1225618
1225618
المنوعات

القدس .. حتّى لا يكون التضامن معها سحابة عابرة

19 يناير 2018
19 يناير 2018

أحمد جابر -

تأخرت الدول العربية عن نجدة القدس، وتخلفت المجموعة الإسلامية عن المبادرة إلى تقديم العون لها. عمر التأخر والتخلي من عمر النكبة الفلسطينية التي هي نكبة عربية شاملة من منظور قومي عربي، وهي في الوقت ذاته صفعة لكل الأنظمة الإسلامية الرسمية التي ما زالت ترى في مدينة القدس الفلسطينية أولى القبلتين.

لنسقط سلفا عنصر الفجاءة عن الفعل الاقتلاعي والاستيطاني في فلسطين، ولنستبعد عنصر المباغتة عن الخطوة السياسية التي أعلنها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، فما دار فوق التراب الفلسطيني وحول عاصمة الفلسطينيين قديم، وكان جليا وواضحا للعيان، وما دار في الأروقة الدولية، وعلى امتداد الجغرافيا الدولية، كان هو الآخر ظاهر الخطوط العريضة والرفيعة والدقيقة، وكان بين القسمات.

في الداخل كان المشروع الإسرائيلي، وفي الخارج كان الغرب عموما، وفي صفوفه الأمامية القوة الأمريكية ودبلوماسية البيت الأبيض، ومنطق التفوق والتعالي الذي قاد نظرة الولايات المتحدة الأمريكية حيال «العالم الثالث» الذي تقع في قلبه كل البلدان العربية.

العرض السريع أعلاه ليس تأريخيا، بل هو قول ماض وراهن، معروف بالأمس، ومعروف اليوم، ومعه بات مألوفا نمط الردود الإسلامية والعربية التي سلكت منحى تراجعيا على الصعيد العملي، ولم تفقد الكثير من زخمها على الصعيد اللفظي التعبوي ذي النبرة العالية.

معاينة ردود الفعل على الخطوة السياسية الأمريكية التي قضت بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل تقدم الصورة الحالية التي صار إليها مجمل الوضع الأمريكي، أي أنها تقدم السياق العام الذي جعل الخطوة السياسية الأخيرة خطوة ممكنة من قبل الإدارة الأمريكية. لقد انتقلت السياسات الأمريكية إلى منطق التخفف من التدخل المباشر الكثيف في النزاعات الخارجية مع إدارة الرئيس السابق أوباما، وجرى الاحتفاظ بمنطق السيطرة من «فوق»، والإمساك بإدارة الصراعات من خلال سلوك التدخل المقنن المحدد والضروري، والسماح بناء على ذلك لمتدخلين آخرين بالقيام بالمهمات غير الإنسانية التي تريد السياسة الأمريكية اجتنابها. ورث دونالد ترامب سياسة سلفه، وأكمل في سياسة دعاها «العرب» سياسة التخلي، وقطف خصوم العرب من هذه السياسة عناقيد نفوذ، مثلما قطف عدوهم، عنب الاستيطان وتغيير البنية الديموغرافية، وفرض أمر واقع جديد في فلسطين.

تلخيصا جاء إعلان دونالد ترامب في سياق التدمير الذي أصاب كل عناصر القوة العربية، وفي سياق انفراط عقد التضامن العربي بانفراط سياساته وبعض كياناته، وعندما صار «الحليف الأمريكي» داعما وحيدا للحلفاء الذين ما كانوا في حسابات المخطط الأمريكي حلفاء.

إن العرب في فلسطين ليسوا واحدا، بل هم عربان وثلاثة وأربعة، والإسلام السياسي الذي يتحرك مناسباتيا ليس إسلاما واحدا في فلسطين، بل هو اسلام لدول كثيرة، غير متجانسة في السياسات، وغير متقاربة في التوجهات، ويضمر «إسلام» بعضها الشر «لإسلام» الآخر، ولا يتوانى عن مناصبته الخصومة والعداء.

في إزاء ذلك، يكون لفلسطين النصيب الأول من نتائج عدم استقامة الأوضاع في ديار العرب وفي ديار المسلمين؛ ولعل السنوات الأخيرة، خاصة سنوات ما توهم البعض أنه ربيع عربي، تقدم الدليل الأبرز على أن هموم فلسطين والاهتمام بها، كانت مقصية إلى السطر الأخير من جداول الأعمال العربية والإسلامية، وأنها كانت ملغاة لدى كثيرين من أبناء العالم العربي والإسلامي إلغاء جوهريا، وحاضرة في مواسم المزايدة اللفظية فقط.

يبقى السياق الفلسطيني الذي ما زال وحيدا منذ عقود، وفي هذا المضمار لا بد من الإشارة التي لا تخطئها عين، إلى الاستعداد النضالي العالي للشعب الفلسطيني، وإلى قدرته على التضحية والعطاء، على الرغم من كل ما أشير إليه من أوضاع موضوعية معاندة.

وكي يظل الكلام على الجادة، يجب القول: إن شعارات القومية العربية كلها ما زالت شعارات فلسطينية، لأن الفلسطيني يجد فيها ملاذا مستقبليا آمنا، ويرى فيها وسائل لتعزيز صموده، ولرفد معركته، ولحشد الطاقات من أجل انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة. الوحدة العربية، والتحرر والتحرير والتقدم، شعارات قومية لا يتركها الفلسطيني، لأن في تركها تركا لمصيره، ويعلم الفلسطيني أن الجزء الأهم من معاناته، هو في مغادرة «أبناء القومية» لميادين مهماتهم ومسؤولياتهم القومية.

اليوم، بادر البعض فدعا إلى عدم تعليم الفلسطينيين نضاليا، وإلى إعطائهم الحرية في تقرير الخطوات السياسية التي يرونها مناسبة. كذلك بادر بعض آخر، فدعا إلى الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وندد بأشد العبارات بالخطوة السياسية الأمريكية، ولكن أيا من الداعمين لم ينتبه إلى تقديم اقتراحات حول سبل الدعم اللازمة لفلسطين، وأيا من أولئك لم ينتبه إلى أنه لا يجوز اختصار العالم بالكلمة الأمريكية، مثلما لا يجوز التسليم المتأخر، ومن موقع الأسف، بأن الراعي الأمريكي لعملية السلام، لم يكن راعيا نزيها.

لعل من الخطوات التي لا بديل عنها في معرض الدفاع عن القدس المبادرة إلى الاعتراف الإسلامي والعربي باستقلالية السلطة الفلسطينية في اقتراح سياساتها وإدارتها، اعترافا عمليا وليس لفظيا، كذلك المبادرة إلى وقف التدخلات المستمرة في الداخل الفلسطيني، والدعوة الفورية إلى إنهاء حال الانقسام الذي عصف بغزة، فأصاب كل الجسم الفلسطيني، ومع المبادرتين إعلان الاستعداد لتقديم كل الدعم المالي والسياسي والمعنوي والمادي للفلسطينيين، داخل الأرض المحتلة وفي العواصم العالمية. هذا فلسطينيا، وأما عربيا فيجب إطلاق نداء وقف الحروب الأهلية الداخلية، والمسارعة إلى إطفاء نيرانها، إذ ليس بالاستمرار بالفتك بالنسيج الاجتماعي العربي وبعناصر القوة العربية، وبالنزاعات المنفلتة على غاربها، يجري دعم فلسطين، أو إعداد «ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل...».

لتكن القدس قبلة المسلمين إذا ما كان أولئك فلسطينيي الهوى والسياسة، ولتظل القدس قبلة العرب، إذا عملوا على أساس نسبهم العربي الأصيل ... وإلا فالخشية من أن تكون الغضبة «القدسية» سحابة تضامن عابرة ... ثم تكمل قافلة الاحتلال مسيرتها الهادئة.

*كاتب من لبنان