أفكار وآراء

لا معجزات في مجال النهوض الاقتصادي

31 يناير 2018
31 يناير 2018

مصباح قطب -

أصبح من الشائع في العقد الأخير البحث عن عوامل الفشل الاقتصادي في حياة الدول كمدخل لمعرفة أسباب النجاح ، وتلك فكرة مفهومة ، فكثيرا ما يحدث منا نحن الصحفيين - مثلا - أن نسأل أولا عن الخاسرين من أي إجراء حكومي أو قرار جديد أو توجه قبل ان نعرف الرابحين وربما لكي نعرف الرابحين بشكل أدق ، أو أن نسأل عن أسباب الخسارة قبل أسباب الكسب ولنفس السبب، وقد تم تتويج اتجاه البحث عن أسباب التقدم المضمرة في أسباب التخلف والنكوص عالميا بصدور كتاب « لماذا تفشل الأمم؟ للمؤلفين « دارن اسيموجلو» و«جيمس روبنسون» ، وقد ظل حديث العامة والخاصة منذ صدوره ، خاصة وأنه نهج في التقصي التاريخي لأسباب التقدم ،كان مفيدا ومثيرا وجديدا في آن واحد . وقد رأيت بعيني أن كل من كان يتحدث عن هذا الكتاب في جلسات عامة يقول اسمه ثم يواصل: أو بمعنى آخر «كيف تنجح» ؟ .

لكن كان قد سبق تلك الموجة أحاديث كثيرة عن أسباب تقدم الأمم أو نجاحها وبشكل مباشر أي دون التفاف أو التحاف بأسباب الفشل كمدخل بحث، واهتم العالم بشكل خاص ببحث أسباب التقدم في آسيا لأنها بدت غير متوقعة أو غريبة أو خالفت ما كان متصورا . ولقد أسهم في التعريف بدروس النجاح الآسيوية كل من مهاتير محمد - ماليزيا - ، ولي كوان يو - سنغافورة - ، و «كيشور محبوباني» ، عن تجارب الصين واليابان وكوريا ، والثلاثة عاشوا في المطبخ واقتربوا من صنع القرار أو كانوا من صناعة فعلا ، وللثلاثة أيضا فلسفة فيها بصمات فكرية خاصة ومتفردة ، وهم لم يكونوا ناقلين أو مجرد منفذين جيدين ولكن قادة للتغيير بأعمق معاني الكلمة : التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتحديثي .

بالطبع كان هناك اتفاق في كل الكتابات تقريبا على نقاط بعينها، على رأسها أهمية انفاذ القانون وسهولة التقاضي والتعليم وحرية المنافسة ودعم الابتكار والكفاءة والبنية التحتية الجيدة الخ ، لكن كسمات فردية  فإن «لي كو» أكد أهمية هيبة القانون والتعليم والعناية بالتفاصيل الشخصية للمواطنين بما في ذلك أين يبصقون ؟ ومهاتير ركز على التعليم والتقنية وثقافة العمل والمساءلة ، ومحبوباني شدد على التكامل الإقليمي والابتكار والبراجماتية او النزعة العملية المرنة الى جانب عومل أخرى بالطبع ، وقد ادهش محبوباني العالم حين ذكر في كتابه «نصف العالم الآسيوي الجديد» ان آسيا نجحت باستعارة القيم الغربية وليس بالقيم الآسيوية الأبوية كما يقال .

روشتة الفشل وكيفية تفاديه ، او النجاح واسبابه ، معروضة اذا على عرض الطريق ولم تعد سرا أو كيمياء ، بل ان احد السياسيين الكوريين غضب بشدة حين تم وصف تجربة بلاده بالمعجزة ، إذا قال ان ذلك يعني ان عاملا خارجيا أو غامضا أو فوقيا هو الذي صنع النهضة، بينما الواقع يقول أنها نتاج رؤية و إرادة ووعى . الدكتور محمود محيي الدين - نائب رئيس البنك الدولي- كان قد حدد في محاضرة أمام الغرفة الأمريكية بالقاهرة منذ نحو شهرين عوامل انهيار الدول أو اسوأ ما تفعله ( أغبى الإجراءات بتعبيره )، وقد طلبت منه بعد ان سافر النص الكامل للمحاضرة فبعث به الى، ومنه اعيد نشر تلك العوامل وتعليق عليها : - حل مشكلات البطالة من خلال التوسع في التعيينات الحكومية.

- ان تكون مرتبات الجهاز الإداري أقل من مثيلتها في القطاع الخاص بما يحد من كفاءته.

- معالجة عجز الموازنة بالتوقف عن الاستثمار في مشروعات البينة الأساسية مثل الطرق.

- استمرار سياسات دعم الطاقة والتي يكون لها تكلفة غير مباشرة على الانفاق على الصحة والتعليم .

- التسعير الجبري والإداري للسلع، للسيطرة على الغلاء والتضخم وليس علاج أسبابها ، كل التجارب فشلت وخلقت معها سوقا سوداء حتى التي لجأت الى استعمال القوة والشرطة لتنفيذ هذه السياسات.

- الحماية الممتدة لبعض قطاعات دون توقف أو دون وضع مخطط زمني للتخلص منها أو دراسة اثارها .

-  منع الصادرات او الحد منها، ويشير محيي الدين هنا الى ان مشكلة مصر ليست في ارتفاع فاتورة الواردات، بقدر ما هي عدم قدرتنا حتى الآن على تحديد نوعيه الصادرات التي تحقق طفرة في ارقامنا.

- تحديد أسعار الصرف وعدم اتباع سياسات مرنة للعملة، ويشير محيي الدين الى أن مصر اتبعت هذا النظام لفترات طويلة، الآن حدث تحرير لسعر الصرف ويجب معه ان يكون لدى الدولة سياسة مالية ونقدية للتعامل مع مشكلات الغلاء وليس مكافحة التضخم فقط .

- انتشار العشوائيات ومقاومة الاتجاه نحو التمدن، وتجاهل التنمية العمرانية السليمة.

-  تجاهل القواعد البيئية خاصة ان المؤشرات الدولية تشير الى ان 74% من خسائر الكوارث العالمية بسبب الاضطرابات المناخية.

- ضعف الرقابة على القطاع المصرفي والمالى.

-  تحويل التعليم الى مجرد احصائيات عن زيادة اعداد التلاميذ او اعداد المدارس والفصول دون الاهتمام بالجودة.

محيي الدين كان قد أكد في محاضرته أمام الغرفة الأمريكية للتجارة  ، ان عوامل التحضر والتقدم الأساسية ثلاث، أولا ،الاستثمار في البشر بالتركيز على مجالات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي ، وثانيا، تحقيق بنية أسياسية ونمو اقتصادي قوي ، ثالثا ، القدرة على التمكين من خلال الاعتماد على التكنولوجيات المتطورة والمعلومات.

واقعيا فقد سارت مصر - ويسير غيرها من الدول العربية الشقيقة او ظل يسير - لوقت طويل على روشتة الفشل وفي مقدمتها التعيينات الحكومية كباب للتعامل مع البطالة وهي الممارسة الممتدة منذ نحو خمسين عاما ولم يبدأ تقييدها نسبيا الا منذ عشر سنوات وتقييدها بشكل منظم منذ عامين فقط . دفعنا وندفع ثمنها، بعد ان تضخمت موازنة الأجور، وقبل ثورة يناير كانت التعيينات إحدى أدوات فوز الوزراء والنواب في الانتخابات التشريعية، وبعد الثورة استفحلت الظاهرة،في ظل تزايد الضغوط الشعبية وضعف الحكومة ، وتعيين كل من يهدد أو يتظاهر أو يتجمع مع عشرات أمام هذه الوزارة أو تلك ، ونتج عن ذلك تشوه رهيب في الهيكل الحكومي وترهل مؤسف في الجهاز الإدارى وانتشار للفساد والمحسوبية والتكلس والإهمال، أما حاليا فقد قامت الحكومة بوقف التعيينات ، ووضعت خططا لخفض إعداد الجهاز الإداري للدولة، تسير ببطء لكن يبدو انه يوجد قدر من التصميم هذه المرة مع اشتراط الحفاظ على حيوية الجهاز الإداري والتناسب بين أجيال العاملين وخبراتهم وإدخال شباب جدد  اليه وفق معايير احترافية وبأشكال مختلفة من العقود . وفي تقديري ان إصلاح الجهاز الحكومي ليعمل بكفاءة وعقلانية ويكون خادما للوطن والمواطن ... وخاضعا لمستوى غير عادي من المساءلة،فان هذا العامل وحده كفيل بالتصدي لبقية عناصر روشتة الفشل التي اشرت اليها او اشار اليها محيى الدين بمعنى اصح . وبنفس القدر من الاهمية  فان السياسة التي اتبعتها مصر مع ملفي التعليم والصحة  كانت هي الأخرى - بحكم تخلف الجهاز الحكومي وعوامل أخرى - نموذج للسير المحكم على طريق الفشل، حيث التركيز على الكمي لا النوعي، بل وفشلت في الكم نفسه ، وهذا الأمر يحتاج الى رؤية وإرادة قوية وموارد، وقد تكون الإرادة متوفرة ، وينتظر المجتمع من وزير التعليم تحقيق وعده بنقله عام 2018، الأمر نفسه بالنسبة لملفات البحث العلمي والصحة .

التقدم ليس كيمياء سرية يملك مفاتيحها كهنة غامضون ولكنه إرادة ووعي وسياسات وخطط عمل . جرب الكثيرون ونجحوا فلم لا نفعلها ؟.