنهم متع الدنيا الكثيرة، ولم تسعدهم الأموال العظيمة ولا الصفقات التجارية الكبيرة بل كانت وبالا وإرهاقا عليهم لأنها لم تستغل لصالح الإنسان والبشرية ولم تكن إلا على حساب الضعفاء والفقراء لذلك بارت وخسر أصحابها الدنيا والآخرة فذلك هو الخسران المبين.

ومثل أولئك من قصد أن يجعل دينه تجارة يقبل عليه إن وجد فيه طموحه وملذاته ويخنس إن رأى ما يبعده عنه، لا ريب أنه لا منفعة ترجى له في الدنيا والآخرة فقد قصد دينا من صنع نفسه لذلك حذرنا الله تعالى من سلوك هذا المسلك والارتماء في أحضان هذه الطريقة قال تعالى:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ».

فالحياة معقدة ومتشابكة ومتباينة فيوم لك ويوم عليك، فيها أفراح وأتراح ومصائب ومسرات لذلك عليك أن تصبر إن أقبلت عليك الدنيا كالحة وأن تشكر إن أقبلت عليك وديعة طيبة فهذا دأب المؤمن في السراء والضراء لأنه يوقن أن كل أمر من أمور الدنيا لم يكن إلا في صالحه بل إنه يستثمر الخير والشر في زيادة رصيد درجاته ومنزلته في الدنيا والآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).

ومن قبل قال الله تعالى في كتابه:«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»، فالخير والشر هما محض ابتلاء نبهنا الله إليهما وحذرنا من الظنون السيئة والاعتقاد أن الخير فيه مكرمة فقط، وأن الشر فيه إهانة فقط بل هما محض ابتلاء واختبار لترى من نفسك أي طريق تسلك وكيف تتجاوز المحن والعقبات المختلفة في هذا الاختبار القسري، قال تعالى: «فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ».

فحظ المؤمن الصادق في هذا كله أنه منتبه لكل هذه الأشياء فتمثل الصبر في أعلى غاياته وذراه فنال الخير الكبير، والثواب الجزيل فلننظر إلى العبارات الرائقة الرائعة التي خرجت من شغاف قلب العبد الصالح والنبي المرسل داود عليه السلام: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ»، وقال في موضع آخر:«وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» وغيره كثير من الأنبياء والصالحين.

إن لقمة توضع في فم طفل أو يتيم أو فقير لهي أمضى من أموال تهدر في الكماليات والألعاب التي لا فائدة ترجى من ورائها لذلك أوجد الإسلام الأولويات في حياة الإنسان ونظمها على حسب الحاجة والظروف التي تعتري حال البشرية فلا يجوز أن نشبع وجيراننا جائعون أو نغض الطرف عما يحدث لجيراننا من مصائب وطامات بل المسلم أخو المسلم يصحبه دوما ويعينه في كل أمور حياته لتكون الحياة أخذا وعطاء بذلا ومساعدة فتستقيم البشرية ويأمن الناس في سربهم.

إن أولئك الذين ابتعدوا عن نهج الله وسلكوا طرقا متعرجة لم تسعفهم الحياة الدنيا بالسعادة بل ركضوا وراءها لكنهم لما وصلوا الذروة في الأمنيات كما يزعمون رأوا الأمور لم تتغير والنظرة لم تختلف فكانت الانتكاسة والانتحار. يا ترى لماذا الانتحار والهروب من الدنيا؟ كدت تضيّع عمرك لاهثا وراءها فلماذا تخليت عنها حينما أمسكت بتلابيبها؟ ألم يحن لك أن تستمتع بها؟

لقد أدرك بعد جهد جهيد أنها ليست الدنيا التي أرادها والتي ظن أنه سيتمتع بها لقد خيّبت رجاءه وعثّرت خطواته! إنه انفصام بين الجسد والروح فقد ظل طوال حياته يغذي الجسد حتى امتلأ فلم يجد مجالا يحتويه أو يسعده فسلك الطريق الأسهل الآثم ألا وهو الانتحار!

لقد أدرك العارفون أن السعادة ليست في كثرة النوم ولا في السهر والطرب لكنها في إطعام جائع أو إعانة محتاج أو صلاة في سحر تخرج الدموع تباعا، وتبث الشكوى لله تعالى خاشعا فتتنزل الرحمات وتشعر بلذة القرب من الله تعالى، قال تعالى:«تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فحري بالمؤمن أن يجمع بين مطالب الروح والجسد لا يفرط فيهما ولا يغلب جانبا على آخر فتتعثر خطواته وتذبل تحركاته بل ليكن متوازنا في الحياة فلا رهبانية تنفع ولا مادية يمكنها أن تقدم للإنسانية شيئا ذا بال، قال تعالى:«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

فعلى الإنسان أن يسعى لتحسين العلاقة مع الله تعالى ليكون صاحب يقين، ويسير باطمئنان في هذه الحياة فلا يتخبط فيها خبط عشواء ولا يتدافع فيها مدافعة الحيران بل لتكن خطاه واثقة وواضحة فالله تعالى أراد منا أن تكون حياتنا وفق قانون الله في كل شيء وفي كل أمر في الصلاة وفي الذبح والأكل والشرب والنوم «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».

فحينما تسير وفق إرادة الله تستقي القوة من الله ومن أعظم عزة وقوة من الله تعالى؟ قال تعالى: «منْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

لذلك إن كنت مع الله تعالى وفي رعايته فلن تيأس في حياتك ولن ينتابك شعور بالأسى مما يعترضك فيها، مهما كانت ظروفك وتباينت أحوالك واختلفت طباعك فما عليك إلا أن تجدد العلاقة مع الله تعالى وتحسّن حياتك مع الله تعالى وتسير وفق سنن الله تعالى.

فالله تعالى لم يفرط في شيء، ولم يهمل أمرا من أمور الدين، بل وضّح وبين وأوجد السبل للوصول إلى المعرفة والمعلومة وأوجب البذل والاجتهاد للوصول إلى اليقين والاطمئنان التام ، قال تعالى:«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» فالهداية واليقين يحتاجان إلى بذل وجهد وإخلاص لله تعالى وحده فلتشمر منذ الآن عن سواعد الجد لتصل إلى اليقين وجنة عرضها السماوات والأرض.