أفكار وآراء

واشنطن وبكين ... صراع من نوع جديد

02 فبراير 2018
02 فبراير 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ما الذي يجري بين بكين وموسكو وواشنطن في الأيام والأسابيع بل والأشهر الأخيرة من العام الفائت؟ حكماً إننا أمام حالة من حالات الصراع غير المسبوق والتي تعيد التذكير بالحرب الباردة ، غير أن هناك أدوات جديدة للصراع بخلاف المواجهات المسلحة وعسكرة المشهد الدولي؟

ربما يمكننا القول إن المواجهات بين واشنطن وموسكو تحتمل الحديث عن مجابهات عسكرية مسلحة فالدولتان كبريان بالفعل، ولديها من الرؤوس النووية ما يكفي لتهديد سلام العالم وأمنه وأمانه ، بل وإن شئنا الدقة فلنقل فناءه أكثر من مرة.

لكن الحديث عن الصدام بين واشنطن وبكين بالقطع يمضي في طريق مغاير، فالفارق شاسع بين حدود القوة المسلحة الأمريكية ، وبين نظيرتها الصينية، ومع ذلك فإنه وإن كانت الصين لا تهدد الولايات المتحدة الأمريكية عبر «الردع النووي» ، إلا انها في كل الأحوال تهددها بـ «الردع النقدي» ، عبر استخدامها للمال والاقتصاد كسلاح في الصراع الدائر بينهما ، ودون أدنى تفكير في المواجهات العسكرية المسلحة.

ما الذي يستدعي هذا التساؤل والبحث في شكل الصراع الجديد بين القطبين القادم والقائم أي بين واشنطن وبكين في قادم الأيام؟

لعل المتابع للصحافة الروسية بنوع خاص في الشهر الماضي يرصد كيف أن الروس مهتمون إلى درجة بعيدة بالصراع بين واشنطن وبكين، وهو أمر يفهم في إطار التحالفات والتضادات المتغيرة والمتبدلة ، من ناحية واشنطن ، ففي سبعينات القرن الماضي عمدت الولايات المتحدة وفي عهد نيكسون تحديداً إلى استمالة الجانب الصيني في مواجهة الاتحاد السوفييتي ، وفي الأوقات الراهنة يبدو أن الأمريكيين ، وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب ، يرون أن الصين منافس قوي قادم ، ولهذا ربما يتطلعون إلى توثيق علاقاتهم بالروس، ذلك المشروع الأيديولوجي الذي مضى به ترامب إلى البيت الأبيض، قبل أن لا يقدر له المضي قدماً، وهذا حديث آخر.

قبل انقضاء شهر يناير الماضي ، كان الحديث عن هيمنة الصين على التجارة العالمية ، أو على الأقل مخاوف واشنطن من حدوث ذلك ، وقد رأى الأمريكيون أن قبول الصين في منظمة التجارة العالمية كان قرارا خاطئا من جانب واشنطن .

يحق لنا أن نتساءل ... «هل الهيمنة الاقتصادية الصينية القادمة باتت تزعج الأمريكيين بنفس الدرجة التي تزعجهم فيها الأسلحة النووية والتقليدية والجيوش المتقدمة وخطط المعارك والحروب»؟

خذ إليك ما قاله مستشار أمريكا للأمن القومي الراحل «زيجينو بريجنسكي» من أن تأثير أي دولة عظمى في العالم يرتبط بعدة عوامل للقوة وهي بالترتيب .. القوة الاقتصادية ، قوة التماسك الاجتماعي ، قوة التلاقي على هدف قومي محدد، القوة المسلحة وإمكاناتها ، ... لماذا يضع بريجنسكي القوة الاقتصادية هكذا لتتسنم البقية ؟

باختصار غير مخل لأن القوة الاقتصادية هي التي تخلق واقعاً عسكرياً قوياً قادراً على الامتداد، ولاحقاً الحفاظ على هذا الواقع لتحول الدولة إلى قوة مؤثرة ذات حضور خارج إطاراتها الجغرافية.

في التقرير السنوي المرفوع من قبل مكتب التمثيل التجاري في واشنطن إلى الكونجرس نقرأ ما يلي : «من الواضح أن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ في دعم انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية بشروط لم تثبت فعالياتها في ضمان وجود نظام تجاري مفتوح موجه نحو السوق في جمهورية الصين الشعبية ... فالآن ، من الواضح تماماً أن قواعد منظمة التجارة العالمية ليست كافية للحد من سلوك الصين الذي يتنافى مع مبادئ التجارة الحرة». هل سنرى ملامح للحرب التجارية والمالية بين واشنطن وبكين؟

في الحديث هنا امتزاج واضح ما بين السياسة والاقتصاد ، ومعروف أنه في الأيام والأسابيع الماضية تحدث الصينيون عن نيتهم عدم الاستثمار من جديد في أذون الخزانة الأمريكية ، الأمر الذي سبب ارتباكاً كبيراً في الأسواق المالية الأمريكية ، سيما وأن الصين تستثمر نحو ثلاثة تريليونات دولار في تلك الأذونات. ولعله من المؤكد جداً في فترة ولاية الرئيس دونالد ترامب أن تمضي المواجهة بين النسر الأمريكي وبين التنين الصيني إلى مجال أبعد ، فمنذ زمن الانتخابات الرئاسية ونحن نستمع إلى تهديدات ترامب للصين، واعتبارها شريكا غير مفيد للولايات المتحدة ، قد ترقى إلى مستوى العدو الاقتصادي على أقل تقدير.

في هذا السياق كان من الطبيعي أن يبادر الرئيس ترامب للاتصال برئيس جمهورية الصين الشعبية «شي جي بينغ» ، أعرب فيه عن خيبة أمله إزاء نمو العجز التجاري مع الصين. لم يكتف ترامب بهذا فقط ، بل انه تحدث عن رفع الرسوم الجمركية بنسبة 45% على الواردات الصينية ، كما فكر في إعلان الصين محتكراً مالياً، مع ما يترتب على مثل ذلك الإعلان من تبعات ومثالب بين البلدين.

هل تقوم الصين بالفعل بمحاولات إغراق للسوق الأمريكية؟

يقوم الأمريكيون الآن على تحقيق بشأن إغراق الصينيين لأسواقهم بمستوردات الألمنيوم الصيني، فضلاً عن التحقيق في استيراد الصلب. وفي الإطار نفسه كانت واشنطن تتهم الصين بسرقة حقوق الملكية الفكرية.

الرد الصيني جاء سريعا، إذ أفادت وكالة بلومبيرج الأمريكية بأن الصين قد تخطط لإبطاء عمليات شراء سندات الحكومة الأمريكية ، وكأني ببكين تبعث برسالة إلى الأمريكيين مفادها أنه حال التضييق علينا اقتصادياً فإن لدينا أوراقاً يمكن أن نستخدمها ضدكم في المفاوضات المستقبلية مع الولايات المتحدة حول التجارة ... ما الذي يمكن للصين أن تفعله بسنداتها في الخزانة الأمريكية؟

باختصار غير مخل يمكنهم إلقاء حزمة كبيرة منها في السوق الدولي ، ما سيؤدي إلى هبوط سعرها بشكل كبير.

أسئلة كثيرة تطرح نفسها بنفسها وسط آتون الحرب المشتعلة بين واشنطن وبكين ولا سيما بالنسبة للصناعات المستقبلية وكذا الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا، والمعروف أن الروس قد أعادوا العام الماضي نحو 1.4 تريليون دولار من استثماراتهم في الخارج ليعاد تدويرها في الداخل الروسي وتحسباً لكل الظروف السياسية والاقتصادية ، والسؤال هل يمكن أن تعود صناعات بعينها إلى الداخل الأمريكي بنفس السيناريو الروسي؟

يرى المحلل الاقتصادي «أرتيوم دييف» من وكالة «أماركيتس» : «إنه من غير المرجح أن تعيد أبل صناعة منتجاتها من الصين إلى الولايات المتحدة، حيث أنها أكثر تكلفة بكثير لإنتاج التكنولوجيا فلا أحد في الولايات المتحدة يريد أن يعمل مقابل 200 – 300 دولار في الشهر، ولذلك فليس هناك حديث بعد عن عودة الإنتاج المادي ، ومن غير المرجح أن يهز الإصلاح الضريبي الأمريكي وضع الصين كمصنع عالمي ... إن عودة الإنتاج إلى الولايات المتحدة من شأنه أن يزيد من تكلفة منتجات أبل بنسبة 30 – 35 % ، ما سيكون له تأثير سلبي جداً على المبيعات ... هل تتوقف المنافسة الصينية للولايات المتحدة الأمريكية على الفضاءات الآسيوية فحسب أم أن هناك مجالات جغرافية وديموغرافية أشد خطورة تمضي إليها؟

من الواضح أن الصينيين يتعاطون مع الأمريكيين بنفس الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية التي برع فيها الأمريكيون ، ذلك أنه إن كانت واشنطن تذهب إلى بحر الصين الجنوبي ، فإن بكين بدورها باتت تلعب دوراً مقلقاً لأمريكا الشمالية في الخلفية الجغرافية التاريخية الخاصة بها ، أي في أمريكا اللاتينية ... فما الذي يحدث هناك على وجه التحديد ؟

ينبغي قبل الجواب الإشارة إلى أن كثيرا من دول أمريكا اللاتينية وفي مقدمتها فنزويلا «تتطلع إلى تحالفات سياسية بعيدة عن السيطرة الأمريكية التقليدية، وهناك من يتعمد تقوية وشائج علاقاته مع الروس، وآخرون مع الصين».

والشاهد أن الصين تقوم وفي العقدين الأخيرين ببناء «رؤوس جسور» اقتصادية وتوسعها بمساعدة مليارات كثيرة من الاستثمارات .... وبكين تستخدم بنجاح ونشاط في أمريكا اللاتينية سلاحاً آخر هو التعاون في برامج الفضاء، وكان آخر مظهر لهذا التعاون إطلاق الصين للقمر الصناعي الثالث لفنزويلا في نوفمبر الماضي، كما أن الصين والبرازيل تتعاونان في برامج الفضاء وفي إطار برنامج «بريكس» للفضاء ، ففي يوليو الماضي تم توقيع اتفاقية لتنظيم هذه المجموعة الساتلية غير الرسمية.

لا يتوقف دعم الصين عند فنزويلا وحدها ، بل ان بكين تساعد أيضاً ، بوليفيا، ونيكاراغوا ، في برامج الفضاء ، فإضافة إلى تطوير وبناء وإطلاق الأقمار الصناعية ، تعد الصين الكوادر التقنية اللازمة لبلدان أمريكا اللاتينية.

وبمساعدة الصين ، تطور بلدان أمريكا اللاتينية برامجها الفضائية الخاصة، فالأرجنتين على سبيل المثال، أطلقت قمرين صناعيين بقدراتها الذاتية، ودون مساعدة خارجية في الأعوام الأخيرة. وتأمل البرازيل في إطلاق أقمار بواسطة صواريخها الخاصة في نهاية العقد الجاري، كما أن كوستاريكا والإكوادور والبيرو والأوروغواى، لديها برامج فضاء خاصة بها .. ما الذي يعنيه هذا التعاون؟

بدون شك أنه يعزز من الروابط الاقتصادية الصينية مع دول أمريكا اللاتينية، ويقوم بعملية إزاحة لواشنطن من مكانها الطبيعي الذي حافظت عليه طوال عقود طوال ، ويطرد خارجاً كافة الشركات الأمريكية الكبرى، عطفاً على الوكالات العملاقة مثل وكالة ناسا ما يعني أن واشنطن تتعرض لحالة تآكل في حضورها الأدبي والسياسي ، عطفاً على اقتطاع الصينيين جزءاً وافراً من الأنصبة الاقتصادية التي حازتها واشنطن من قبل .

وفي كل الأحوال لا يمكن فصل المشهد الاقتصادي عن المحاولات المستمرة من الجانبين لاختراق الآخر استخباراتياً مع التركيز على الجانب الاقتصادي بنوع خاص ، ففي منتصف الشهر الماضي، تم في مطار نيويورك اعتقال الرجل الذي كان يعيش في مدينة «هونج كونج» تحت اسم «جيري تشون لي» ، وفي اليوم التالي ظهرت على موقع وزارة العدل الأمريكية معلومات تفيد بأنه متهم بـ «تخزين غير قانوني لمعلومات ذات صلة بالدفاع الوطني».

ويشتبه في أن «جينغ لي» نقل إلى جهاز المخابرات الصينية أحد أسرار وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية الأكثر حماية ، وهو أسماء العملاء الأمريكيين في الصين.

ففي الأعوام 2010 – 2012 تعرضت شبكة التجسس الأمريكية في الصين لأضرار بالغة الخطورة ، ووفقاً للنيويورك تايمز ، فقد قتل في تلك الفترة نحو 20 مخبراً أمريكياً أو فقدوا على الأراضى الصينية، وإذا تبين أن «تشين» هو المتهم المطلوب فإن ذلك سيشكل بداية أكبر فضيحة استخباراتية بين الولايات المتحدة والصين في العقود الأخيرة.

أما ما هو أكثر إثارة بالفعل ، فقد كشفته محطة سي ان ان الإخبارية الأمريكية مؤخرا ، حين أشارت إلى أن المباحث الاتحادية الأمريكية قد حذرت «جاريد كوشين» صهر ترامب من محاولة «ويندي دينغ مردوخ» ، طليقة ملك الإعلام روبرت مردوخ ، التقرب إليه وإلى زوجته إيفانكا ترامب، بهدف دعم مصالح حكومية صينية ...إلى هذا الحد يحاول الصينيون اختراق أمريكا؟

ربما يكون الأمر بنفس درجة محاولات الأمريكيين اختراق الصين في شكل جديد من أشكال الصراع حول العالم.