أفكار وآراء

أمريكا .... بين السياسة والعسكرة إلى أين؟

09 فبراير 2018
09 فبراير 2018

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

عبر أي طريق تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تأكيد حضورها ووجودها بل تزعمها للعالم... السياسة أم العسكرة؟

علامة استفهام فرضتها أكثر من رؤية أمريكية مؤخراً في مقدمتها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي أعلن خطوطها العريضة الرئيس ترامب، وتالياً رؤيته التي ضمنها خطاب «حالة الاتحاد» قبل بضعة أيام، وما بينهما يكاد المرء يوقن بان واشنطن طرحت أدوات وآليات السياسة وراء ظهرها، وباتت تعيش واقعاً مغايراً يتصل بعسكرة العالم شرقاً وغرباً... هل نحن إزاء ازدواجية ما في توجهات الرئيس ترامب؟ وإذا كان ذلك كذلك فمن المسؤول عن ترتيب الأولويات في الداخل الأمريكي السياسيين أم الجنرالات؟

باختصار غير مخل ومن خلال المتابعة الحثيثة لتصريحات ترامب خلال فترة الحملة الانتخابية كان الرجل يميل وبشكل كبير إلى تفضيل الثورة الأيديولوجية ذات الأدوات والميكانيزمات السياسية، وفي مقدمها التصالح مع روسيا، غير أنه وبعد عام من رئاسته يبدو وكأن الكلمة الكبرى والمسموعة اليوم في الداخل الأمريكي عامة، وليس في البيت الأبيض فقط هي كلمة الجنرالات، ما يعني ان العسكرة بات لها اليد العليا في مواجهة السياسيين، وبمعنى آخر أن العقيدة العسكرية الأمريكية قد أضحت في الصف الأول قبل أي نظريات سياسية يمكن لرجالات الخارجية أن يفعلوها على الأرض. الذين قدر لهم الاطلاع على رقم الموازنة السنوية للدفاع الأمريكي أي للقوات المسلحة سوف يصيبهم الهلع من الرقم، أنه 700 مليار دولار، هذا بالطبع غير تكلفة البرامج السرية التي لا يعلن عنها ، وإذا علمنا أن ترامب قد رصد مبلغا قدره 1.5 تريليون دولار لتجديد الأسلحة النووية الأمريكية خلال فترة خمسة عشر عاماً، نخلص إلى أن العسكرة طريق أمريكا للقرن الحادي والعشرين، وليس السياسة أو النموذج الأمثل الذي قدمته قبل عدة قرون، عندما أعتبرها العالم مدينة فوق جبل تضيء للناس ديمقراطية وحرية، وإخاء ومساواة، وحقوق إنسان وعدالة إنسانية.

في هذا الإطار نجد أنفسنا إزاء تساؤل جوهري: هل تكفي الموارد الاقتصادية فقط لنشوء وارتقاء جيوش عملاقة تكون الأداة العسكرية الخلاقة للامبراطورية الأمريكية في القرن الحادي العشرين؟

قبل نحو مائتي عام تقريباً قال نابليون بونابرت إن «الجيوش تمشى على بطونها» بمعنى أنها في حاجة ماسة إلى الموارد الاقتصادية التي تكفل لها الانتشار والتمدد حول العالم. لكن على الرغم من أن هذا القول قد يبدو صحيحاً من الناحية الغذائية أو اللوجستية، فإن القوات المسلحة تحتاج إلى ما هو أكثر من القوت لكي تبدأ وتواصل عملياتها. هذه القوات لابد لها من قوام فكري أكثر أهمية، لكي تستطيع أن تبدأ عملياتها الهجومية، وأن تعززها وتنهيها، هذا الأساس الفكري يطلق عليه البروفيسور الأمريكي «بيرت تشايمان» تعبير «العقيدة العسكرية» أي الأساس الفكري الذي يخاطب العقل، وليس الوجدان أو الجسد، وأحد تقديرات العقيدة العسكرية يصفها بتركيز القدرات العسكرية الاستراتيجية على تحديد الأهداف الاستراتيجية والنتائج النهائية المطلوب الوصول إليها، مع وضع تفاصيل العمل العسكري المطلوب، وتخصيص الموارد، والالتزام في ذلك بتوجيهات القادة السياسيين.

والشاهد أن أهم وثائق استراتيجية الأمن القومي الأمريكي وأكثرها جدارة، هي تلك التي تصدر عن البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي بالتعاون مع المؤسسات العسكرية والحكومية الأخرى... هل كانت استراتيجية الرئيس ترامب الأخيرة والتي لم يكشف بعد عن تفاصيلها بشكل كامل هي الوثيقة الأولى من نوعها؟

بالقطع لا، فقد كانت هناك واحدة غاية في الأهمية أصدرتها إدارة «رونالد ريجان» في يناير 1987 بعنوان «إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» التي سعت إلى وضع مخطط «للحرية والسلام والرخاء»، باعتبارها حصون سياسة الأمن القومي الأمريكي، وقد تضمنت هذه الاستراتيجية الالتزام بحرية وسلام ورخاء العالم، والمساعدة الفعالة لكل من يناضلون من أجل الحرية وتقرير المصير، والوصول إلى مستويات معيشية معقولة، والاستعداد للتعامل بواقعية مع الاتحاد السوفيتي، والتفرقة الأخلاقية العامة بين الديمقراطية والشمولية، والالتزام بالسعي لإيجاد طرق بناء للعمل مع القادة السوفييت لمنع الحرب وجعل العالم مكاناً أكثر أمناً وسلاماً.

من السطور السابقة لوثيقة ريجان ندرك أننا أمام رئيس له دالة على العمل السياسي وخبرة في مجال العمل العام، فيما الأهم انه كان محاطا بمستشارين من نوعية جيمس بيكر وزيجينو بريجنسكي وجورج شولتز والكسندر هيج، وكلهم قامات سامقات ، وتمتع جميعهم بالإدراك السياسي الكافي الذي جعل الحرية والسلام والرخاء منظومة متكاملة، رغم أنه في ذلك الوقت كان الصراع السياسي والعسكري محتدماً مع الكتلة الشرقية وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق . تكررت رؤية العالم لوثائق «العقيدة العسكرية» مرة ثانية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما تبعها من حروب في أفغانستان والعراق، فأصدرت إدارة بوش الابن وثيقتين مهمتين عام 2002 أكدت فيهما على نحو خاص، مكافحة الإرهاب كاهتمام رئيس لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي.

ومقارنة بغيرها من الوثائق الرئاسية الحديثة الخاصة بالأمن القومي، يغلب التفكير التقليدي على هذه الوثيقة التي تؤكد الطموحات الشديدة للحفاظ على الكرامة الإنسانية وتقوية التحالفات لقهر الإرهاب العالمي، والعمل على منع الهجمات على الولايات المتحدة وحلفاءها، كما تعبر الوثيقة عن ضرورة العمل مع الآخرين لنزع فتيل الصراعات الإقليمية، ومنع الأعداء من تهديد الولايات المتحدة وحلفائها بأسلحة الدمار الشامل، وتنمية الاقتصاد العالمي من خلال السوق الحرة والتجارة المفتوحة، وتنمية الانفتاح السياسي للمجتمعات بوضع البنى الأساسية للديمقراطية.

أسفرت استراتيجية بوش الابن عن حروب وصراع لا تزال أمريكا تعاني من تبعاتها حتى الساعة، ويبدو أنها غير قادرة على الخلاص من مستنقعاتها كما الحال في أفغانستان.

عطفاً على ذلك فقد تسببت الرؤية السياسية لإدارة بوش الابن في اضطرابات وعواصف سياسية قاتلة للشرق الأوسط على نحو خاص، فيما الكارثة لا الحادثة تمثلت في انه أعطى فرصة غير مسبوقة للجماعات الأصولية والراديكالية للنمو والتمدد من جديد شرق أوسطيا وعالمياً.

يعن لنا هنا أن نتساءل لماذا باتت العسكرة هي عقيدة أمريكا في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟

الجواب نجده عند «لاشلي ينليس» الخبير في شؤون جنوب آسيا عبر ورقة بحثية له عنوانها «تحول القوى... كيف يستطيع الغرب التكيف والازدهار في قرن تبدو ملامحة آسيوية؟ واختصاره في كلمات قلائل «التفوق العسكري»، أي انه إذا أرادت واشنطن مواجهة ومجابهة بكين وموسكو وغيرهم فان عليها الاهتمام بتجديد قوتها العسكرية، وقد يبدو مثل هذا المطلب غريباً لأول وهلة، بالنظر إلى أن الجيش الأمريكي يبدو متقدما على جميع الجيوش الأخرى بكل المقاييس حتى الآن.

الشاهد أنه وعلى الرغم من ذلك، فإنه بالنظرة القريبة سنجد أن القوة العسكرية الأمريكية تتعثر بسبب ما تواجهه من تحديات خطيرة، بما في ذلك القيود المفروضة على الميزانية، وزيادة تكلفة الأسلحة، وارتفاع تكاليف الموظفين والمشتريات وميزانيات البحث والتطوير، والتي يمكن أن تقوض البيئة الأمنية الراهنة التي تحافظ على العولمة فيما لو تركت دون علاج. من هنا يمكن للمرء أن يفك شفرات العقيدة العسكرية الأمريكية وراء الاستراتيجية الأخيرة التي أعلنها ترامب، عبر سلسلة من الحلقات تبدأ من وثيقة المحافظين الجدد في نهاية التسعينات، وتصل بنا إلى الاختيار المفاجئ من الأمريكيين لترامب رئيساً لأمريكا ، وإغلاق صفحة هيلاري كلينتون، وصولاً للانقلاب على الثورة الايديولوجية التي دخل بها ترامب البيت الأبيض وفي المقدمة منها التصالح والتسامح مع روسيا، إلا أن صناع العقيدة العسكرية الأمريكية استطاعوا دفع ترامب للتراجع عنها حفاظاً على المكتسبات الواقعية للامبراطورية الأمريكية.

جاءت الاستراتيجية الأخيرة من منطلق أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، سيما وأن أفضل دراسات التوازن العسكري الإقليمي في آسيا – الباسفيك، تفترض في الواقع تآكل التفوق الأمريكي العسكري، وبصفة خاصة انخفاض القدرة على حماية حلفائها الآسيويين في مواجهة القوة المتنامية للصين. ولعل الباحثين في أحوال ومالات العقيدة العسكرية يدركون أن القوات المسلحة الأمريكية طورت وأصدرت كمية هائلة من الأدبيات التي تحلل وتشرح وتبرر أسباب العمليات العسكرية التي قامت بها في الماضي، وكيف تقوم بها الآن، وكيف تخطط لعملياتها في المستقبل.

هل انتهى الجدل في الداخل الأمريكي بين المراهنين على السياسة وآلياتها ومساربها وبين المنادين بالقوة الخشنة كطريق لحماية مستقبل الامبراطورية التي وصفها المؤرخ بول كيندي بانها منفلتة؟

أغلب الظن انه لم ينته ولن ينتهى في القريب وخير دليل على ذلك رد الديمقراطيين على خطاب «حالة الاتحاد» الذي ألقاه ترامب في الكونجرس مؤخراً إذ اعتبروا أن ترامب يمضي بعيداً عن روح أمريكا الديمقراطية إلى آفاق تجعل نهار الأمريكيين قلقا وليلهم أرقا، وهي الكلمات التي عبر بها جون روبرت كيندي في الرد التقليدي الذي يحدث كل عام داخل أروقة الكونجرس الأمريكي.

في العقد الماضي كانت التوجهات العسكرية الأمريكية مركزة على الشرق الأوسط، ميدان الصراع، ولذلك تناول كثير من المعنيين والمتخصصين تحليل العمليات الدائرة والمستقبلية في كل من أفغانستان والعراق، ذلك الجدل غطى وقتها العمليات المحتملة التي قد تتضمن الصراع في الفضاء، والقتال ضد جماعات وتنظيمات إرهابية وقراصنة البحر العابرين للحدود.

أما الآن وفي هذا العقد فان كافة التحليلات والتوجهات للعقيدة العسكرية الأمريكية غالباً ما تدور في أفقين أساسيين، عطفاً على قنوات فرعية :

الأفق الأول يتصل بروسيا تلك الامبراطورية العائدة إلى الفضاء الكوني لتحلق بجناحي نسر جدد للتو شبابه، عبر بنية إنسانية وسبيكة اجتماعية روسية قوية، عطفاً على أنواع حديثة من الأسلحة المتقدمة النووية والتقليدية، ما يجعل المواجهة والتصدي له أمر كارثي لا محالة.

فيما الأفق الثاني يتصل بالتنين الصيني الماضي رويداً رويداً عسكرياً، لكنه يكاد يهيمن على مقدرات الكون ماليا واقتصادياً وربما خلال بضعة سنوات لن يطول انتظارها ستكون الصين هي اللاعب التجاري الأول حول العالم، وتخلف وراءها أمريكا إلى المركز الثالث بعد الهند.

من هنا تبدو الحاجة في عيون الأمريكيين إلى العسكرة أكثر أهمية من أدبيات السياسة المعاصرة أو الكلاسيكية.

يبدو أن احدهم أخبر ترامب أن أرسطو رجل له ماض فلسفي أخلاقي جميل، إلا أن ميكيافللي له مستقبل سياسي أكيد، والراوي يؤكد أن ترامب ومن وراءه من رجالات المجمع الصناعي العسكري قد عقدوا عزمهم على السير وراء ميكيافللي ..