الملف السياسي

البعد الاجتماعي .. من أهم ملامح وأهداف الموازنة !!

08 يناير 2018
08 يناير 2018

د. عبدالحميد الموافي -

في الوقت الذي اتخذت فيه الحكومة نهجا متدرجا وحذرا ايضا ، في التعامل مع تحديات الأوضاع الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية ، سواء من خلال حساب الإيرادات العامة ، على أساس 50 دولارا للبرميل ، فإن آفاق الاقتصاد العماني لهذا العام تظل طيبة ، سواء بحكم المشروعات الكبيرة، والمتنوعة التي يتم تنفيذها، والتي ستدخل الى حيز التشغيل هذا العام أو من خلال زيادة مشاركة القطاع الخاص في القيام بتنفيذ البرنامج الاستثماري للموازنة.

من المعروف أن الموازنة العامة للدولة، هي بمثابة البرنامج التنفيذي لخطة العمل الحكومي خلال العام ، وذلك في ضوء الإطار العام للموازنة، والعلاقة بين أبوابها وبنودها الرئيسية من جانب، وفي إطار خطة التنمية الخمسية، وهي هنا خطة التنمية الخمسية التاسعة ( 2016 - 2020 ) وموضع السنة المالية 2018 منها، فهي - أي السنة المالية الراهنة هي السنة الثالثة في خطة التنمية الخمسية التاسعة ، وهي تكتسب بذلك أهمية كبيرة، ففيها تبدأ تراكمات ونتائج عمل السنتين الاوليين في الخطة - أي سنتي 2016 و2017 في التبلور والظهور، ثم تخف ولو نسبيا بعض التحديات ، بفعل ما تم اتخاذه من إجراءات، وما يتم الاستمرار فيه من إجراءات لتوفير مناخ افضل على المستويين الافتصادي والاجتماعي ، وبما يحقق أداء اقتصاديا افضل من جانب آخر . ثم إنه ليس مصادفة على أي نحو ان يتضمن البيان الذي أصدرته وزارة المالية ، بالتنسيق مع المجلس الأعلى للتخطيط ، حول الموازنة العامة للدولة لعام 2018 ، الكثير من الإشارات ذات الدلالة ، سواء على صعيد الأهداف الأساسية الثلاثة للموازنة من ناحية ، أو على صعيد الوسائل والأساليب التي سيتم استخدامها لتحقيق تلك الأهداف من ناحية ثانية .

ولعل مما له دلالة ايضا ان التصديق السامي على الموازنة العامة للدولة وإصدارها بموجب المرسوم السلطاني السامي رقم ( 1 /‏‏‏ 2018 ) قد تم في موعده وليبدأ العمل بالموازنة منذ اليوم الأول لعام 2018 ، وذلك بعد ان مر مشروع الموازنة العامة للدولة لهذا العام بمختلف المراحل التشريعية والتنفيذية، والتي كفلت مناقشة مشروع الموازنة، المحال من مجلس الوزراء ، من جانب مجلس الشورى، وقيام معالي درويش بن اسماعيل البلوشي الوزير المسؤول عن الشؤون المالية بالرد ، على أسئلة واستفسارات أعضاء مجلس الشورى، ثم مناقشة مجلس الدولة لمشروع الموازنة ، بعد موافقة مجلس الشورى عليها وإحالتها إليه ، مقرونة بمرئياته حولها ، ثم موافقة مجلس الدولة عليها وإحالتها الى مجلس الوزراء مقرونة بمرئياته ومرئيات مجلس الشورى حولها ، وهو ما يأخذه مجلس الوزراء في اعتباره عادة، ويقوم بالرد عليه وإيضاحه لكل من مجلس الدولة ومجلس الشورى. ثم أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - مشروع الموازنة العامة للدولة ، في ضوء مشاركة الحكومة ومجلس عمان ، بجناحيه - مجلس الدولة ومجلس الشورى - في مناقشتها والموافقة عليها ، وهو ما يعني المشاركة المجتمعية فيها ، عبر المؤسسات التشريعية والتنفيذية . ويعني ذلك باختصار شديد ، كفاءة إدارية وتنظيمية والتزاما مؤسسيا وتعاونا وتنسيقا كبيرين بين مختلف مؤسسات الدولة ، برغم أية صعوبات ، أو تحديات مالية واقتصادية فرضت نفسها على الدولة ، أسوة بالدول الأخرى المنتجة والمصدرة للنفط ، والتي تعتمد على إيراداته بشكل كبير، سواء في المنطقة أو خارجها ، على مدى السنوات الثلاث الأخيرة ، أي منذ انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية بشكل حاد ، في منتصف عام 2014 ، حتى الآن .

ومن بين جوانب وملامح عديدة تضمنتها الموازنة العامة للدولة لهذا العام ، فإنه يمكن التوقف قليلا أمام البعد الاجتماعي في الموازنة ، وذلك بالإشارة باختصار شديد ، الى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

*اولا : انه ليس من المبالغة في شيء القول بأن البعد الاجتماعي ، سواء في الموازنة السنوية ، أو في خطة التنمية الخمسية ، أو في عمليات التخطيط الاقتصادي ، بجوانبها المختلفة ، هو ملمح أساسي ، ثابت ودائم ومتواصل أيضا ، ليس فقط في خطط التنمية الخمسية السابقة وحتى الخطة التاسعة ( 2016 - 2020 ) ولكن ايضا بالنسبة لاستراتيجية التنمية خلال الفترة القادمة، والمعروفة باسم ( عمان 2040 ) والتي بدأ الإعداد لها بالفعل ، وذلك استجابة للتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - وتنفيذا أيضا لأحد اهم أسس وركائز التنمية المستدامة ، التي أرساها جلالته - اعزه الله - والتي تجعل من المواطن العماني محور وهدف جهود التنمية الوطنية في كل المجالات . وعلى امتداد السنوات والعقود ، وخطط التنمية والموازنات السنوية السابقة ، اتسع البعد الاجتماعي ليشمل كل ما يتصل بحياة المواطن العماني ، وما يصب بوجه خاص في تحسين مستوى معيشته من ناحية ، ويأخذ بيد الشرائح الاجتماعية الأولى بالرعاية في المجتمع ، وخاصة الشباب بوجه عام ، والباحثين عن عمل بوجه خاص ، والمستفيدين من الضمان الاجتماعي والمرأة والفئات الأقل دخلا كذلك من ناحية ثانية ، وذلك لتحسين مستويات المعيشة بالنسبة لها ، ولتمكينها ايضا من الاستفادة من ثمار التنمية ، ومن المشاركة في تحقيقها كذلك ، خاصة من خلال المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومبادرات رواد الأعمال ، وعبر تنشيط دور القطاع الخاص في التنمية وفي الاستثمار وتنفيذ الأهداف الوطنية ، وبما يحقق في النهاية مزيدا من الترابط والتماسك والتكافل الاجتماعي بين كل فئات المجتمع والحد من الفجوات الكبيرة في الدخول، وفي المستوى الاجتماعي أيضا. وهى بالفعل أهداف يمكن وصفها بأنها عابرة للخطط والبرامج التنموية الممتدة ، عبر عقود وسنوات عديدة بالطبع ، بحكم طبيعتها الاجتماعية والاقتصادية .

جدير بالذكر ان بيان وزارة المالية حدد ثلاثة اهداف اساسية للموازنة العامة للدولة لهذا العام ، هى :

- الاول: الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي للدولة ، وبما يحقق الاستدامة المالية وتقليص المخاطر المحتملة .

- والثاني : رفع معدل النمو الاقتصادي الحقيقي ، أي بالأسعار الثابتة بنسبة لا تقل عن ( 3 % ) وهو ما يعني ضبط معدلات التضخم وزيادة معدل الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي وتعزيز التنويع الاقتصادي.

- والهدف الثالث هو : تحقيق استقرار المستوى المعيشي للمواطنين ، والعمل على تحسينها ، في ضوء الإمكانات المتاحة بالطبع .

ومع اهمية وضرورة الهدفين الاول والثاني ، ماليا واقتصاديا واستثماريا واجتماعيا كذلك ، وهو امر يتسع للكثير مما يمكن ان يقال ، فإنه يمكن التأكيد على ان نتائجهما تصب في النهاية، بشكل مباشر وغير مباشر ايضا ، في تحقيق الهدف الثالث . صحيح ان الوسائل والادوات المستخدمة في كل منهما ، تتفق بالضرورة مع طبيعة كل هدف ، ولكن الصحيح ايضا هو ان كل السياسات والإجراءات التحفيزية والاحترازية التي اتخذت، والتي سيتم اتخاذها ، وفق الظروف والتطورات المختلفة ، تنعكس في النهاية ، وبشكل محسوس ايضا على مستوى معيشة المواطن العماني، ومن ثم شعوره العملي بتحققها وأثرها الايجابي على حياته اليومية ، خاصة وانه من المعروف، ان السياسات والاجراءات والبرامج المالية لها دوما آثارها الاجتماعية ، وهو ما وضعته وتضعه حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - في اعتبارها دوما ، عند دراستها وإقرارها لأية سياسات أو إجراءات من هذا القبيل . * ثانيا : ان مما له دلالة عميقة ، خاصة فيما يتصل بالعناية بالبعد الاجتماعي ، وبالحفاظ على مستوى المعيشة للمواطن العماني ، والعمل على تحسينه قدر الإمكان ، انه بالرغم من ان انخفاض اسعار النفط واستمرار الانخفاض منذ منتصف عام 2014 حتى الآن ، يتطلب ويبرر اتخاذ إجراءات عديدة لتخفيض بعض بنود الدعم ، وللإصلاح الضريبي ، ولفرض ضريبة القيمة المضافة، ولاتخاذ اجراءات تقشفية ، وفرض ضرائب غير مباشرة بوسائل معروفة ، وهو ما لجأت اليه دول عديدة ، الا ان حكومة جلالة السلطان المعظم - ابقاه الله - حرصت على تأجيل تطبيق ضريبة القيمة المضافة هذا العام ، وبغض النظر عن الاسباب الاجرائية والتنظيمية المرتبطة بذلك، والتي اعلنتها وزارة المالية ، فإن القرار في النهاية يخفف اعباء المواطنين العمانيين ، ويعطي فرصة للاستفادة بإيجابيات يمكن ان تتحقق خلال هذا العام .

ومن جانب آخر فإن موازنة هذا العام تضمنت البدء في تنفيذ البرنامج الوطني للدعم الحكومي لتخفيف اعباء الوقود ، وذلك عبر النظام الذي بدأ تنفيذه اعتبارا من اول يناير الجاري ، والذي يستفيد منه كل المواطنين من عمر 18 عاما والذين يقل دخلهم عن ستمائة ريال عماني ويمتلكون سيارة مسجلة لدى الادارة العامة للمرور ، ومن شأن هذا النظام ، الذي تم رصد مائة مليون ريال عماني له في موازنة هذا العام ، ان يخفف من اثر تحرير سعر الوقود ، وذلك بتثبيت سعر البنزين ( اوكتين 91 ) عند سعر 180 بيسة للتر وبمقدار 200 لتر للمركبة - أي للفرد - شهريا .

وفي الوقت الذي اتخذت فيه الحكومة الاجراءات والاستعدادات اللازمة لايجاد فرص عمل لخمسة وعشرين ألفا من الباحثين عن عمل ، واستيعابهم حتى يوليو القادم ، كمرحلة اولى ، وهو ما بدأ تنفيذه بالفعل ، وفق الإجراءات المحددة . وبينما تم توفير نحو 4800 فرصة عمل حتى نهاية ديسمبر الماضي ، فإن النجاح في تدريب وتوظيف كل العدد المستهدف من الباحثين عن عمل ، ينعكس ايجابيا بالضرورة على الاقتصاد وعلى معيشة هؤلاء المواطنين واسرهم ، فضلا عن انه يدعم سياسة التعمين ، ولعل ما يزيد من اهمية ذلك انه تم تأسيس الصندوق الوطني للتدريب ، وتخصيص 62 مليون ريال عماني في الموازنة لتغطية تكاليف برامج التدريب ، مع الأخذ بالوسائل الحديثة والمعروفة عالميا في هذا المجال ، ويقوم الصندوق بتدريب 4300 متدرب ، وتم الارتباط مع مؤسسات وشركات القطاع الخاص لاستيعابهم فور انتهاء فترة التدريب ، وهو انجاز على المستويين الاقتصادي والاجتماعي .

جدير بالذكر ان القطاعات ذات الصلة المباشرة بحياة المواطنين ، خاصة قطاعات الصحة والتعليم والاسكان والرعاية الاجتماعية ، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ، خصصت موازنة هذا العام لها 3880 مليون ريال عماني.

وعلى سبيل المثال بلغت مخصصات الدعم في موازنة هذا العام 725 مليون ريال عماني وتشمل مخصصات دعم انتاج الكهرباء ودعم غاز الطبخ والقروض الإسكانية والتنموية والدعم التشغيلي للشركات الحكومية ، وبلغت مخصصات قطاع التعليم ( جارية وإنمائية ) نحو 2018 مليون ريال عماني ، ومخصصات قطاع الصحة ( جار وإنمائي ) 6.1140 مليون ريال عماني ، بزيادة 23 % عما كانت عليه العام الماضي ، وهو ما يعني ببساطة الحفاظ على مستويات الخدمات التعليمية والصحية والعمل على تحسينها ، مع استيعاب الزيادة السكانية ، وما تفرضه من اعباء . يضاف الى ذلك ان السير خطوات متتابعة على طريق تنفيذ البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي ( تنفيذ ) وتقديم أشكال متعددة لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، من شأنه ان يعكس مدى الاهتمام على مختلف المستويات ، بتعزيز البعد الاجتماعي في المجتمع من خلال بنود موازنة هذا العام وأبوابها المختلفة .

*ثالثا : انه في الوقت الذي اتخذت فيه الحكومة نهجا متدرجا وحذرا ايضا ، في التعامل مع تحديات الاوضاع الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية ، سواء من خلال حساب الإيرادات العامة ، على أساس 50 دولارا للبرميل ، فإن آفاق الاقتصاد العماني لهذا العام ، تظل طيبة ، سواء بحكم المشروعات الكبيرة ، والمتنوعة التي يتم تنفيذها ، والتي ستدخل الى حيز التشغيل هذا العام ، أو من خلال زيادة مشاركة القطاع الخاص في القيام بتنفيذ البرنامج الاستثماري للموازنة ، حيث سيساهم القطاع الخاص بنحو 60 % من البرنامج وهي نسبة مساهمة غير مسبوقة في الواقع وتبشر بالخير ، هذا فضلا عن تنشيط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ، وطرح مجموعة من الشركات الحكومية للتخصيص ، واستمرار التحسن في الإيرادات ، سواء من خلال موارد الغاز والنفط ، او التحسن في العائدات الضريبية ، وزيادة عائدات القطاعات غير النفطية ، وخاصة السياحة والثروة السمكية والصناعات التحويلية ، وهو ما يمهد الطريق لتحسن متزايد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ، والسير نحو استراتيجية ( 2040 ) بمزيد من الثقة التفاؤل في الحاضر والمستقبل ، وعلى أسس موضوعية ومدروسة جيدا .