المنوعات

أحمد الخميسي لـ «عمان»: المستقبل للقصة القصيرة الترجمة العربية اليوم هزيلة وما نترجمه لا يبلغ ربع ما تقدمه إسبانيا

13 يناير 2018
13 يناير 2018

د. أحمد الخميسي[/caption]

شهادة ميلاده الأدبية وقعها يوسف إدريس -

في أدبنا العربي الكثير مما يتفوق على إنجازات الفائزين بنوبل -

حوار: الشربيني عاشور -

بدأ القاص والمترجم المصري الدكتور أحمد الخميسي حياته الأدبية بشهادة ميلاد أدبية موقعة من أحد عمالقة القصة القصيرة في العالم العربي هو «يوسف إدريس» الذي كتب في مجلة «الكاتب» المصرية في ديسمبر من عام 1966 قائلا: « يقدم أحمد الخميسي نموذجا آخر من « القصة الجديدة» أما عن الكاتب فهنا المشكلة والمعجزة، أحمد يكتب قصة من النوع الجديد... ضعوا القصة فيما شئتم من خانات، أنا شخصيا أضعها في الخانة الجيدة جدا ».

كان الخميسي في الثامنة عشرة من عمره عندما قدمه يوسف إدريس بهذه الشهادة، لينطلق بعدها في رحلة ممتدة من الإبداع فيصدر عام 1967 مجموعة قصصية مشتركة بعنوان « الأحلام، الطيور، الكرنفال» وفي عام 2004 يصدر مجموعته « قطعة ليل» ثم مجموعة « كناري» عام 2010، وتليها مجموعة « رأس الديك الأحمر» عام 2012. ثم مجموعة « أنا وأنت» في عام 2015.

لم يقتصر النشاط الإبداعي للدكتور أحمد الخميسي على كتابة القصة القصيرة فقد كتب مسرحية بعنوان«الجبل» كما كتب الحوار لفيلمين سينمائيين هما « عائلات محترمة» و« زهرة البنفسج» بالإضافة إلى نشاطه في الترجمة عن اللغة الروسية حيث ترجم «معجم المصطلحات الأدبية»، ومجموعتين قصصيتين الأولى بعنوان«وكان بكاؤك في الحلم مريرا» والثانية بعنوان« لقاء عابر»وعدد من الدراسات من بينها«موسكو تعرف الدموع» و« الصعود إلى الجبال الشيشانية » و«نساء الكرملين» وغيرها.

والدكتور الخميسي من مواليد القاهرة عام 1948 وحصل على الدكتوراة في الأدب الروسي من جامعة موسكو عام 1992، وكرّمه اتحاد الأدباء العرب واتحاد الكتاب الروس كما حاز على جائزة « نبيل طعمة» السورية وجائزة « نجيب ساويرس» المصرية.

(عمان) التقت الدكتور الخميسي في القاهرة وأجرت معه هذا الحوار:-

• إلى أي مدى تأثرت بوالدك الكاتب والفنان الكبير عبد الرحمن الخميسي إنسانيا وإبداعيا؟

ـ معظم تأثري بوالدي كان مبعثه شخصيته وحضوره كفنان وإنسان، هو شخصيا لم يدعني قط لقراءة قصائده أو قصصه أو شيئا مما كتب، لكني تأثرت بوجوده وبفكرة أنه كاتب. أذكر أن واحدة من أوائل قصصي كانت عن صبي يقلد والده الكاتب بعد أن رآه يذرع الحجرة ذهابا وإيابا ويملي مقالاته على والدته! فتخير الصبي لنفسه طفلة من سنّه من أبناء الجيران ليقوم معها بدور الأديب الذي يملي عليها مقالاته! هكذا إلى أن يقول لها كما كان يسمع والده يكرر:« فاصلة»، فتسأله مرتبكة« ما هي الفاصلة؟»، فيسارع باتهام الطفلة بالجهل مداريا أنه هو نفسه لا يدري! نعم تأثرت بشخصية الوالد، وبحياته العاصفة التي وصفها الشاعر كامل الشناوي بأنها كانت حياة « على قمة بركان»، تقلب خلالها بين كل ألوان الفنون من شعر إلى قصة إلى مسرح إلى تأليف الموسيقى والإخراج والتمثيل السينمائي، ناهيك عن قدرته المدهشة على اكتشاف النجوم والتي قدم بفضلها سعاد حسني ويوسف إدريس وغيرهما من عمالقة الفن. وأظن أننا جميعا بدرجات متفاوتة نتأثر في طفولتنا وصبانا بشخصيات آبائنا، ووجودهم الإنساني.

• في إبداعك القصصي يتجلى حس إنساني شفاف إلى جانب لغة شعرية، وهناك التزام واضح بالقضايا الاجتماعية. كيف نفسر مفهوم الالتزام اليوم في ظل ما بعد الحداثة الأدبية؟

ـ تعرض مفهوم الالتزام في الأدب إلى تشويه كبير خاصة حينما ارتبط بعقائد أنظمة سياسة، فأصبح الكثيرون ينظرون إلى الالتزام باعتباره قيدا فكريا مفروضا على الأديب من الخارج. لكني أتذكر بهذا الصدد النقاش الذي دار بين عميد الأدب العربي طه حسين ونجيب محفوظ حين قال طه حسين لمحفوظ إن الالتزام أمر داخلي، يختاره الكاتب بمحض إرادته، فيسترشد به في عمله. في الواقع لا يوجد كاتب غير ملتزم. كل كاتب ملتزم بقضية ما، برؤية ما، بتصور ما عن العالم. تولستوي مثلا كان ملتزما بإصلاح العالم، وكان يرى في ذلك رسالته، يوسف إدريس كان ملتزما بهموم الفلاحين وفقراء المدينة، أمل دنقل الشاعر كان ملتزما بهموم أمته العربية ورموزها وأحلامها. لكل كاتب قضيته التي يلتزم بها. أما صحة تلك القضية فأمر يحكم فيه التاريخ الاجتماعي والثقافي لاحقا: أكان الكاتب على صواب أم لا. في الحد الأدنى فإن الأدباء كافة ملتزمون بطريقة ما، لأن الأدب هو مخاطبة طرف آخر هو القارئ، ولا يسعك وأنت تكتب أن تنحّي هموم ذلك الآخر من ذهنك.

• التراجع الذي يشهده فن القصة القصيرة منذ سنوات. هل تراه نتاجا لقلة المشتغلين على هذا الفن أم لتغير ذائقة جمهور القراء أم لأي شيء آخر؟

ـ من زاوية الإنجاز الفني فإن القصة القصيرة لم تتراجع. ولدينا على امتداد الساحة العربية كتاب قصة قصيرة ممتازون، لكل منهم لمعته وعمقه وقدراته الخاصة. المشكلة هي اتساع واختلاف سوق النشر، بحث أصبح الناشرون يستجيبون لطلب القراء ويفضلون الروايات، كما يفضلون الأدب الجماهيري الرائج بعناوينه المثيرة وقضاياه التي تبدو جذابة وبلغته التي تراوح بين الأدب والصحافة. معظم دور النشر عندنا تطبع كتبا ولا تنشر، أي أنها وسيط بين المؤلف والمطبعة، ولهذا فإن تلك الدور لا توجه النشر، بل تستجيب لشروط السوق، ولعنصر الربح. لكن هناك عنصرين مهمين فيما يبدو تراجعا للقصة القصيرة: أولا أن الصحف لم تعد تفرد مساحة كافية لذلك النوع الأدبي، وثانيا أن الظروف التاريخية التي تمر بها بلادنا تجعل الناس يبحثون عن إجابات شاملة لأسئلة الواقع المعقد والرواية من هذه الزاوية أقدر على تقديم إجابة إن كانت رواية فعلا وليست أدبا جماهيريا للتسلية.

• لديك تجربة في الكتابة المسرحية من خلال مسرحية « الجبل». ألا تفكر في كتابة الرواية؟

ـ عندما يكون بوسعك أن تقول لشابة تعشقها:« أنا مغرم بك»! وتصرح لها بذلك بحرارة وأنت تحدق بعينيها فإنك لن تفكر بعد ذلك في أن تشرح لها تفاصيل وتاريخ وتطور هذا الشعور! بالنسبة لي القصة القصيرة هي تصريح موجز وحار، أما الرواية فشرح وتفصيل، وأنا أجد نفسي بطبيعتي النفسية والعقلية في اللحظات القصيرة، في كلمة، في إيماءة أو ومضة، وأقرأ كل تاريخ طويل أراه من لحظة خاطفة. لهذا لا أفكر في تغيير طبيعتي وكتابة رواية، وليس في ذلك انتقاص من فن الرواية العظيم، لكن تكويني يسوقني دائما إلى نور يلمع على شظية زجاج وفيه أقرأ حياة كاملة، وهذه هي القصة القصيرة.

• لكل كاتب منابع أولى تغذّى عليها إبداعه، وأثرت في تكوينه الفني بشكل مباشر أو غير مباشر. كيف تجد تلك المنابع؟ وماذا عن تأثيرها في توجهك للكتابة القصصية؟

ـ المنبع الأول لكل كاتب في تقديري هو خاصية ذاتية تجعله يرى العالم بشكل مختلف عما يراه الآخرون. العالم كله ظل لزمن طويل يرى أن المشكلة هي الأثرياء الذين يضطهدون الفقراء، إلى أن ظهر الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف، ورأى المعضلة بشكل معكوس وقدر أن المشكلة ليست في الأثرياء بل في ضعف الفقراء واستسلامهم وانصياعهم، ومن هنا جاءت روائعه: «موت موظف»، و« المغفلة» وغيرها. كلها قصص ترى العالم معكوسا. هذا هو المنبع الأول الذي ينهل منه كل إبداع. الآلاف في مصر كانوا يمرون كل يوم أمام الخادمات الصغيرات اللواتي يحملن صاج كعك العيد ويقطعن به الشارع لتسويته في المخابز، الآلاف عبروا بالقرب من ذلك المشهد وعدوه أمرا مألوفا، هكذا خلق العالم وهكذا نراه، إلى أن جاء يوسف إدريس ورأى المشهد بشكل مختلف فكتب قصته الشهيرة « نظرة». ما عدا ذلك ساعدتني مكتبة كانت في منزلنا مؤلفة في معظمها من الروايات والقصص، أيضا كان لتشجيع والدتي دور مهم، فقد كانت أمي تعطيني خمسة قروش كلما كتبت قصة، حتى أنني بدأت بعد فترة في شخبطة أي كلام لأحصل على المكافأة، لكنها انتبهت وحذرتني:« إذا لم تكتب كما ينبغي فلن تحصل على مليم»! كان ذلك أول إنذار بالفصل أتلقاه في حياتي.

• كتبت القصة القصيرة في سن مبكرة، ستة عشر عاما تقريبا، ما يعني أنك صاحب تجربة عريضة في الكتابة. هل ترى أن ما قدمته في هذا المجال من ناحية الكم لزمن تلك التجربة؟

ـ نشرتُ حتى الآن خمس مجموعات قصصية، إذا حسبنا مجموعة أولى صدرت عام 1966 مع زميلين، ولا شك أن ذلك الإنجاز لا يتناسب مع السنوات الطويلة التي عشتها منذ أن بدأت الكتابة، لكني بعد أن بدأت في الكتابة رحت أبحث عن نفسي في مجالات أخرى فانصرفت عن القصة إلى أن اكتشفت أنها صوتي الخاص فعدت إليها باهتمام، ونلت عن مجموعتين قصصيتين جوائز أدبية مرموقة.

• هل ترى أن هناك مستقبلا للقصة القصيرة في ظل الحضور الطاغي للرواية؟

ـ نعم للقصة القصيرة كل المستقبل فنحن في زمن الإيجاز، حيث تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بتلقين الجميع الإيجاز والدقة والتخلي عن المحسّنات اللغوية في التعبير، وهذا الإيجاز من زاوية ما هو لب القصة القصيرة، أما الحضور الطاغي للرواية وكل حضور لأي نوع من الأدب فإنه يسعدني، المهم أن يكون أدبا حقا، أما أن للقصة القصيرة مستقبلا فإن لها مستقبلا أو كل المستقبل. لاحظ أن القصة القصيرة ظهرت بعد نشأة الرواية بنحو مائة عام، ولم يكن لها أن تظهر وتستمر لو أن الرواية تسد الاحتياج الذي تتكفل به القصة القصيرة.

• لديك تجربة مبكرة في كتابة الحوار السينمائي عبر فيلمي « عائلة محترمة» و « زهرة البنفسج». لماذا لم تواصل العمل في هذا الاتجاه؟

ـ كتبت حوار فيلمين، وكتبت أغنيات، ومشاهد مسرحية غنائية طويلة، وأغاني إعلانات، أما عن الأفلام فقد أدركت بعد فيلمين أن كتابة فيلم قد تستغرق منك ثلاثة أشهر، بينما يحتاج ترويج الفيلم إلى عامين تنشغل فيهما بالعلاقات الاجتماعية بحثا عن منتج أو مخرج أو نجم يستحسن المشروع. لهذا توقفت لأن مهمة الكاتب في تقديري هي الكتابة وليس ترويج عمله، وإما أن تكتب أو تتفرغ لعلاقات الكتابة.

• احتفلت أخيرا بإصدار طبعة جديدة من كتابك «أوراق روسية» الذي سعيت فيه لرسم صورة مغايرة للإنسان الروسي «المتجهم» عبر تجربة معايشة استمرت 15عاما. برأيك من المسؤول عن رسم تلك الصورة.

- المسؤول عن تكوين صورة الإنسان الروسي المتجهم عاملان: الأول أن الروسي بالفعل شخص متحفظ، لا ينفتح على الآخرين بسهولة، لكن ذلك التحفظ لا يعني أنه متجهم. العامل الثاني أن لدينا ولديهم في الخارج أيضا عادة عقلية تميل لخلق صورة نمطية لشعب ما أو موضوع ما، لأن الأريح لنا أن نقول إن كل الأفارقة يتميزون بالحرارة، وإن كل الأوروبيين يتسمون بالبرودة، وإن العرب انفعاليون، والغربيون عقليون، إلى آخره. وهذا التعميم الخاطئ أسهل من التمحيص والتدقيق. لكن الإنسان الروسي في واقع الأمر شخص محب للمرح وابن نكتة كما يقولون. وتكفي نظرة سريعة على تاريخ الأدب الروسي الحافل بالسخرية والكوميديا حتى أن مسرحية مثل« المفتش العام» لنيقولاي جوجول ظلت تنقل وتعرب عندنا وتتحول لأفلام زمنا طويلا نظرا لطابعها الكوميدي الصارخ.

• في الكتاب أيضا أشرت إلى العلاقات التاريخية بين العرب والروس، وانفتاح بعض الأدباء الروس قديما على الثقافة الإسلامية. هل ترى أن هذا الانفتاح ما يزال قائما، أم العرب لم يعد لديهم شيئا ليقدموه للعالم؟

ـ الانفتاح بين الشعوب في الأغلب الأعم مرتبط بالعلاقات السياسية والاقتصادية ثم الثقافية، لكن هذا لا يمنع وجود علاقات ثقافية قائمة على التعارف الثقافي كعلاقتنا بالثقافة اليابانية أو الصينية أو بآداب أمريكا اللاتينية، حيث تقوم العلاقة على حجم المنجز الأدبي في تلك البلدان، وتأثيره. بالنسبة لروسيا فقد تراجع الانفتاح وضعفت العلاقات معها في ظل تراجع المنح الدراسية التي كانت تؤمن لمصر كتيبة من المترجمين الأكفاء قادرين على متابعة ما يحدث أدبيا وسياسيا، لكن الانفتاح مازال قائما وإن كان بدرجة أقل. أما إن كان لدى العرب ما يقدمونه للعالم أم لا، فإن لديهم الكثير بالطبع، لكن ما لديهم لا ينجح في كسر الحواجز بسبب ضعف تأثيرهم في الساحة الدولية كقوة سياسية واقتصادية ذات شأن، لكن لدينا أدباء ومفكرون كبار يمكن تقديمهم للعالم وجديرون بأن يعرفهم العالم. ويكفي أن تلقي نظرة على أسماء وإنجازات الحائزين على جائزة نوبل في السنوات الأخيرة وأن تقارن ما قدموه بما لدينا لتدرك أن عندنا الكثير مما يتفوق على إنجازات الفائزين بنوبل.

• ترجمت العديد من القصص الروسية فضلا عن مقال لرؤية تولستوي لماهية الفن ومقال آخر لدوستوفسكي عن المسألة اليهودية. كيف ترى حركة الترجمة العربية اليوم من الأدب الروسي؟

ـ حركة الترجمة اليوم هزيلة للأسف، وهناك أرقام مدهشة حول أن ما نترجمه نحن العرب مجتمعين لا يصل إلى ربع ما تترجمه إسبانيا، أو غيرها. لكن تظل هناك حركة ترجمة، إلا أنها بالنسبة لآداب ومعارف اللغة الروسية ضعيفة أو قل ضعيفة جدا، وهذا مرتبط بتوقف البعثات العلمية المجانية التي كان الاتحاد السوفيتي يقدمها لطلاب الدول النامية فيعود عدد منهم بعد انتهاء التعليم وقد أتقنوا اللغة واطلعوا على أحدث إنجازات الأدب الروسي. الآن المترجمون الأكفاء من الروسية إلى العربية يمكن أن تحصيهم بأصابع اليد الواحدة. من ناحية أخرى فإن دور النشر الروسية التي تخصصت سابقا زمن السوفييت في ترجمة الأدب الروسي إلى العربية مثل دار « التقدم»، و« رادوجا» قد أغلقت بعد أن كفت الدولة الروسية الحديثة عن دعم تلك المؤسسات كما كفت عن دعم غيرها، ووضعت عددا ضخما من المستشرقين والمعاهد في مهب الريح.

• كيف ترى تأثير الأدب الروسي في الأدب العربي؟ ولماذا توقف هذا التأثير عند أدباء قدامى بعينهم تولستوي، ودوستوفسكي، وجوركي وتشيخوف مثلا؟

ـ في نشأتها تأثرت الأشكال الأدبية لدينا كالقصة والرواية بالأدب الروسي بقوة، ويحكي يحيى حقي أن الأدباء المصريين في عشرينات القرن الماضي كانوا مع بداية حركة النهضة الحديثة ينقسمون إلى جماعتين: أنصار موباسان الفرنسي، وأنصار تشيخوف الروسي. وكان بعض رواد القصة في قصصهم يضربون للمرأة المصرية مثالا ببطولة المرأة الروسية التي كانت تلحق بزوجها إلى منافي سيبيريا. أيضا لم يتوقف نجيب محفوظ عن الإشارة إلى تأثير رواية « الحرب والسلام» لتولستوي فيه وفي إعداده للثلاثية، ثم ظهر ذلك التأثير في مسرحية « الناس اللي تحت» عند نعمان عاشور عند مقارنتها بمسرحية « في الحضيض» لجوركي، والأمثلة كثيرة. لكن الأدب الروسي السوفييتي اللاحق على « الأدب الروسي الكلاسيكي» لم يستطع أن يؤثر في آدابنا لسبب غريب، أن الأدباء العظام اللاحقين على الكلاسيكية كانوا فعليا ممنوعين ومصادرين زمن السوفييت، فلم نتعرف على إنجازاتهم، ويكفي أن أذكر لك اسما واحدا هو « أندريه بلاتونوف» الذي قال عنه هيمنجواي « لولا بلاتونوف ما كتبت العجوز والبحر»، ثم الكاتب العظيم « ميخائيل بلجاكوف». لم يؤثر أولئك في أدبنا لأن أصواتهم لم تصل إلينا، كانوا ممنوعين داخل بلادهم، وبلغ الحظر أن بعض أعمال بلجاكوف ظلت ملقاة في خزائن اتحاد الكتاب السوفييت ربع قرن من دون أن تنشر.

• هل توافق على أن هناك معايير عابرة للأزمنة تتحدد في ضوئها الكتابة الجيدة من الرديئة، أم أن لكل زمن معاييره الخاصة التي تَجُبُ ما قبلها؟

ـ هناك معايير عابرة للأزمنة لتحديد الكتابة الجيدة، معايير أقرب إلى الثبات، وهناك معايير أخرى متحركة في إطار الثوابت. من المعايير العابرة للأزمنة ما يتصل بوظيفة الأدب، أي إدراك أن كل أدب عظيم هو محاولة اتصال بالآخرين، اتصال يتم بإعادة خلق الواقع عبر عقل وروح وخيال الكاتب، والأدب أيضا بشكل أو بآخر محاولة للتفاعل مع الواقع، وتصويره سواء من الخارج أو من الداخل، سواء بوصف الحياة أو برصد الوعي بها. من المعايير العابرة للأزمنة أن الكتابة علاقة بين ذات مفردة هي الكاتب وعالم موضوعي، وهي علاقة تفاعل، وإضافة وليست فقط تصوير ذلك العالم. هناك معيار آخر عابر للأزمنة يتصل بالطبيعة الفنية للعمل، وأقصد تقسيم الأجناس الأدبية الذي وضعه أرسطو ولم يتجاوزه الزمن إلى الآن، فقد قسمها إلى سرد (رواية وقصة وما شابه)، وشعر، ودراما (مسرح). هذا المعيار من المعايير الثابتة مهما كانت درجة التداخل بين الأنواع الأدبية. أما العوامل المتحركة فإنها تمس شكل الكتابة وما يتعلق بتطور اللغة والحياة ذاتها وارتقاء وعينا بما حولنا، على سبيل المثال قرأت من أيام جملة في رواية قديمة « جعلت فداك» ومثلها « وقع في حيص بيص»، و « أسقط في يده « وهي لغة لم يعد أحد يستخدمها. لهذا تجد أن اللغة مع ثبات ركائزها من العوامل المتحركة، الشكل الفني أيضا متحرك ويتسم بمرونة شديدة، على سبيل المثال كانت المسرحية أيام اليونان تتألف من تسعة فصول، ثم صارت خمسة، وثلاثة، والآن لدينا مسرحية من فصل واحد. اللغة والوعي والأشكال مرنة ومتحركة في ظل ثبات إدراكنا لوظيفة الأدب وتقسيم الأجناس.