1217642
1217642
المنوعات

يونس البوسعيدي.. كتابة الشعر أصعب من صياغة الذهب

08 يناير 2018
08 يناير 2018

«الشاعر الحقّ لا يبيع «آيس كريم» بنكهات مختلفة لكلّ قارئ»

«العمانية»: يرى الشاعر يونس البوسعيدي أن معظم الأحكام النقدية تجاه الشعر تكون «معلّبة من أفكار سابقة ناتجة عن مواقف محددة»، أو انطبعتْ عن قراءة نصّ أو نصين. ويضيف أن ما يزعج في هذا المجال أنْ يكون انطباعُ شخصٍ ما- قد يكون قارئًا حذقًا للشعر، وقد لا يكون كذلك- ناتجًا عن مشيئة هذا الشخص للنص الأدبي، أي أنّ القارئ للمتنبي مثلًا يحب نصًا ينتمي لمدرسة المتنبي، والقارئ لدرويش يريد نصًا درويشيًا، وهكذا.

ويؤكد البوسعيدي في حوار مع وكالة الأنباء العمانية أن الشاعر الحقّ لا يبيع «آيس كريم» بنكهات مختلفة لكلّ قارئ، خصوصًا إذا كان هذا الشاعر قد نذر نفسه منذ البدء ليكون صوتَه الخاص، متمنيًا أنْ يكون هو من هذا الصنف، حتى إن أخفق في تسع وتسعين مرة ونجح في مرة واحدة!.

وفي ردّه على مَن يرى أنه يمتلك من الحس المرهف والأدوات ما يمكنه من وضع بصمة على خريطة الشعر العماني، على أن يترك لنفسه فرصة أكبر للتأمل وكتابة القصيدة لدواع نفسية وفنية حقيقية، يتساءل البوسعيدي: هل قرأ صاحب هذا الرأي مجموعتي الأخيرة «رُوحُه البحر والريح»؟ مضيفًا: «هناك من يطلق أحكامًا نقدية على التجربة الشعرية من دون أن يقرأ أعمال صاحبها جميعًا، ولست معنيًّا بالبضاعة الرائجة في السوق أو رأي ذوي (الكاريزما) في الأوساط الثقافية، فأنا أعلم مقدار وكيفية فهمهم للنص الشعري، هذا في غياب حركة نقدية موضوعية عادلة ومعادلة للشعر في السلطنة توازي النص الشعري».

ويؤكد البوسعيدي أنه يتقبّل الرأي الآخر، لكنه لا يسلّم له بالمطلق؛ لأَنه يرى أنّ النص المناسباتي مثلًا «ليس خطأ»، وأنه قد لا يجيء من رغبة ضاغطة، فالتراث العربي والشعر الحديث حفظ لنا نصوصًا مناسباتية عالية الجودة، والعبرة هي بمقدرة الشاعر على البراعة، واستجلاب اللغة الشاعرة، والتجريب، والتنويع في الأدوات الفنية.

ويرى أن الكتابةَ عن الذات فقط تعبّر عن «فشل»، وهي مشحونة بالعاطفة الروحية الضاغطة أكثر من سواها. ويستعيد ما أورده أبو هلال العسكري في «كتاب الصناعتين»، بوجوب «التمرّن» في الكتابة تهيؤًا للرغبة الضاغطة. ذاهبًا إلى أن هنالك فهمًا خاطئًا للنص الشعري؛ ولاستخدامه، ولماهيته، وللغة الشعر، كما أن هناك فهمًا خاطئًا للحداثة أيضًا.

ويقول البوسعيدي ردًا على من يخشى أن يقف طغيان المظهر اللفظي، وعدم القدرة على إعطاء تصور محدد عن القصيدة موضوعًا وبناء، حائلًا بين شعره وبين القارئ والناقد، إنه لا يستطيع الموازنة بين هذا الرأي وبين قولٍ رائجٍ عن نصوصه بأنها معتّقة بالفلسفة التي يستكنهها اللاوعي، أي الفلسفة العفوية، فالفلسفة «ليست مظهرًا لفظيًا، إِلَّا لو بدتْ لهم أنها سفسطة، وهذا يعود لهم».

لكن الشاعر يقرّ بأنّـه ظلم لغته «حين تيبّستْ ذات صيف وخريف غمامات موسيقاها»، مضيفًا: «كنتُ أستدرج المعنى فاستدرجني هو.. فمحاورة القصيدة مناورة، بمعنى أنك تجد نصوصًا شِعرية كثيرة متشابهة تشابُهَ الحجارة في الوادي لأنها نسْخٌ مسخٌ من نصوص آخرين. وما حاولتُ فعله هو كتابة نصّي الخاص بي، أنا الذي أحاول ألّا أتشابه مع أحد حتى في كيفية استعمال المفردة وتدوير الصورة بل بابتكارها»، معترفًا أنّ هذا أوقعه في جفاف اللغة قليلًا، قبل أن ينتبه لهذه المسألة لاحقًا.

ويمزج البوسعيدي في قصائده، خاصة الطويلة، بين الشكل العمودي والقصيدة الحرة. بل إن إصداره المقبل يشتمل على مزج بين الشكل العمودي وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أيضًا. وهو يوضح في هذا السياق: «لا يهُمّني إِنْ كان شاعرٌ جرّب هذا قبلي أم لا، الذي يهُمّني هو المضيّ في تجربتي الشخصية، ولماذا؟ لأنني أجرّب وأحب أنْ أجرّب حتى أصل، ويكفيني شرف المحاولة».

ويقول إنّـه جرّب مبكرًا التفعيلة على البحور التي ليست على بحر ذي تفعيلة واحدة كما هو السائد في الكامل والمتقارب مثلًا، ففي مجموعته «هاجس الماء والمرايا» (2012) هناك تفعيلة على البحرَين البسيط والطويل. و«الخبرة البسيطة مع التجربة» جعلتْه يرى أنّ الشكل «خزف مقدّس»، مَن استطاع أنْ يجعله أصيص وردٍ فليفعلْ، لكن بإمكان المرء أنْ يزرع وردًا خارج ذلك الأصيص، وقد تكون الحدائق غير المنظَّمة أجمل أحيانًا. هذا إضافة إلى أن الإمعان في الدفق الشعري جعل النص يفرض على الشاعر شكله من غير اختيارٍ منه.

وحول أن «هاجس الماء والمرايا» تمثل نقلة واسعة على صعيد بناء القصيدة وموضوعها، يقول البوسعيدي: إنه لا يعرف أين تكمن هذه النقلة تحديدًا، كما إنّـه لا يفهم النقاد! ويقرّ بأن هذه المجموعة أصابته بالحيرة أكثر من سواها، «فبعضهم رجمها من أول قراءة، وآخرون رأوها نقلة واسعة»، معتقدًا أن مشكلة النقاد أنهم يريدون من الشاعر أنْ يكتب كما يشاؤون!

وبينما يلفت البوسعيدي إلى أنه - يعيش «في بحبوحة» من دون «معاناة حقيقية» تجعله منضغطًا، إلّا أن هذا لا يعني أنه يتكلّف الشعر، كما أن استقرار النفس لا يعني أن المرء ليس مهمومًا بالحياة والإنسان. فالحياة أصلًا «قلق وجوديّ»، وهي «أثقل حملًا» حين تعجز عن فعل شيء لأخيك الإنسان والحياة تؤذيه، فكيف حين تحرقه وتسحقه؟!

وبوصفه عاش أجواء القرية قبل أن يخرج منها باتجاه فضاء المدينة، كان السؤال عن أثر هذه الرحلة في تجربته، وأين يجد ذاته أكثر؟ وكيف عبّر عن ذلك شعريًا؟ يجيب البوسعيدي: «القرية زوجة، والمدينة صديقة. قد تجد من يحب هذه أكثر من تلك، وقد تجد العكس»، ويضيف: «أحب الحياة حيثما كانت وأتبعها في القرية والمدينة، وعلى مستوى كتاباتي الشِعرية تجد قريتي (الفيقين)، و(منح)، و(مسقط)، ذات حضور روحيّ وليس بدافع الواجب الكتابيّ فقط».

ويلحّ البوسعيدي في قصائده على فكرة تميّز الذات وفرادتها، وهو يربط بين هذه السمة وبين النرجسية التي ورثها الشعراء من المتنبي، واصفًا ذلك بـ«غرور الأنثى الجميلة ودلالها»، فالقصيدة غالبًا تتلبس روح أنثى، «لكن الحقيقة في إنسانية الشاعر حين تتعامل معه، فلو انغلق في نرجسيته فهو مغرور ولو لم يشعر».

ورغم أن الموت يحضر في قصائده كثيمة متكررة، إلّا أنه لا يعتقد أنه «مواجِهٌ جيّد للموت» في شِعره، مؤكدًا أنّه لا يستطيعُ للآن كتابة نص رثاء. وحول المشاكسة في قصائده يقول: «لا أعرف ماهية المشاكسة، لكن النص الشعري في الغالب بطاقةٌ شخصية للشاعر، وربما تكون هذه المشاكسة إبرة نحل».

ولأن التحدي الأبرز أمام الشاعر هو تصفية لغة القصيدة من الزوائد والهوامش اللفظية التي لا لزوم لها، يوضح البوسعيدي أنه في «العمودي» لا يزال قائمًا على محاولاته أكثر من التفعيلة، على عكس النثر. مشددًا على أن الاشتغال على النص الشعري برُوح الشعر «أصعب من صياغة الذهب».. إنه كتلحين وتوزيع موسيقى «يحتاج إلى رهافةَ حسّ أكثر من تقانة صائغ السبائك».

وحول أن مجموعته الأولى «قريبٌ كأنه الحب» (2010) بدت أقرب للقراء من «هاجس الماء والمرايا»، يوضح البوسعيدي أن هذا مردّه إلى أنّ القارئ العاشق غير ناقد ولا مفكر، و«قريب كأنها الحب» قرأها العشاق، وهي كذلك سلسة العبارة، بينما جاءت «هاجس الماء والمرايا» انعكاسًا سريعًا لـ«الربيع العربي»، وهي تخاطب مَن يتألم ويفكر لا من يتأمل، و«الشعر إذا فكّر يثقل».

ويكشف البوسعيدي أن البيئة هي التي جذبته إلى عالم الشعر، فقد نشأ وهو يُصغي لجدّه الشيخ الشرياني يترنم بالشعر في المحافل، وكان لذلك «أبّهة تغري». وفي الكتاتيب علّمه جدّه يوسف بن حميد الشّعر، وحفّظه شيئًا من بعض المعلقات، وقصائد الإمام الشافعي وعبدالرحيم البرعي، وغيرهم، وهكذا غرس بذور الشعر في وجدانه.

لكن كل هذا «بالإمكان أنْ يتلاشى» كما يقول البوسعيدي الذي صدرت له مجموعة سردية بعنوان «س. من الناس» (2015)، مضيفًا: «الشعر صار في نخاعي بناموسٍ أقوى من النشأة.. ومع ذلك، هل أصدمك لو قلتُ لك: إني لا أعرفُ هل الأفضل أني لو لم أكن شاعرًا؟»!.