1232096
1232096
المنوعات

في رحيل «بريشت لبنان» جلال خوري

27 يناير 2018
27 يناير 2018

د. وطفاء حمادي -

من الواقع السياسيّ والاجتماعيّ اللّبنانيّ وَضَع جلال خوري(الذي غيَّبه الموت يوم 2 ديسمبر الفائت)، مع مسرحيّين لبنانيّين آخرين: أنطوان ولطيفة ملتقى، وريمون جبارة، ومنير أبو دبس، ونضال الأشقر، وروجيه عسّاف، مفهوم المسرح السياسيّ الاجتماعيّ في لبنان، في سياقٍ تاريخيّ، اتّسمت فيه مرحلة الستينيّات بالنضال المطلبيّ للقضايا الاجتماعيّة، وببروز الحركات التحرّرية التي كانت تدعو إلى الديمقراطيّة وحرّية التعبير، وبانتعاش الأجواء الثقافيّة والفكريّة التي مهَّدت لانتشار الاتّجاهات والتيّارات المسرحيّة الحديثة والحداثيّة: كالواقعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والمَلحميّة (البريشتيّة) والسرياليّة، واتجاه العبث واللّامعقول.

أسهمت هذه المرحلة، الغنيّة بمُعطياتها كلّها، في تأسيس وانطلاق حركة مسرحية لبنانية مُبدعة عرفت الحداثة مع الشعر والأدب بظهور مجلّة « شعر»، وفي تكوين المُخرِج والكاتِب المسرحيّ اللّبناني جلال خوري، فكرياً وفنّياً وسياسياً، حيث ذهب يبحث عن لغة خاصّة تمكّنه من توليد علاقة تتفاعل مع الجمهور، بعد تعرّفه إلى التيّارات والمذاهب الفنّية المسرحية لانتقاء منها ما يُمكن أن يوظّفه للتعبير عن معطيات هذه المرحلة السياسية والاجتماعية؛ وبعد تفاعله مع مُعطيات مرحلة الستينيّات الثقافية والفكرية والسياسية كلّها، وقع خياره على الاتّجاه البريشتي الملحمي في المسرح.

كتب جلال خوري في جريدة «لوريان لو جور» المقالة الصحفية النقدية الفنّية التي مهَّدت لظهوره ككاتِب مسرحي، وفي هذا الصدد يقول خوري» كان قلمي حادّاً، ومن هنا بدأتُ أتعلّم اللّغة المنطقية المُتماسكة التي ستظهر في ما بعد في المسرح. ومنذ مُمارستي الصحفية ظهرت قدرتي على تركيب الحوار واللّهجة». كَتَب نصوصه باللّغتَين العربية والفرنسية. وحفَّزته بيئته التي نشأ فيها على إتقان تصميم الثوب، والإمساك بتقنية الرسم متأثّراً بأبيه « كان أبي رسّاماً فَتَح ذهني على عالَم التصوير وتثقَّفت عيناي وتأمّلتُ طويلاً في بناء اللّوحة والمشهد»(بحسب خالدة السعيد، الحركة المسرحية في لبنان). ثمّ وظَّف جلال خوري هذه المواهب كلّها بعد صقلها، فنفَّذها واستلّ جماليّاتها من متخيّله المُستوحى من تصاميم الثوب، لينسج منها خيوط نصّه المسرحي، وليصوغ منها رؤيته الإخراجية.

جلال خوري هو من المسرحيّين الذين لم يقتصر همّهم السياسي على القضيّة المحلّية، بل غالباً ما امتدّ هذا الهمّ ليشمل هموم السياسة العربية. وبفكرٍ اشتراكيّ عِلميّ، عبَّر جلال خوري عن الواقع السياسي الذي تعيشه البلدان العربية ولا تزال، وهو واقع الصراع العربي- الإسرائيلي، ولاسيّما في مرحلة ما بعد النكسة أو الهزيمة التي مني بها العرب في صراعهم مع الكيان الإسرائيلي. فتناول خوري قضيّة فلسطين بعدما كَتب سعد الله ونوس مسرحيّته «حفلة سمر من أجل 5 يونيو» في العام 1967، وعبَّر فيها عن انهزام الأنظمة العربية، وابتلاء الشعب العربي بها. غير أنّ هذه المسرحية لم تتّخذ موقفاً نقدياً وغاضباً نتيجة هذه الهزيمة فحسب، بل اعتُبرت منعطفاً تاريخياً لظهور الحداثة في المسرح العربي، وأثارت مُساءلة حول أيّ اتجاه يُمكن للمسرح من خلاله أن يكون فضاءً للتعبير الفنّي والفكري، وللتعبير عن التغيّرات السياسية والفكرية التي يعيشها المسرح العربي بعد هذه الهزيمة؟

في هذه البيئة العربية المنهزمة والغاضبة، أراد جلال خوري أن يعبِّر عن موقفه من القضيّة الفلسطينية ورؤيته الفكرية لها ووضْعها في إطارها الرمزي، فجمع وثائقه وكتَب مسرحيّته باللّغة الفرنسية يومها، وترجمها له المُخرج والكاتِب المسرحي اللّبناني ريمون جبارة، فقُدِّمت باللّهجة المَحكيّة في عام 1968، وحَملت اسم «وايزمانو بن غوري»، لتعبِّر عن قيام دولة إسرائيل.

على الصعيد السياسي المحلّي كَتب خوري مسرحيّته «جحا في القرى الأماميّة» التي قدّمها في العام 1971 ولقيت صدى كبيراً، استوحى خلالها شخصيّة تُراثية معروفة ليقدِّم الأساليب التي كان ينتهجها «المكتب الثاني»، جهاز الاستخبارات الشهير في لبنان يومها، لسوق الناس وإخضاعهم للتحقيقات.

اقتبس خوري نصّ «سوق الفعالة»عن مسرحيّة «السيّد بونتيلا وخادمه ماتي» لبريشت. وكان بريشت قد اقتبسها من إحدى القصص. تصوِّر هذه المسرحية، وبأسلوبٍ كوميدي، تحكّم الإقطاعي بمصير الناس وفقا لمزاجه المرهونة طيبته بحالة السكر، وقسوته ووعيه لمصالحه الخاصة بحالة اليقظة والصحوة.

وكذلك عبَّرت مسرحيّته «الرفيق سجعان» التي كتبها في العام 1974، عن الصراع القائم بين المكّون العائلي والمكوِّن الحزبي السياسي. واستخدم فيها جلال خوري « التحليل النفسي والاجتماعي، فنقَدَ ونَبَشَ في الطبقات التحتيّة لتشكّلات الحياة الاجتماعية اللّبنانية»(سوسن الأبطح، جريدة الشرق الأوسط ،4 /‏ 12/‏ 2017). وتحيلنا فكرة هذه المسرحية إلى مسرحية «الأيدي القذرة Les mains sales» التي كتبها جان بول سارتر، موجِّها موقفه النقدي من الالتزام الحزبي، وكان نقده لاذعاً، نتيجة المعاناة التي عاشها داخل التنظيم الحزبي.

وفي مسرحية «جحا في القرى الأمامية» استلهَم خوري من هذه الشخصية الشعبية، سمة السذاجة التي تبدو صارخة لدى مواجهة جحا للإسرائيلي. أمّا حيّز الحدث(الحدود الجنوبية في لبنان)، فكان» الحيّز السياسي والعسكري والتجاري الذي يستعرض كلّ ما يقوم من مُمارسات مُلتبسة على الحدود الجنوبية ورموز الإقطاع و تزوير رُخص الزراعة»(خالدة السعيد، المرجع السابق ذكره).

كما عالَج خوري الواقع الاجتماعي في مسرحيّة « قبضاي» التي استغلّها على المستويات اللّغوية والجمالية والنفسية والاجتماعية فيما توارى البُعد السياسي وراء خلفيّات المسرحية. أمّا مسرحيّته «خدني بحِلمك يا مستر فرويد»، فهي تعبِّر عن قضايا صراعية سياسية واجتماعية وإنسانية ونفسية عدّة.

نتساءل مع خالدة السعيد عمّا قاله جلال خوري حول الجملة والمنطق وبناء الدَّور، ألا تبدو المسافة ضيّقة بين المؤلِّف والمخرج، حتّى أنّها تصل إلى حدّ التداخل؟ ويبدو من ثمّ أنه ملزَم كمُخرج أن يكتب نصوصه بنفسه؟

يعطي جلال خوري الأولويّة للنصّ في العمليّة الإخراجية، ومن هذا المُنطلق ركَّز على الكلمة، وخصَّ الشخصيّة بالحوار الذي يتلاءم مع موقعها ومع دَورها، وتخلّى في بناء الشخصيّة عن الشخصية النمط stéréotype، فبنى شخصيّات متفرّدة ببُعدها النفسي العميق وبخصوصيّة سلوكها الذي يعتمد الكوميديا الساخرة المغلَّفة برؤية سياسية اجتماعية في الغالب، فجاء أداء الممثّلين مُستنداً إلى «المنطق /‏ الركيزة التي بنى عليها اللّهجة والموقف، بحيث يبدأ تدريب الممثّل من دون إلغاء الإحساس. ويقول جلال خوري في نسق الأداء (كما ورَد في كِتاب خالدة السعيد): « القفشة الناجحة يحكمها أو يبكّلها المنطق ويحزمها، بينما الأداء هو الذي يعطيها وقْعها المفاجئ والمُضحك».

وقد اعتبر جلال خوري أنّ ثمّة أهمّية في اختيار ممثّل متمرّد لا ينصاع لإرشادات المُخرج وتوجيهاته، لأنّ الانصياع بالنسبة إليه لا يخلق مُبدعاً: « لا أخفي إنّني أرتاح مع الممثّلين الرافضين الذين يُقاومونني» «(مِن كِتاب خالدة السعيد ). ونعزو ذلك إلى أنّ تمرّد الممثِّل وعدم انصياعه للمخرج يعمل على إشغال المتخيّل لديه، ليتمكّن من تجسيد دَوره، ومن إضافة ما يراه مُلائِماً للتعبير عن دَوره.

كما يشدِّد خوري على عدم إشغال المُمثل ولا المتلقّي بأدوات سينوغرافية مكثّفة، لأنّها ستُلهي كلّاً منهما عن الدخول في فضاءات الرؤية الفكرية للعرض والنصّ وجماليّاته ومنطقه الفنّي الداخلي. ويذكِّرنا هذا التشديد بما كان قد دعا إليه أرسطو، عندما أشار إلى التركيز على النصّ والفعل المسرحي (الأداء) من دون إعطاء الأولويّة للأكسسوار وأساليب الإخراج؛ الأمر الذي يدعو الممثّل للتغلْغُل إلى داخل الشخصية، سالكاً تدريبات الجسد، بدءاً من الأداء الخارجي وحتّى بلوغ حدّ الدخول إلى جوّانية الشخصية.

آمن مُخرِجنا الراحل، تبعاً للأسلوب البريشتي، بإعطاء حَيّز للأدوار الثانوية، وبخاصّة الدَّور الأوّل الصعب المزدوج. واعتمد أسلوب الورشة، بحيث استنهَض خبايا التمثيل في نفوس المؤدّين واستعان بناسٍ من مختلف الخلفيّات الثقافية والفكرية والسياسية، وبخاصّة اليسارية منها، مُستلهماً ذكاء شخصية جحا وغباءه ليهرب من إغراءات القائد المغولي ومكائده.

عالَج جلال خوري موضوعاته من خلال المسرح السياسي، متّبعاً أسلوب التغريب البريشتي الذي يستثير فِكر المشاهد، والذي يضع مسافة بين المؤدّي والمُشاهِد، وبين المؤدّي والدَّور الذي يجسّده، بهدف عدم استثارة الذاكرة الانفعالية لدى المشاهد، وإتاحة المجال له لتشغيل فكره، وذلك بهدف إزاحته من موقع المتلقّي الساكِن المُستلَب إلى موقع المتلقّي المُتفاعل الذي يُمكن أن يؤدّي تفاعله هذا إلى التفكير بالتغيير. وحسب منير أبو دبس «هو أسلوب الإظهار وليس الاستهلاك، والبقاء من الحدث على مسافة، من أجل إبقاء الحدث مستقلّاً عن الشخصية الفردية للممثّل. ومن إيجاد المسافة على المسرح بين الحادث اليومي والممثِّل الذي يؤدّي دَوره في الحادث، تنشأ المُفاجأة . ويصبح اليومي مرئيّاً بفضل غرابته حتّى يصير قابلاً للتغيير»(جريدة لسان الحال 17/‏12/‏ 1968، عن خالدة السعيد). لقد استخدَم جلال خوري تقنيّة البناء المسرحي المَلحمي التي وضعها بريشت لكي يظلّ المُشاهد /‏ المتلقّي على مسافة من الحدث، وليعمل عقله وفكره، علّه يبلغ مرحلة التفكير بالتغيير.

هكذا جاء جلال خوري إلى المسرح من التجربة ومن التأليف ومن الإخراج، من ضمن السياق البريشتي الواقعي الاجتماعي، شرط أن يتوارى السياسي خلف الواقعي.

أكاديميّة وباحثة في المسرح - لبنان