abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش.. ومتون : رحيل واحد من الجمهور!!

10 فبراير 2018
10 فبراير 2018

عبد الرزاق الربيعي -

وأنا أنظر للجمهور الذي حضر أمسية «من الذاكرة» التي استحضرنا خلالها مناقب الراحل د. شبّر الموسوي، وجهوده في النقد، والبحث، والثقافة، جالت عيني بين وجوه الحاضرين الذين اجتمعوا على محبّته، فجمدت عيناي على مقعد، ظلّ شاغرا طوال الأمسية، ليس لأنّه كان الكرسي الشاغر الوحيد في القاعة، بل لأنّ هذا المقعد بالذات كان يشغله رجل واظب على حضور الفعاليات الثقافية التي تقام بالسلطنة بحرص شديد، منذ اختياره مسقط محلّا للإقامة قبل سنوات، ولم يتخلّف عن الحضور، لأنّ معه ارتباطا آخر، ولا لأنه غير حريص على حضور هذه الأمسية، بل لأنّ الغياب طواه بثوبه الأبيض الفضفاض، أتحدّث عن الباحث والدبلوماسي السابق الراحل عبد الحسين الرفيعي الذي داهمه الموت قبل موعد الأمسية بثلاثة أيّام، إثر سكتة قلبيّة، أودت بحياته، وجعلت المكان الذي اعتاد الجلوس به في فعاليات النادي الثقافي فارغا!

ورغم أنّ الراحل الذي عمل سفيرا للعراق في موريتانيا، واليمن، وبلغاريا، وغينيا، كان باحثا حاصلا على شهادة الماجستير، في التاريخ، واختار (دور النخبة القانونية الفكري والسياسي في العراق)، موضوعا لرسالته التي نشرها في كتاب، وله كتاب آخر عن مدينة النجف، التي ولد، ونشأ فيها، وآخر عن تجربته الدبلوماسية، وآخر كتبه المنشورة كان (في الطريق إلى الحقيقة)، ويتمتّع بعلاقات واسعة مع العديد من الأدباء العرب بحكم عمله الدبلوماسي، ونشاطه بالمجال الثقافي إلّا أنّني لم أره قطّ متحدّثا على المنصّة!، فقد كان مستمتعا باستماعه لما يدور عليها، من مقعده القابع في الصفوف الخلفيّة، حتى لو كان العدد قليلا، وفي بعض الحالات يطُلب من الحضور شغل المقاعد الأماميّة الفارغة لأغراض إعلاميّة ستكون أكثر وضوحا بعد نشر تغطيات في الصحف المحليّة في الكثير من الأحيان تكون مرفقة بصورة للمنصّة، وأخرى للجمهور، لكنّه كان يعتذر!

ورغم جلوسه بين الجمهور، بصحبة عصاه الغليظة التي يتكئ عليها، ويهش بها على سني حياته، إلّا أنّه كان في نهاية كلّ أمسية، عندما يفتح باب النقاش يحرص على أن يدلي بدلوه، ويعطي ملاحظاته، بصوت غليظ، لا يخلو من الانفعال في كثير من الأحيان، فكان، كما يبدو لي، مثل تلميذ نجيب يمطر أستاذه بالأسئلة بعد نهاية كل درس، ولا يختمها إلا بعد سماع رنين الجرس معلنا نهاية الحصّة!

كثيرون لا يقبلون أداء دور الجمهور، وهؤلاء مهووسون بالمنصات في كلّ الأحوال، سواء كانت لديهم إضافة، أم لا، ولهذا لن تشاهدهم إلّا في الفعاليّات، والأنشطة التي يشاركون فيها، أو يشارك بها المقرّبون منهم، بحيث يضمنون لهم وقفة، ولو صغيرة يفرشون خلالها ريشهم على مرأى من الحضور من فوق المنصّة! ولا أتّذكر الفكرة التي قرأتها، وبها ضرب صاحبها مثلا بملاعب كرة القدم التي يرتادها الآلاف من الجمهور، لمشاهدة 23 شخصا فقط على المستطيل الأخضر من بينهم حكم المباراة، وخارج الخطوط يقف مراقبو الخطوط مع راياتهم الصغيرة، والجميع مستمتع بمكانه، والهدف الذي جاء إلى الملعب من أجله، والذين أمام الجمهور قلّة دائما، بينما يشكّل المتابعون الكثرة، وقد اختار الرفيعي أن يكون من الكثرة، رغم تجربته الطويلة في العمل الدبلوماسي، وقبل ذلك عمل معلّما، ثم شغل موقع مدير عام مصلحة نقل الركاب، ثم رئيساً لبلدية النجف، فكان يحضر جميع الفعاليّات حتّى التي يتقاطع مبدئيّا مع أصحابها، وعندما يفتح باب النقاش، يعلن عن آرائه، بكلّ جرأة، من مقعده، وغالبا ما يرفض استخدام (المايكروفون)، ثم ينهض ليغادر مبنى النادي الثقافي بخطى أثقلتها السنون، وكرّ الجديدين(الليل والنهار)، وسنوات الغربة، وغالبا ما يوصله لمحل سكنه المهندس الشاعر سعيد الصقلاوي، أو الشاعر سماء عيسى.

كان رحمه الله قارئا نهما، وينتظر معرض مسقط الدولي بشغف، ويقتني الكثير من الكتب، ويمضي أوقاته متنقّلا بين أجنحته، يتحدّث مع أصدقائه من الناشرين العرب، ويبقى على هذا الحال منذ افتتاح أبوابه للجمهور، ولغاية إغلاقها في اليوم الأخير.

في تلك الأمسية تذكّرته، وافتقدت غيابه، وتمنّيت على إدارة النادي أن تضع باقة زهور على مقعده، الذي سيظلّ فارغا، حتّى يأتي شخص آخر مواظب على حضور الفعاليات، والجلوس في المقاعد الخلفيّة في القاعة مستمتعا بكونه واحدا من الجمهور.